يونيه أقسى الشهور

الثلاثاء، 01 يوليو 2008 08:26 ص
يونيه أقسى الشهور المؤرخ الراحل رءوف عباس
كتب كريم عبد السلام

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
افتتح الشاعر الإنجليزى الشهير ت . س. إليوت قصيدته "الأرض الخراب" ببيت يقول "أبريل أقسى الشهور"، وصارت القصيدة وبيتها الافتتاحى من علامات الشعر فى العالم كله، صارت مثلا واقتبسها الشعراء والكتاب فى أعمالهم، كما أصبح بيتها الافتتاحى دالا على شهر أبريل، حتى أصبح يوصف بالقسوة رغم اعتدال مناخه وازدهار الكائنات فيه، ويبدو أن الثقافة المصرية خالفت كل ما تراكم من صفات حول أبريل وقررت استبدال شهر يونيه به، ليصبح يونيه هو الأقسى بين الشهور بجروحه وحوادثه المفجعة، بدءا من هزيمة يونيه 1967 وحتى يونيه الأخير، الذى شهد غياب ثلاثة من رموز الثقافة المصرية، ألبير قصيرى الروائى المصرى الكاتب بالفرنسية ورءوف عباس المؤرخ الوطنى والأكاديمى البارز، وسامى خشبة الذى كان علامة من علامات الصحافة الثقافية على مدى الأربعين عاما الماضية.

المصرى
ولد ألبير قصيرى بالقاهرة 1913 وتعلم تعليما فرنسيا وأظهر ميلا مبكرا للأدب وشأن أبناء الطبقة الأرستقراطية المصرية الذين أدركتهم لعنة الفن، كان الأدب بالنسبة إليه تجربة فى معرفة مصر وخصوصاً فقراءها ومهمشيها وأحياءها الشعبية، فيما يشبه ولع الرحالة الأوربيين بالروح الأفريقية السوداء أو بالفطرة النقية للعرب والآسيويين، الذين لم تشوشهم المادية الغربية.

سافر قصيرى إلى باريس 1930 لاستكمال دراسته الجامعية وهناك ندهته النداهة الشقراء، فظل ملازما باريس لكن روحه ظلت معلقة بالسيدة زينب والجمالية والغورية، وعندما أصدر أولى رواياته "البشر الذين نسيهم الرب"، اتضح أنه مسحور بأولئك المهمشين، وأنه لن يبرأ من سحره مهما فعل لأنه ينتمى إلى أولئك المعذبين الفقراء الذين يقضون حياتهم محاصرين داخل أحلامهم البسيطة ويموتون دون تحقيقها.
بعد روايته الأولى توالت أعماله "منزل الموت الأكيد" و"شحاذون ومعتزون" و"كسالى فى الوادى الخصيب" و"العنف والفشل" و"مؤامرة على بنك"، وجميعها تدور فى المدار الذى تعلقت به روحه، حيث الفقراء والمرضى والبؤساء الذين لا يستطيعون الحياة بسلام.
ورغم أن ألبير قصيرى أكثر الكتاب المصريين الكاتبين بالفرنسية انشغالا بمصر واهتماما بها فى أعماله الأدبية، لم يحظ بالشهرة التى حازها جورج حنين أو أندريه شديد وهما من جيله وكانا يكتبان بالفرنسية أيضاً، حتى عندما قدمت المخرجة أسما البكرى روايته "شحاذون ومعتزون" فى الفيلم السينمائى "كونشرتو فى درب سعادة" بطولة صلاح السعدنى، ظل قصيرى بعيدا عن ذاكرة الناس الذين انشغل بهم طوال عمره المديد البالغ 93 عاما.

الفارس
فى مذكراته "مشيناها خطى" يورد المؤرخ الوطنى رءوف عباس موقفين ضمن مواقف عديدة توحى بمدى وطنيته وحرصه على الموضوعية، أولهما تعنت عميد كلية الآداب عبد العزيز حمودة وعدد من الأساتذة ضد تعيين إحدى المعيدات بالجامعة، لمجرد أنها قبطية وأغفلوا الشروط الخاصة بقدرتها البحثية واجتهادها، وبسبب هذه المعيدة دخل فى معركة مع العميد والأساتذة المتعنتين ملقنا إياهم، حسب قوله، درسا لم ينسوه، ومقدما لنا نحن الذين عرفناه عن بعد درسا فى الموضوعية والارتفاع عن الأمراض الاجتماعية، وأخطرها مرض الطائفية البغيض.
أما الموقف الثانى الذى يورده عباس فى مذكراته، فيتعلق بشجاعته الكبيرة وثقته فى الأسس الحقيقية التى تقوم عليها الشخصية، يعترف عباس بطفولته الفقيرة إلى حد الشقاء، وكيف نشأ يتيما معذبا من أقرب الناس إليه، فلم يتحول هذا العذاب إلى عقد نقص أو أمراض شخصية، بل تحول إلى صلابة فى النفس واستغناء بالمبادئ عن المغريات وتمسك بالثوابت الأخلاقية دون مزايدة أو ادعاء، وانعكس ذلك على جهده العلمى، فجاء وثيق الصلة بالمصلحة الوطنية، يسد الثغرات فى الدراسات التاريخية محولا إياها إلى ربط بين الماضى والحاضر من أجل المستقبل.

كانت دراساته "الحركة العمالية فى مصر والنظام الاجتماعى فى مصر فى ظل الملكيات الكبيرة والحركة العمالية فى مصر فى ضوء الوثائق البريطانية 1951-1954 وجماعة النهضة القومية والسياسة الأمريكية والعرب وجامعة القاهرة ماضيها وحاضرها"، جميعها شاهدا على اهتمامه المفرط بالشأن الوطنى وحرصه الجم على الإسهام من خلال تخصصه فى مشروع النهضة، الذى كان حلمه وحلم كل أبناء جيله، ونموذجا دالا على أن النهضة لا يقوم بها العسكريون وحدهم ولا العمال وحدهم، بل يقوم بها كل عنصر من عناصر المجتمع عندما يربط ما يقوم به بمستقبل وطنه.

المثقف
كنا نذهب إلى مقر مجلة إبداع فى عهد رئيس تحريرها عبد القادر القط ونحن شعراء صغار يملؤنا الحماس والشعور بالذات، نناطح القط ونشاكسه لموقفه من قصيدة النثر فنقابله هو، لنجده منحازا ومشجعا لنا بأبوة وتفهم المثقف المطلع على مختلف تيارات الإبداع فى العالم.
إنه المثقف والمترجم والصحفى البارز سامى خشبة، الذى تولى سلسلة مختارات فصول فجعل منها أفضل إصدار أدبى فى مصر الثمانينيات وفيها تعرفنا على أعمال إبراهيم أصلان وبدر الديب ومحمد المخزنجى وعبد الفتاح الجمل وعبد الحكيم قاسم وإدوار الخراط وغيرهم كثيرون مما يضيق المجال بذكرهم.
فى ملحق الجمعة بالأهرام حرص على مبدأ المثقف ودوره فى المجتمع، وظل لسنوات يقدم زاويته الشهيرة، التى يترجم ويشرح فيها أحدث المصطلحات الثقافية والأدبية، رغبة منه وحرصا على ربط القراء العاديين بالتوجهات الثقافية الحديثة، مثلما سعى إلى استقطاب المواهب الأدبية للنشر فى ملحق الجمعة دون النظر إلى ذيوع الأسماء وشهرتها.
وفى مشروعه الأخير "مجلة الثقافة الجديدة" فى إصدارها الثانى، حاول بقدر استطاعته أن يحقق تواصلا بين مختلف الأجيال الأدبية ومختلف التيارات الإبداعية بروح متسامحة تسعى إلى إلغاء الصراع الزائف بين الأجيال والمذاهب الأدبية، ورغم ضيق مساحة الحركة المتاحة له، لم يتوقف عن المحاولة.
إنه المثقف صاحب الدور الوطنى عندما يعمل فى موقع ثقافى.
وبعد ، ألم أقل إن يونيه وليس أبريل هو أقسى الشهور على الثقافة المصرية.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة