أحمد لاشين

تجليات العذراء.. وظهور فاطمة الزهراء فى العراق

الجمعة، 25 ديسمبر 2009 07:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مجرد مصادفة زمنية جمعت بين أعياد الميلاد المسيحية، واحتفالات عاشوراء الحسين فى المذهب الشيعى، حالة إيمانية عامة تجعل القلوب ترتجف وجداً، والعقل يتوقف عن التفكير والتساؤل، لتتحول الذكرى التاريخية إلى ذاكرة حية، تنتج الماضى فى الحاضر، وتجسد الأوهام صوراً على أبراج الكنائس، وسماء كربلاء.

لن أناقش البعد الدينى أو الإيمانى فى تجلى البتول على مصر، أو ظهور فاطمة الزهراء فى العراق، فالأحكام الدينية ليست سبيلاً لنقاش الظواهر الاجتماعية، فحين يصدق مجموعة من الناس حادثة ما، خاصة الغيبى منها أو ما يعتقدون فى غيبيته، تخرج الفكرة من السياق الدينى حتى لو كان لها غطاءً دينياً، لتدخل مباشرة فى العمق الاجتماعى، ورغبة المجموعة المكبوتة نتيجة لأزمات سياسية أو اقتصادية أو حتى أخلاقية، لتستحضر كيانات مقدسة تلهمها مزيداً من الرغبة فى الحياة أو دافع للوجود، وهذا الحاصل فى مشهدى العذراء والزهراء، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار صمت الكنسية المصرية، وكذلك مراجع الشيعة الكبار فى العراق أو غيرها، فكلها مشاهدات شعبية.

فكما تطايرت حكايات التجليات المصرية للعذراء فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية، جاءت روايات ظهور السيدة فاطمة الزهراء ابنة النبى صلى الله عليه وسلم، وأم الحسين بن على فى سماء كربلاء، وهى تقف خلف فارس يركب على حصان وممسكاً بسيفه، تجسيداً للحسين، لتحصد البقية من الحالة الإيمانية على الجانب الإسلامى الشيعى تحديداً فى كل الأماكن ذات التواجد الشيعى حتى فى مصر، فكما تتجلى تلك تظهر هذه، ولا أدرى أيهم استدعت الأخرى فى الوعى الشعبى الدينى، ولكن من المؤكد أن الفكرة كامنة دائماً فى الذهنية الإيمانية وتنتظر مجرد الحافز للظهور، وكما نلاحظ أن تلك التجليات المقدسة قد وقعت فى أماكن ذات حضور تاريخى قوى، فالعذراء لم تتجلَ فى أى بلد آخر غير مصر، لارتباط مصر بالرحلة المقدسة، والطبيعة المسيحية المصرية الخاصة جداً، وكذلك ظهور الزهراء كان على أرض العراق مكان مقتل الحسين فى مذبحة كربلاء، أن للمكان حضوراً طاغياً بما يمثلة منفرداً كتأسيس أسطورى كافٍ لتلك التصورات الشعبية، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار الحالة الدينية لمتبعى الديانتين فى هذا الوقت من العام، فمع الهوس الهستيرى لطقوس عاشوراء الدموية، والإحساس الإيمانى الجارف لدى المسيحين فى العيد المجيد على مختلف الطوائف والاختلاف فى ميعاد الميلاد، لأدركنا أن المكان والزمان يشكلان تفسيراً واضحاً لذلك العالم الغيبى فى العقل الشعبى.

كما أن حكايات رؤية المسلمين للعذراء، أو السنة لفاطمة الزهراء لا ينفى ولا يثبت صحة الحدث مطلقاً، فسواء السيدة مريم أو السيدة فاطمة محملتان بسمات مقدسة فى العقل الدينى والشعبى على كلا الجانبين تتجاوز الخلافات المذهبية أو الدينية، ففى النهاية الإنسان المصرى العادى يقدس العذراء مريم والسيد المسيح، كما يجل الحسين والسيدة فاطمة، كما أنه لا خلاف مطلقاً فى العقيدة الإسلامية سنة وشيعة أو التعاطى الشعبى بينهما على شخصية الحسين، فهو ذبيح الأمة ابن بنت نبيها الذى قتل غدراً، بعيداً عن التهويمات الشيعية التى تجعله ثالث أئمة الشيعة أو تقديس مقتله فى عاشوراء بطقوس ذات جذور اجتماعية وأسطورية قديمة، تعود لما قبل الديانات الرئيسية.

السيدتان المقدستان تجسدان حالة الأمومة المقدسة على مستوى التاريخ الدينى، فمريم أم السيد المسيح، والتى تجد لها حضورها فى المجتمعات الدينية وغير الدينية، خاصة ارتباطها الوثيق فى العقلية المصرية بشخصية إيزيس وقصة الخلود، حتى قبل ظهور المسيحية والإيمان المصرى الجارف بها، وكذلك شخصية فاطمة، وهى تاريخياً أقرب بالطبع وأكثر وضوحاً، ولكنها تحولت فى العقلية الشيعية بما يرد عنها من حكايات فى التشيع إلى طابع مقدس متعالٍ، قادرة على المعجزات والتجليات، فهى معصومة ومقدسة فى المذهب الشيعية كقداسة الأئمة الإثنا عشر المستلهمة من قداسة النبوة ذاتها كما يراها التشيع، وهى أم الحسن والحسين المقتول، والتى يروى عنها أنها بكت فى الجنة عندما قتل الحسين، بل أنها فى بعض الروايات كانت حاضرة فى كربلاء، وتزور ضريح الحسين بصفة دائمة إلى الآن، واضعين فى الاعتبار كذلك المصير المتشابه بين الحسين والسيد المسيح، بل أن التشيع فى جانب منه يتعامل مع الحسين كرمز للفداء الإنسانى كما المسيح، وأن كليهما قتلا باختيارهما الكامل لإنقاذ البشرية من غضب الله بتحملهما ذنوب البشرية للنهاية، أى أن مريم وفاطمة مارستا نفس الدور المقدس فى الديانتين تماهياً من مصير الحسين والمسيح المتشابه، أى الأم المقدسة، خاصة ما ترسب من تلك المفاهيم فى العقل الشعبى الدينى للمنطقة بشكل عام.

وفى ملاحظة جديرة بالاهتمام، الصورة التى تظهر عليها السيدتان ثابتة ومتكررة على مدار تاريخ التجليات، فالسيدة العذراء دائماً ما تظهر بصورة وضاءة، كيان نورانى يتحرك فوق الكنائس، أو حمامة تتحول إلى ضياء يملأ الدنيا، والعجيب أنها تتشابه مع كل صور العذراء على جدران الكنائس والمخطوطات القبطية، ولا ندرى أهى خيال تم رسم العذراء من خلاله، ثم ترسخ فى العقل الشعبى ليظهر متجلياً فى السماء، معبر عن التصور المصرى لشكل العذراء، وهل لو ظهرت العذراء فى أى بيئة أخرى على اختلاف أشكالها المرسومة فى الخيال الدينى المسيحى فى العالم، ستحمل نفس الشكل المصرى، أم سيكون متناسب أكثر مع البيئة المنتجة، سؤال يحتاج إلى دراسة ومتابعة جادة.

وكما أن صورة السيدة فاطمة تأتى كذلك متسقة مع تصورات العقلية الشيعية فى منطقة الشرق الأوسط عن فاطمة، فهى فى ظهورها المتكرر دائماً ما تأتى على شكل سيدة ذات وجه نورانى مرتدية لملابس بيضاء أو خضراء، أو حمامة بيضاء ترفرف على قبة الضريح الحسينى لتختفى نوراً، وذات ملامح متشابه تماماً مع التصوير الشيعى لها، فكل الصور المرسومة فى أدبيات التشيع الشرقى تظهرها بنفس الشكل تقريباً، مع هالة النور المقدس ذات التاريخ الطويل والأصيل فى كل الديانات والمعتقدات القديمة والحديثة التى تجسد فى التصاوير الأثرية للشخصيات المقدسة فى الحضارات الشرقية القديمة، أى أن تجلى فاطمة والعذراء مرتبط بالكيفية الراسخة فى العقل الجمعى كما أراد تخيلها.

وتبقى نقطة واحدة غاية فى الأهمية، لمحاولة فهم تلك الظواهر خارج إطارها المرجعى الدينى، وهى الظرف التاريخى، أوالظروف التى تنتشر فيها تلك المشاهدات، فتجليات العذراء دائماً تتزامن مع الأزمات القبطية، بل والمجتمع المصرى ككل، ويكفى خير شاهد ظهورها فى 1967 على كنيسة الزيتون بعد الإحباط الجماعى فى مرحلة النكسة، أو ظهورها الثانى فى السبعينات فى تزامن مع أحداث الزاوية الحمراء، والمد الدينى السياسى للجماعات الإسلامية، وظهورها الأخير والذى يفسره حتى الأقباط أنفسهم، بأن العذراء تعترض على الأزمات الداخلية فى فرشوط، أى حالة الاحتقان الدينى اللامبرر والصادم لحياتنا الاجتماعية، أى أن تجليات العذراء تأتى كرد فعل دائم على أزمات المجتمع المصرى، وكذا ظهور فاطمة فى العراق الأن فى ظل حالة الهرج السياسى العام، والضغوط الاجتماعية التى تعانى منها العراق فى ظل الصراع السنى الشيعى، أو حتى مذابح الأقليات أو الاحتلال، بل أن هناك أنباء عن ظهورها فى إيران فى أحد الحسينيات فى ظل الأزمات السياسية الإيرانية والقمع الاجتماعى، والصراع بين كل الأطياف السياسية، خاصة أن هذا ليس ظهورها الأول فدائماً ما كانت تظهر نتيجة للضغوط الاجتماعية على مدار التاريخ، أى أن الضغط الاجتماعى يكون سبباً فى تفشى تلك الظواهر بين الناس، وإذا اعتمدنا مناهج التحليل النفسى فيما يخص العقل الجمعى أو النفسية العامة، لاستطعنا أن نفهم أن جماعة من الناس من الممكن أن تتوحد لديهم رؤية واحدة فى ظرف تاريخى واحد، إذا شكل هذا الظرف ضغطاً كافياً لتتوحد الرؤية فى لحظة ما، كنوع من أنواع الحيل الدفاعية التى يمارسها العقل الاجتماعى للخروج من حالة الأزمات النفسية التى يعانى منها المجتمع، وذلك باستحضار شخصيات ذات طابع مقدس تمثل رمزاً للخلاص الإنسان.

وفى النهاية لم أقصد مطلقاً الاستهانة أو التسفيه بعقائد راسخة فى الوجدان الدينى المسيحى أو الشيعى، ولكنى أردت أن أتعامل مع القضية بوصفها ظاهرة اجتماعية تكررت فى مجتمعاتنا العربية، ولا تختلف كثيراً عن التعامل مع شخصيات الأولياء أو الشيوخ أو القديسين فى الحياة الشعبية العربية، فالمجتمعات أحياناً ما تحتاج لتغييب العقل لصالح الخيال، لتتحمل مزيداً من أوجاع المصير.

أكاديمى وباحث فى الدراسات الشيعية والإيرانية









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة