د. بليغ حمدى

داليا رجعت يا رجالة!

السبت، 05 ديسمبر 2009 07:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لست ممن يهوون التنبؤ بأحداث المستقبل، بل إننى أمقت منذ سنوات ليست بالقليلة متابعة الأبراج وأعمدة حظك اليوم وغداً وأمس، لكننى نبهت فى مقال سابق لى على ما سوف يعانيه إخواننا وأبناؤنا المصريون بالخارج جراء عدم رد إهانة الجمهور الجزائرى للمصريين بالسودان، تلك الإهانة التى لم تشتمل على السب والشتم فحسب، بل تجاوزت لتشمل الضرب والتعدى الجسدى أيضاً.

وها إخواننا من المصريين بدأوا فى حصد ثمار الصمت والتهدئة التى استخدمناها بإرثنا التاريخى مع كل من يسىء إلى مصر والمصريين، وهذه السطور ليست مقالاً أدبياً، بل هى أحداث قصة واقعية حدثت منذ أيام قلائل، فداليا هذه تخرجت فى إحدى كليات الطب بجامعاتنا المصرية التى لا تزال بعيدة عن أى تصنيف عالمى، لأنها ببساطة متضخمة حول ذاتها فقط، ولا ترى أين يقف الآخرون. وكان تخرجها المتميز منذ ستة عشر عاماً، ثم ضاق بها الأمر كحال معظم المبدعين والمبتكرين فى مصر نظراً لسطوة الروتين ومقصلة البيروقراطية التى تنال كل من يحاول أن يمارس فريضة التفكير.

المهم أن الطبيبة داليا قامت بالانتهاء من إعداد أطروحتها للماجستير فى الجراحة العامة، وفور حصولها على الدرجة العلمية قررت مع والدها السفر إلى إحدى دول النفط العربى للعمل بمستشفياتها التى كانت خالية من أنفلونزا الخنازير والطيور والخيول والبشر أيضاً.

الجميل فى قصتها أنه فور وصولها ساعدها مناخ العمل الهادئ على الإبداع، فقامت بإعداد بعض الأبحاث القصيرة العلمية من أجل المشاركة بها فى المؤتمرات الطبية التى تنعقد هناك، علاوة على تدينها الفطرى الذى ساعدها لاحقاً فى تدوين بعض الأفكار الدينية ومن ثم نشرها بعد ذلك. كل هذا تم وهى بهامة شامخة مرتفعة دون النيل من إبداعها.

ومنذ أيام كلنا نعلمها علم اليقين حدثت أحداث أم درمان الشهيرة، والتى راح معظمنا يضخم منها تارة، وتارة أخرى حاول البعض تحفيز الهمم للنيل من شعب الجزائر ووسائل إعلامه المحدودة. والبعض الآخر ذهب ليؤكد دور الإدارة المصرية فى الرد على الإهانات والإساءة التى طالت الأخضر واليابس، أى الجمهور العادى والفنانين وأصحاب الياقات البيضاء.

بينما رحت أوجه انتباه السادة المسئولين والمهمومين بالأمر فى مصر إلى أوضاع إخواننا وأبناء عشيرتنا بالخارج، ولم أكن أقصد دول الخليج العربى النفطية، بل أولئك المصريون الموجودون بأمريكا والدول الإسكندافية، ودول شرق أوروبا، تلك الدول التى تعرف أن مصر هى بوصلة الشرق الأوسط، وأنها أم الدنيا ، وأنها مهد الحضارات، وأنها جيش الانتصار فى حرب أكتوبر.

كما تعرف هذه الدول أيضا أن مصر هى نجيب محفوظ، ونصر أبو زيد، وأحمد زويل، والبرادعى، وبطرس غالى، ومجدى يعقوب، والبابا شنودة، وأنه بلد الجماعات الإسلامية، والإخوان المسلمين، والفتنة الطائفية. تلك هى مصر التى عرفتها الدول الأخرى كما أردنا أن نظهر صورتنا للآخر، والمصريون بامتداد تاريخهم الضارب فى القدم يعرف عنهم التزامهم بالعمل والدقة والتجويد فيه، بل وعدم التكاسل والإهمال واللامبالاة، وهذا ما يشير إلى التربية المصرية التى تتسم بالانضباط، والرعاية التى توفرها لهم الدولة، هذا ما استنبطته الدول الأخرى عن مصر.

لكن استرعى انتباه تلك الدول صورة العلم المصرى والأغانى الوطنيةـ لمن يعرف منهم لغتنا العربيةـ وصور بعض الأشخاص الذين يظهرون إما مصابون أو متظاهرون، وبعد بحث بسيط دون عناء عرفوا أن هؤلاء ضربوا وأصيبوا بعد مباراة فى كرة القدم، والذى جعلهم يفكرون فى الأمر ما شاهدوه فى وسائل الإعلام الإليكترونية والمطبوعة والمرئية والمسموعة أن الشعب المصرى بقطاعاته المختلفة يردد عبارات الكرامة والوطنية، وينددون بالإهانة والإساءة ورد الاعتبار، وهذا ما جعلهم يفكرون فى أمر المصريين مرتين.

وكانت داليا وهى بطلة قصتنا إحدى ضحايا هذا التفكير الثنائى، وهى طبيبة لا تعرف من أمر الرياضة سوى أن هنالك فريقين فى مصر هما الزمالك والأهلى. فبعد أن كانت تذهب كل يوم إلى عملها بالمستشفى مبتسمة وأنيقة وكلها طاقة وحيوية، اعتادت الذهاب منذ ثلاثة أسابيع إلى عملها محبطة، ومكتئبة، بسبب ما تراه يومياً من برامج مكرورة على الفضائيات المصرية، وزاد من إحساسها بهذا الإحباط ما يذاع على صدر الفضائية الجزائرية من احتفالات بالنصر، ومسلسلات الكارتون.

وبدأت داليا تحصد فشل اللاعبين أولاً فى تحقيق الفوز فى مباراة رياضية، وهوس وسائل الإعلام فى التنديد بما حدث بالسودان ثانياً، وصمت المسئولين والإدارة المصرية تجاه تلك الأحداث ثالثاً، وتلويحات وتلميحات زملائها بالعمل داخل المستشفى رابعاً، وهذا ما أثار حفيظتها وغضبها وأخرجها عن الصمت الذى صاحب إبداعها واجتهادها فى العمل.

فبداية من اتهامها بالتقاعس تجاه أحداث أم درمان التى لم تشاهدها، مروراً بطبيعة الشخصية المصرية المائلة لتمثيل دور الضحية المسكينة، انتهاء بحالة الرضا المصاحبة للإهانة وإهدار الكرامة طبقاً لصمت الإدارة المصرية تجاه تلك الأحداث. وطبعاً أصبحت الطبيبة داليا فرصة سائغة لكل من هب ودب ويحقد على مصر ومكانتها ومكانها، وحينما زاد الضغط النفسى عليها قررت فجأة العودة إلى مصر، وتحمل مشكلاتها البيروقراطية والتخلى مؤقتاً عن أحلام معلقة بالإبداع والابتكار والاجتهاد، والعمل مضطرة مع عقول مؤهلة لإجهاض النجاح وإثبات الذات، ورجعت داليا ، والقصة انتهت.

هذا بالنسبة لطبيبة أعرفها، أما الذين لا أعرفهم فهم كثيرون، وربما منهم العامل والنجار والسباك وعامل البناء والكهربائى والسائق والبائع، وكثير من المهن التى قد تتطلب تحمل ضغط نفسى كبير، وبالتأكيد أعداد العاملين بتلك المهن أكبر بكثير من هؤلاء الذين يعملون بالمستشفيات والجامعات والمدارس.
وحتى تسترجع الدكتورة داليا قدراتها الإبداعية والابتكارية، وإلى حين تهدأ البرامج الفضائية من هوس حمى المباراة التى خسرناها بالفعل، وحتى تخرج الإدارة المصرية عن صمتها التاريخى، جود باى.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة