د. نعمان جلال

مصر وأمريكا أين الخلل؟

السبت، 22 فبراير 2014 09:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تعيش السياسة الأمريكية فى هذه المرحلة حالة من الحيرة والدهشة بعد زيارة المشير عبد الفتاح السيسى ووزير الخارجية نبيل فهمى لموسكو، وإقدام الرئيس فلاديمير بوتين على الإعراب صراحة عن تأييده لترشيح السيسى رئيسا لمصر، فردت الولايات المتحدة قائلة إن اختيار رئيس مصر ليس من مسئوليات بوتين، وكلا القولين حق أريد به مصلحة صاحبه، وفى تقديرى أن مقولة بوتين جاءت ليست تأييدا للسيسى، وإنما هى "كاشفة وليست منشئة" لحقيقة شعبية عبد الفتاح السيسى، أما مقولة أمريكا أن اختيار رئيس مصر ليست مهمة بوتين فهى صادقة، ولكنها غير كاملة، فاختيار رئيس مصر ليس مهمة أوباما أو أمريكا أو إسرائيل، كما قيل فى عهد مبارك من بعض المفكرين المصريين بتعبيرات مختلفة، وإنما الحقيقة هى أن اختيار رئيس مصر هو مسئولية الشعب المصرى، وكذلك إن تأييد أمريكا للإخوان لحكم مصر أو تأييدها للطائفية أو المذهبية الدينية فى مصر أو فى أية دولة ليس مهمتها، وينبغى أن يكون اهتمام أمريكا وقادتها بشئون الشعب الأمريكى الذى انتخبها، ويعيش قطاع مهم منه تحت خط الفقر.

ومنذ بضع سنوات دعيت للمشاركة فى مؤتمر عقده مركز الشرق الأوسط بالأردن تحت عنوان "مشاريع التغيير فى الشرق الأوسط"، وطلب منى أن أكتب بحثا عن المشروع الصينى والمشروع الهندى للتغيير فى الشرق الأوسط، وكان هناك باحثون آخرون يتحدثون عن مشاريع المناطق المختلفة مثل المشروع الأمريكى والمشروع الروسى والمشروع الإيرانى والمشروع التركى والمشروع العربى وهكذا، وبعد دراسة الموضوع بالنسبة للصين والهند بصفتى خبيرا فى الشئون الآسيوية، خاصة الصين والهند وباكستان، وهى ثلاث دول قمت بدراسة كل منها بعمق وعملت بها دبلوماسيا خلصت للقول إنه لا يوجد مشروع صينى لتغيير الشرق الأوسط، ولا يوجد مشروع هندى أيضا، وإن حضارة الصين أو الهند كانت حضارة قائمة بذاتها معتمدة على ذاتها، ولم تسع أى منها لنشر عقيدتها الدينية أو فلسفتها الثقافية فى الدول الأخرى كما حدث مع الحضارة الأوربية.

وأكدت ضرورة الدعوة والعمل لمشروع قومى عربى، كأساس ومنطلق للتطوير والتحديث، مستندا فى مثل هذا المشروع على الهوية والثقافة العربية بما فى ذلك الدين والتاريخ العربى المشترك، ونطرح السؤال.. مصر وأمريكا أين الخلل؟ لقد بدأ الخلل منذ الخمسينات عندما سعت أمريكا لرسم خريطة الشرق الأوسط وفقا لرؤيتها، وطرحت مشروعها لذلك فى أوائل الخمسينات، وتصورت أن عبد الناصر زعيماً مثل زعماء الانقلابات فى أمريكا اللاتينية فى ذلك الحين، وإنها يمكن أن تسيطر عليه من خلال أجهزة الاستخبارات، وقدمت له هدية بضعة ملايين من الدولارات، من خلال أحد عملائها المزدوج الدور، فلما أبلغ عبد الناصر بذلك قال له خذها وقام ببناء برج الجزيرة، ليكون شاهداً على غباء الاستخبارات الأمريكية.

وجاء ذلك كله فى كتاب "لعبة الأمم" للمسئول الاستخباراتى الأمريكى عن الشرق الأوسط آنذاك مايلز كوبلاند، ثم عادت أمريكا فوقفت ضد عبد الناصر فى بناء السد العالى، وضغطت على البنك الدولى لنفس الهدف فلجأ لتأميم قناة السويس وللاتحاد السوفيتى الذى أيده بقوة، وهكذا فشل مشروع إيزنهاور، ومشروعات تغيير الشرق الأوسط من خلال الأحلاف العسكرية فلجأت أمريكا لبث الفرقة بين العرب من ناحية، ولاستخدام إسرائيل لضرب عبد الناصر بعد أن أنهكت قواه وقواته فى اليمن من ناحية أخرى، وطرحت مشروع الحلف الإسلامى بعد سقوط حلف بغداد من ناحية ثالثة، وهكذا الصراع على الشرق الأوسط ما زال مستمراً باستخدام الإسلام السياسى من حين لآخر.

اولخطأ أن أمريكا تعتمد على العملاء بدرجة كبيرة وليس على المستشارين الصادقين، وتعتمد كثير من مراكز أبحاثها على نفس المصدر الذى يقدم لها معلومات خاطئة، فترتكب أخطاء فظيعة تفضح ديمقراطيتها من ناحية، وتغذى طموحاتها من ناحية أخرى، هكذا أدت السياسة الأمريكية الخاطئة لاحتضان روسيا السوفيتية للطموحات العربية، والمصالح العربية، ولكنها سرعان ما ارتكبت نفس الأخطاء الأمريكية، مما أدى لعودة مصر للحضن الأمريكى بعد مبادرة السادات بطرد الخبراء السوفيت عام 1971م، وهكذا وقع السادات فى الفخ الأمريكى، ولكنه كان أكثر ذكاء، وكان يخطط للانقلاب عليها بعد تحرير سيناء وإعادة مصر للصف العربى، ولذلك تم اغتياله باسم الإسلام بواسطة أشخاص واهمين وحالمين وخياليين وقعوا فى فخ الذكاء الأمريكى أو جندوا بوعى أو بغير وعى لمصلحته، كما أظهرت الحقائق بعد ذلك فى أفغانستان، وكما برز ذلك بوضوح فى حكم الإخوان وما يشاع عن قبولهم العمل لتصفية القضية الفلسطينية مستخدمة حماس لضرب فتح، وكانت الاستخبارات الإسرائيلية هى التى ساعدت على نشأة حماس على أساس دينى لهذا الغرض.

ولقد وقع حسنى مبارك فريسة طموحاته وأحلامه العائلية، بإنشاء أسرة ملكية مثل أسرة محمد على، ولكنه اختلف عنه فى أن "محمد على"، رغم محدودية ثقافته، كانت لديه رؤية لبناء مصر، فى حين أن مبارك افتقد الرؤية وغذت طموحاته أسرته وأعوانها من الرأسماليين الجدد، وهكذا وقعت أمريكا بين طموحات مبارك غير العقلانية وطموحات الإخوان وتطلعهم للسلطة ووعدهم بالتماشى مع المصالح الأمريكية والحفاظ عليها، واستخدمت الديمقراطية وسيلة للانتقال السلطة، غير مدركة طبيعة الشعب المصرى الخاصة، والذى يختلف عن أمريكا أو أوروبا، ولذلك فوجئت بثورة ثانية للشعب ضد حكم الإخوان نتيجة تجاهلهم المفهوم الوطنى المصرى فى غمار استخدامهم الدين لخداع الجماهير، وفى غمار طموحهم الشرس والمتسرع للاستيلاء على السلطة تحت شعار "التمكين"، ولذلك فسرت أمريكا حركة الشعب المصرى ومساندة القوات المسلحة لها بأنها انقلاب، وهذا مفهوم غير دقيق، فالذى حرر مصر وبناها عبر السنين هى القوات المسلحة منذ "أحمس" و"رمسيس" وغيرهم منذ عهد الفراعنة.

وإن القوات المسلحة فى مصر ليست قوة من خارج الدولة، وليست بعيدة عن الشعب منذ نشأتها الحديثة فى عهد محمد على، بل هى حاضنة للشعب ومصالحه، وكان العلماء قبل ذلك هم المعبرون عن هذا الشعب ومصالحه حتى تغير دورهم، وضعف شأنهم باستخدام السلطة لمعظمهم، ثم بظهور ما سمى بالإسلام السياسى من خلال أجهزة المخابرات البريطانية التى استخدمته لتمزيق المنطقة بعد الإطاحة بالدولة العثمانية وإلغاء الخلافة عام 1924م وهى لم تكن خلافة، بل كانت قوة استعمارية ظالمة، ومتحللة ولذلك أطلق عليها الغرب الصاعد آنذاك لقب "رجل أوروبا المريض"، ولم تكن قوة حضارية إسلامية عربية، وإنما كانت تعبيراً عن تطور حركة المغول والتتار التى دمرت الحضارة العربية والإسلامية فى بغداد وفى المراكز الأخرى بما فى ذلك القاهرة التى أخذت منها الحرفيين والصناع إلى عاصمتها، ثم اعتنقت الإسلام شكلا كوسيلة لفرض الاحتلال وإخضاع الشعوب فى المنطقة تحت عباءة الإسلام، وهذا ما تكرره القوى الطامعة باستغلال الدين، وهذا ما دفع الولايات المتحدة ومراكز أبحاثها لتكرار الأخطاء القاتلة، وتصور أن مصر أصبحت جثة هامدة وفريسة للصراع الدينى لضرب المسلمين مع المسيحيين، وإحداث الفتنة، ولهذا قام المشير عبد الفتاح السيسى بمساندة ثورة الشعب فى 30 يونيو 2013، وكذلك انطلاقه للعالم الفسيح، إذ إن مصر لها حضارة عريقة لم تنهر ولم تختف، وإنما ضعفت وظلت كامنة، وتسعى لإعادة بناء أسسها الداخلية كركيزة للتواصل المصرى مع العالم، خاصة العربى والأفريقى والإسلامى.

ولحسن الحظ فإن القيادات العربية الخليجية، وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية، منذ الملك فيصل، رحمه الله، واستخدامه سلاح النفط، كانت واعية وحافظة لنصيحة مؤسس المملكة الملك عبد العزيز، عندما نصح أولاده بالتعاون مع مصر، ولذلك دعم الملك عبد الله خادم الحرمين الشريفين مصر بقوة متحدياً الإرادة الأمريكية، كما دعمها خلفاء الشيخ زايد آل نهيان، رحمه الله، وكان الشيخ زايد عروبيا قوميا أصيلا مؤمنا بدور مصر وأهميتها، وساندت الكويت مصر اعترافا بدورها فى مساندة الكويت ضد مطامع عبد الكريم قاسم وضد غزو صدام حسين للكويت، والبحرين ساندت مصر سياسيا ومعنويا تقديرا لدور مصر فى مساندة البحرين ضد المطامع الإيرانية.

والقيادة الجديدة لمصر عليها مسئولية رباعية الأبعاد.. الأول: بناء مصر الداخل على أساس القوى الثلاث الاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة أى الموارد البشرية والثقافية.
والثانى: تعزيز التلاحم المصرى العربى الأفريقى.
والثالث الانفتاح على العالم بأسره بما فيه أمريكا وروسيا والصين والهند. الرابع إصلاح خطوط التواصل الحضارى والإستراتيجى مع أوروبا الحديثة على أسس سليمة فالحضارة المصرية منذ عهد الفراعنة لها صلة وثيقة بدائرتين حضاريتين هما الدائرة الأفريقية ودائرة البحر المتوسط.

مصر وأمريكا أين الخلل؟ إن هذا الخلل مرجعة التصورات الخاطئة لدى أمريكا تجاه مصر، واعتبارها يمكن أن تكون تابعة لها، ومن ثم السياسات الخاطئة للدبلوماسية الأمريكية بالاعتماد على الإسلاميين من العملاء وليس الإسلاميين صادقى الإسلام والإيمان بالوطن هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى التصورات الخاطئة لدى مصر عن "ماما أمريكا" بالاعتماد على مساندتها وإخضاع مؤسسات الدولة للرغبات الأمريكية والابتعاد عن الدول الأخرى الناهضة فى العالم.

إن على قيادة مصر الجديدة أن تتخلى نهائيا عن مفهوم التبعية لأمريكا أو روسيا أو أية دولة أخرى، وأن تبنى دولتها على أساس التلاحم الحقيقى مع محيطها العربى والأفريقى والإسلامى وبناء ديمقراطية تعكس هوية الشعب المصرى المعتدل والعقلانى وتحقق له طموحاته وتحمى وتدافع عن أمنه الوطنى وسيادته الوطنية.
* باحث فى الدراسات الإستراتيجية








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة