يصادق المرض من باب العشم..

اليوم السابع فى منزل الروائى الكبير محمد ناجى

الأربعاء، 20 يناير 2010 01:42 م
اليوم السابع فى منزل الروائى الكبير محمد ناجى اليوم السابع مع الروائى محمد ناجى
كتب وجدى الكومى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ترى على كتبه مقطعا جانبيا من وجهه، ولا تستطيع من خلال هذا المقطع أن تحدد ملامحه كلها، لذلك تجد نفسك مرغما على أن تعود لتطالع هذا المقطع مرة أخرى بعد أن تنتهى من قراءته لأنها رواية للكاتب الكبير محمد ناجى.

حفظنا عنوانه الذى أملاه علينا فى التليفون، فكانت الرحلة إلى منزله، وكأنها رحلة إلى كبد موجوع يتعلق مصيره بكلمات من الحبر، على ورق جاف، وإمضاء لمسئول كبير.

جلسنا على مقاعد من الأرابيسك، تحيط بمائدة قاعدتها من النحاس، وعلى الحائط تمثال خشبى لوجه تخرج منه جدائل شعر خشبية، كان يشبه كثيرا وجه ميدوسا فى الأسطورة اليونانية، كل شىء فى بهو منزله يشير إلى مقاومة محمد ناجى المستمرة للمرض، حتى الهواء الذى يعبر إلى فضاء الصالة عبر باب البلكونة المفتوح، وتأكدنا من هذا عندما أقبل علينا مرحبا بحرارة، كأنه يعرفنا من زمن الزمن، كانت أول مرة يراه أغلبنا، وقتها تأكدنا أنه لم يختلف كثيرا عن نصف صورته المطبوعة على رواياته، ولم ينجح المرض فى أن يميت بسمته وضحكته التى تعيد تشكيل هذا الوجه كما يشاء صاحبها، غير عابئ برغبة المرض المضادة.

طوال الساعتين ظل محمد ناجى محتفظا بهذه الابتسامة، وامتد الحديث بيننا إلى الأدب والكتابة والشعر، ويومياته مع المرض، جوانب متعددة لهذا المرض ظل يحكى عنها، كأنه يحكى عن صديق، تعرف عليه منذ عشرين عاما، ولا يدرى كيف يتخلص من صداقته، فيواصل صداقته له من باب العشم، لم يكن الألم حاضرا فى كلماته، بل كان يجلس مفرود الظهر أغلب الوقت، باستثناء اللحظات التى قام بتوقيع نسخ من كتبه وأهداها لنا، حتى هذه اللحظات، كان يوقع والبسمة لا تغيب عن شفتيه، وفى تمهل يكتب لنا كلمات الإهداء على الصفحات الأولى من أعماله.
كانت الجمل تخرج من شفتيه محكمة، وهادئة، ويعلوها طبقة طازجة، مثل "وش" فنجان القهوة، كنا نتأمل هذا "الوش"، فيزداد يقيننا بأن إيمانه قوى بما يقول، حتى عندما ردد: "بلدنا ملزمة تعالجنا، سواء كنا كتابا أو صحفيين، والمشكلة ليست فى محمد ناجى، وأى قرار يعالج ناجى فقط هو قرار ناقص، لأنه يجب أن يضع آلية لعلاج الناس".

يحكى قصصا عن منظمات فرنسية بادرت بعلاج محمد السيد سعيد، وثرى سعودى تحرك لعلاج عبد الوهاب المسيرى، وقيام ثلاثة من المثقفين الإيطاليين بكتابة خطاب إلى البرلمان الإيطالى يطلبون فيه علاج خليل كلفت، ويقول : "تتجدد الأزمة فى كل مرة يقع فيها أحد الكتاب أو الصحفيين، يجب أن نحل المسألة جذريا فى أسرع وقت".

مقاومة ناجى لطرق المرض العنيف على جدران كبده، أخذت أكثر من طريقة، وأكثر من شكل، حدثنا عنه، فتخيلناه كما لو كان قائدا فى ميدان، يحيط به خصومه من كل جانب، لكنه لم يعبأ وظل يعمل فى صبر، على تدعيم أبواب قلعته، أخبرنا بحرصه على الخضروات الطازجة كوجبة أساسية، وعندما سألناه عما يقرأه، أجاب فى جزل طفولى، برقت له عيناه: "أنا بأكتب".
الكتابة عند ناجى ، مثل طفل "فرحان بلبس العيد"، وبالعيدية، أو طفلة أحضرت لها أمها عروسة لعبة، فجلست تمشطها، وتعيد تزيينها، يتحدث عما يكتبه فى حماس، ويصفها بأنها رواية سماها " يوميات الغياب" يتأمل فيها تجربة المرض، وما يسكنها من هواجس الموت، ويتذكر فيها أصدقاءه القدامى، وأحلاما كان يأملها، أوراق هذه الرواية لا تفارقه، فى صحوه، أو فى نومه، وتظل قريبة له فى سريره، وبين تقلب الصحو والمنام، يضيف خاطرة جديدة، وجمل فتانة، الكتابة هى أهم وسائل ناجى لتدعيم جدران كبده التى يطرقها المرض فى ضجة، وهى بالنسبة له دواء شافى، يتفوق على أقرانه من الأدوية والعلاجات الأخرى، وتظل الرواية هى الفضاء الأرحب له من الشعر، الذى كف عن كتابته.

وفى ختام جلستنا معه صنعنا حفل توقيع على الضيّق، فلم نرغب أن نغادر منزله قبل أن نحصل على نسخ من كتبه، ولم يرغب هو فى أن يتركنا نرحل قبل أن نحصل على جولة أخرى من الضيافة والمشروبات، قائلا " الكتب على المشاريب".






















مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة