د.كمال مغيث

مصر بين ثورة المطربشين وغضبة النقاب وأهله

الأحد، 28 مارس 2010 07:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مع مطلع القرن التاسع عشر لم يكن معروفا للمصريين زيا نموذجيا ينال رضاهم وإجماعهم، فقد كان للماليك قمصانهم الخفيفة تغطيها جاكيت من قماش سميك فوق بنطلون واسع من اعلى وضيق من اسفل، مما لا يعوق ركوبهم للخيل او اعمال القتال بوجه عام، كما كان للازهريين زيهم التقليدى من العمة والقميص والكاكولا، أما الفلاحون فقد كان لفقرائهم سروال قصير يغطيه قميص من الكتان بينما عرف اثريائهم الجلابيب والعبايات من الصوف والكشمير.

وعندما تولى محمد على حكم مصر شرع فى إرسال البعثات إلى أوربا تلك البعثات التى عرفت فى اوربا الجاكيت والبنطلون فاصطحبته معها عندما عادت لتعمل فى خدمة الوالى مكونة فئة الأفندية، والتى شاءت ان تتميز عن الفئات الاجتماعية الأخرى من فلاحين ومماليك وأزهريين بذلك الرداء المكون من جاكيت قصير وبنطلون ورابطة عنق معقدة وطربوش، وأصبح هذا زيا موحدا للافندية التى راحت تتسع قاعدتهم بفتح المدارس الحديثة، وقد أصبحوا أهم عناصر السكان فى القاهرة الجديدة التى أسسها الخديوى اسماعيل واصبح منهم الإداريين والوزراء ورجال الدولة وأعضاء مجالس النواب والصحفيين والمحامين وغيرهم من أصحاب الوظائف المستحدثة فى البلاد، وراح ذلك الذى أوربى الأصل يتطور تبعا لتطور المودة هناك فيقصر الجاكيت وتتحول رابطة العنق المعقدة إلى " كرافته" بسيطة أو بابيون، وأصبح لزى الأفندية هذا جاذبية خاصة حتى لدى الازهريين أو الذين الفوا الذى الأزهرى، ولدينا صور للكثير من صناع نهضتنا الوطنية، بالزى الأزهرى فى مطلع شبابهم وقد استبدلوه بالزى الأفرنجى بعد أن تقدم بهم الشباب ومنهم طه حسين وسيد درويش واحمد امين وغيرهم، وفى ثورة 1919 كان معظم القادة من اصحاب هذا الزى، أو من "المطربشين" كما كان يطلق عليهم فى ذلك الوقت، سعد زغلول، مصطفى النحاس، محمد محمود، فخرى عبد النور، ويصا واصف.. وغيرهم.

المهم أنه لم يكد العقد الثانى من القرن العشرين يستقر حتى كان هذا الزى الحديث نموذجا للحداثيين والمتعلمين، من دعاة التقدم والنهضة ومواكبة العصر بمتغيراته.

وأريد قبل أن أستمر أن أعود إلى سنة 1872، حيث سعى على باشا مبارك الى تأسيس مدرسة حديثة تجمع بين العلوم العربية والشرعية والعلوم الحديثة، كالتاريخ والجغرافيا والعلوم واللغات الاجنبية، فأسس "مدرسة دار العلوم" التىكانت تحصل على طلابها من بين الازهريين ومن هنا فقد استقر هذا الزى واصبح هو الذى التقليدى لطلاب المدرسة على مدى خمسين عاما، وبعد ثورة 1919 راح طلاب المدرسة يتململون من زيهم التقليدى ويطالبون بتغييره وارتداء الزى الافرنجى والطربوش بدلا منه، وراحت ادارة المدرسة ترفض الخروج على تقاليد الزى التى استقرت، وفى سنة 1925 – كما يقول الدكتور جابر عصفور – أعلن الطلاب رفضهم القاطع الذهاب للمدرسة إلا مرتدين الزى الحديث والطربوش وأعقبوا ذلك الرفض باعتصامهم، وهو الأمر الذى أجبر إدارة المدرسة على قبول مطالب الطلاب والسماح لهم بارتداء الطربوش والزى الحديث، وترك لمن يشاء منهم الحفاظ على الزى الأزهرى، ولم تكد تمر سنوات حتى أصبح الطربوش هو زى جميع طلاب مدرسة دار العلوم.

والأمر الذى لا شك فيه هنا أن المطربشين أو الأفندية الذين بدأوا فى الظهور منذ قرن من الزمان – وقتها – كانوا قد تقدموا الصفوف فى جميع المجالات الثقافية والسياسية والوطنية واصبحوا يمثلوا بذيهم ذاك النموذج الذى يحتذى للذين يرغبون فى التقدم وفى تقدم بلادهم فى نفس الوقت بل ان الامام حسن البنا وهو درعمى اصلا وهو مؤسس جماعة الاخوان المسلمين للدعوة الى العودة للاسلام قد اتخذ من الطربوش وزى الافندية زيا له وصار هو زى جميع مرشدى الاخوان بدءا من البنا حتى الدكتور محمد بديع المرشد الحالى.

ومع ثورة يوليو صار زى الافندية هو الزى السائد لجميع سكان المدن وموظفى الحكومة والمؤسسات الاقتصادية المختلفة، رغم اختفاء الطربوش تدريجيا مع كثير من رموز الملابس النسائية كالبيشة واليشمك والبرقع واصبح الزى الازهرى قاصرا على خريجى الازهر من خطباء المساجد والمآذين وبعض معلمى اللغة العربية.

ولكن يبدو ان دوام الحال من المحال وان التراجع الى الخلف امرا محتملا دائما، فمع هزيمة يونيو اصابت الطعنة مع ما اصابت زى الافندية وهو الزى الوحيد للمحدثين والموظفين وللبيروقراطيين والتكنوقراط من رجال الثورة وموظفيها ومع الانتقال الكبير للموظفين والمهنيين الى بلاد النفط وعودتهم راح الجلباب يظهر على استحياء ويتقدم شيئا فشيئا، حتى اصبح هو الزى الاساسى لكثير من الشيوخ الدعاة الذين احتلوا شاشات التليفزيون وساعات ارساله الطويلة فاصبحوا بما يقدمونه من منطق بسيط واسلوب جذاب نماذج تحتذى ليس فى الفكر فحسب بل فى الملبس والسلوك، كما انساح هؤلاء الدعاة فى ثنايا الريف والاحياء الشعبية فى المدن.

ومع عجز الافندية عن تقديم مشروع وطنى يجتمع الناس حوله بفعل هيمنة نظام سياسى فاسد ومستبد،اختلطت المعارضة السياسية للحركة الاسلامية للنظام السياسى برفضها للدولة والمجتمع والثقافة المصرية نفسها برموزها وشعاراتها وملابسها، ولذلك عرفت بلادنا ومؤساساتنا الزى الباكستانى الافغانى للرجال وراح الحجاب ينتشر بين النساء فى اعقاب انتشار الجلباب بين الرجال، وتبعه الخمار فالاسدال فالنقاب، كل هذا والدولة واجهزتها ومنابرها لاتحرك ساكنا ولا تر اى علاقة بين اللباس والثقافة والدولة، حتى انتهينا، فى مطلع القرن الواحد والعشرين الى ذلك المشهد من هيمنة النقاب وانتشاره وهو المشهد الذى اعادنا الى تراث القرن الثامن عشر.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة