معصوم مرزوق

أين أنت يا فيفى؟

الأحد، 02 مايو 2010 07:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
والله كأنه كان امبارح.. " إكسلسيور" فى نصف البلد، على ناصية سينما "متر"، والليلة صيفية صافية ونسيمها عليل.. تقف الشلة – شلتنا – مثل كل ليلة، تضحك على الرائح والغادى، وتتكلم كلام مليان وكلام فاضى، ومن حين وآخر تمر صبية مليحة تشغلنا ونشاغلها، تضحك بخجل، أو تتبرم وتغضب وأحياناً تشتم، فنضحك.

كانت البنات أيامها ترتدى المينى والميكرو جيب، وتروح للكوافير وتحط مكياجا وبعض العطور، يعنى كان نصف البلد به تمثيل حقيقى للأنثى، مثل الزهور تعبر بين أشواك شلل الشباب المتراصة على نواصى دور السينما، و "مراد" رغم شكله الخواجاتى فلاح من المنصورة، خجول مثل البنات، ولكنه مثقف يصدع رأسنا بقراءاته، يتحدث حيناً عن كارل ماركس، وأحياناً عن نيتشه، دون أن ينسى حكايات الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، وكان الأشرار من بيننا يريدون طرده من الشله، و"سامى شاهين" كان كبير الأشرار، ضخم الجثة، مفتول العضلات، ووجهه عريض كأنه بطيخة فى منتصفها أنفه الأفطس، طول الوقت يحكى لنا عن مشاجراته ونزواته، ويستلب عقولنا بحكاياته الحمراء حتى يقاطعه مراد مغاضباً وهو يستغفر الله ويتوعده بجهنم وبئس المصير.

كنا نتابع مذياع عم " فاروق" بائع المثلجات، أخبار عاجلة عن معارك جديدة فى حرب الاستنزاف، عبرت إحدى فرق الصاعقة وتمكنت من العودة بأسير، ثم أغانى وطنية، وعاد مراد لحديثه المفضل عن ضرورة أن نتطوع جميعاً فى الجيش ونترك جامعاتنا، بينما يسخر منه سامى:
- طب أنت حياتك زى مماتك، مالك بينا.. ما تروح لوحدك يا أخى!!

كنا نضحك عندما مرت من أمامنا، كأنها حصان ممشوق يخطو فى دلال، عيناها واسعتان حتى لا يكاد يبدو فى وجهها المستدير غيرهما، وشعرها جدائل مرسلة على كتفيها بلا نظام، ترتدى بلوزة بيضاء رخيصة، وجونلة سوداء ترتفع بعض السنتيمترات عن ركبتيها، وساقيها كأنهما مقطوعتان من رخام أسمر رقيق السطح .. شهقنا مرة واحدة، ووجدنا أنفسنا كالمجذوبين نتحرك خلفها صامتين وهى غير عابئة بنا، وعند ناصية شارع فؤاد فوجئنا بها تستدير ناحيتنا وقد ارتسمت إبتسامة ساخرة على شفتيها:
- مش عيب عليكم؟..

قالت ذلك دون أن تواصل سيرها، وكأنها تنتظر منا تفسيراً، ثم نظرت حولها وكأنها تفتش عن شيئ، وبعد ذلك زفرت تنهيدة رقيقة وهى تقول بأسف:
- شوية عيال فاضية.. عيال النكسة جاتكم خيبة!!

بهتنا هنيهة، وطأطأ مراد رأسه فى ألم واضح، حتى تجرأ سامى فقال بوقاحة:
- حد كلمك يا شاطرة!..
سارع مراد قائلاً بصوت خفيض:
- إحنا آسفين..
ثم سكت قليلاً قبل أن يستطرد دون أن ينظر إليها:
- لكن يا آنسة إحنا مالناش ذنب فى النكسة.. ما انهزمناش .. ما انهزمناش.
تأملته وكأنها تشربه بعينيها، ثم رفعت نظرتها إلى سامى قائلة بحسم:
- الشباب فى السويس هو الشباب الحق..

ولأول مرة نلاحظ ارتباك سامى، فلقد انعقد لسانه السليط، وتراجعت جرأته المعهودة، بينما عادت تتحدث مخاطبة مراد:
- يا ترى لو كنت أختك، ترضى لها الموقف ده؟
هز مراد رأسه نافياً وقد تضرجت وجنتاه بالحمرة دون أن يجرؤ على رفع رأسه، ولكن يبدو أن سامى استعاد لسانه مرة أخرى، فقد قال لها وهو يبتسم بخبث:
- أصلك حلوة.. حلوة قوى!!
وفوجئنا بها تضحك وقد استضاءت عيناها وأدمعت، فتشجع سامى وسألها :
- اسمك إيه؟
أجابت ببساطة:
- فيفى..
ثم همت للإستدارة كى تواصل سيرها، ولكن مراد قال بصوت لا يكاد يبين:
- أنا اسمى مراد...

ولم تمض دقائق أخرى حتى تعارفنا، قالت أنها تعمل بائعة فى أحد محلات قصر النيل، وحيث أنها انتهت من ورديتها فلا تمانع فى أن ندعوها على عصير ليمون وقطعة جاتوه فى إكسلسيور، وقد سرت فينا جميعاً موجة كهربائية عارمة من الحماس، ونحن نسير حولها وكأننا حفنة من الذباب تتحلق حول قطعة من الحلوى ...

عرفنا أنها مهاجرة مع أسرتها من السويس، روت لنا صعوبة ما واجهته أسرتها من التأقلم مع الحياة فى القاهرة، حيث اضطروا للسكنى فى بدروم متواضع فى الجيزة، وهم الذين تركوا فى السويس شقة كبيرة فى عمارات الإسكان، تركت الدراسة كى تساعد والدها فى تربية باقى أشقائها، ولا أنسى أبداً الدموع التى انهمرت من عينيها وهى تحكى اللحظات الأخيرة قبل مغادرة السويس.." وقفت اللوارى الضخمة تحمل الناس وما أمكن نقله من قطع الأثاث، كانت مختنقة وهى تنظر إلى بيتها يبتعد دون أن تعرف متى تعود إليه، لم تتمكن أن تودع إبن الجيران الشاب الذى ارتبطت معه بقصة حب لأن أسرته هاجرت فى اليوم السابق حين كانت قذائف العدو تقصف الزيتية، وكل ما تعرفه عنه الآن أنه يعيش فى دمياط، وكل ما تتمناه هو أن تعرف عنوانه كى ترسل له خطابات"...

ورغم أنها كانت لا تكبرنا إلا بعام أو عامين، إلا أنها كانت قوية الشخصية تبدو أكثر نضجاً منا جميعاً، تحدثنا معها عن دراستنا الجامعية، عن همومنا العاطفية، عن الحرب وشعورنا بالعجز، وكان مراد يراقبها طول الوقت صامتاً، ينصت إليها بشغف ووله، وعندما حاول سامى أن يختبرها بمد يديه إلى ركبتها من تحت المائدة، فوجئنا جميعاً وهى تصفعه بشدة، ثم تنهض ململمة نفسها فى غضب، وقبل أن تغادرنا قالت:
- أنتم فعلاً شوية عيال.. عيال النكسة جاتكم خيبة!!...

ورغم أننا ظللنا لفترة طويلة فيما بعد نقف فى نفس المكان ونحن نترقب مرورها، إلا أنها لم تعد أبداً، وقد قمنا بالطواف على كل محلات قصر النيل دون أن نجدها، وخلال ذلك كان مراد قد صار متيماً بها، يقرأ علينا أبيات شعر كتبه فيها، بينما سامى يسخر منه وهو يقسم أنه لو ألتقاها مرة أخرى فسوف يظفر بها، وذات يوم قام بتدبير مقلب معنا حيث أقنعنا مراد بأن سامى قد وجدها، وتركنا سامى يروى بأسلوبه المثير مادار بينه وبينها، بينما مراد ينظر إليه بحزن وألم عميق وهو يستحلفه أن يقول الصدق، فيقسم له سامى أنه لم يشعر بمتعة مع أى امرأة مثلما شعر معها، وهو يصف بشكل حسى كل جزء من جسدها، بينما تقاطيع وجه مراد ترتعش حتى أجهش فى البكاء ...

لقد ترك أغلب أفراد شلتنا جامعاتهم خلال هذه الفترة وانضموا إلى الجيش، وأتذكر أن مراد قال لنا حين التقينا فى إحدى الإجازات الميدانية أنه يريد مقابلة فيفى كى يثبت لها أننا " لسنا عيالاً، وبالأخص لسنا عيال النكسة "، إلا أن ذلك لم يحدث أبداً ....

وكأن تلك الليلة التى قابلناها فيها كانت بالأمس، أتذكر كل وقائعها، بل أن ملامح فيفى لا تزال طازجة فى ذاكرتى رغم مرور ما يزيد على أربعين عاماً، ذلك الوجه المصرى الصبوح الجميل الذى يمزج ما بين الرغبة فى الحياة والحزن الموروث، تلك الأنثى التى ظلت تداعب خيال مراد حتى استشهد فى اليوم الأول للعبور فى مواجهة مدينة السويس، بينما سامى الذى أصبح طياراً مقاتلاً وسقط أسيراً فى يد العدو بعد أن أصيبت طائرته فى إحدى المهام، لا يزال كلما قابلته من حين لآخر يتذكر تلك الليلة، ويضحك من قلبه وهو يعيد المرة تلو المرة ذلك المقلب السخيف الذى دبرناه لمراد.

* عضو اتحاد الكتاب المصرى









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة