الدكتورة شَهلا العُجيلى تكتب: يُحيى الغرام وهو رميم!

الأحد، 20 سبتمبر 2009 07:47 م
الدكتورة شَهلا العُجيلى تكتب: يُحيى الغرام وهو رميم! الدكتورة شَهلا العُجيلى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يملك قولٌ أدبى أن يفعل فينا ما يفعله شعر نزار! ومهما قيل عن رتوب شعريّته، ونكوص رؤيته، ونسقيّته، فلا يمكن لِكَنود أن ينكر أنّ شعر نزار فتّح آفاقاً للذات العربيّة أكثر ممّا فعلت حركات التحرّر السياسيّة كلّها، لأنّه كان متخلّصاً من فصام المثقّف العربىّ، إذ كان صادقاً مع ذاته، ونقل ذلك الإحساس بالصدق إلى متلقّيه فى كلّ مكان.

رافق شعره يفاعة أكثر من جيل، واستمرّ معه فى شبابه وكهولته، وليجرّب أحدنا استعادة بضع قصائد، أو استعادة ديوان لنزار قبّانى، وسترون كيف ستتقافز الرسائل الإلكترونيّة تبحث عن رفاق الأيّام الخوالى، وكيف ستعود الذاكرة لتحيى فينا غراماً ربّما بات رميماً.

لقد أيقظت رؤية نزار الشعريّة المتأتية من وعى بورجوازىّّ، ونفس توّاقة إلى المعرفة، وإلى المساءلة، وعدم الركون إلى النمطيّة والقوالب الفكريّة الجاهزة، أيقظت وعى الإنسان العربىّ، ووضعته فى مواجهة مع ذاته، ومع ظروفه ومع تاريخه، فى وقت علا فيه صوت الإديولوجيا، والتخوين، والنفى، واستلاب الوعى.

لاشكّ فى أنّ كلامى على نزار قبانى ليس بجديد، ولكنّنى اشتهيت أن أحتفل من دونما مناسبة بـ(أبجديّة الياسمين) آخر دواوين نزار قبانى، والذى جمعته أسرته بعد موته، ونشرته فى نيسان 2008. يضمّ الديوان قصائده الأخيرة غير المنشورة، ومقطّعات كتب نزار بعضها على أوراق مستشفى (سان توماس) فى لندن، وعلى أكياس الأدوية التى كانت فى متناوله فى الغرفة رقم 12. هى قصائد مسوّدات، بعضها غير مكتمل، وبعضها الآخر لم يتمّ ضبط وزنه، لكنّها عبارات نزار، وشعريّة نزار، وروح نزار! بالطبع لسنا فى معرض مناقشة ديوانه أو شعريّته، فالرجل الذى كان يتنفّس شعراً، نفخ روحه شعراً، وهو يبحث عن العودة، عودة العربى إلى هويّة واضحة، متخلّصة من حالة التشظّي، وعودة الرجل إلى رحم امرأة يعشقها، وعودة المرأة إلى أنوثتها المقدّسة، وعودة الشاعر إلى الشعر، إذ يقول فى آخر كلام له:
"أرجعينى مرّة أخرى..
إلى عصر الحطب..
وإلى عصر المها..
وبساتين الرطب..
أرجعى لى الشعر- يا سيّدتى -
إنّه آخر ما أحمل من وشم العرب!

لعلّ كلاًّ منّا إذا ما راجع علاقته بشعر نزار، سيكتشف أنّه مشتبك معه بطريقة معقّدة، مشتبك مع ثقافته الجمعيّة والفرديّة فى آن معاً، فمن (الفالس) و(التانغو)، إلى (الإمامة والسياسة)، مروراً بأسطورة ليليت، إلى أن نعرف أخيراً كيف يمكن لشفتى الجرح أن تقبّلا السكين المسافرة فيهما!

طالما اختزنت الكلام على علاقتى الشخصيّة بشعر نزار إلى قادمات الأيّام، لكنّ ظرف الشعر العربى الآن لم يترك لى فرصة لكتمان بعض الأسرار..
كنت ربّما فى الصفّ الرابع الابتدائى عندما بدأت أغافل الجميع فأفضّ الرسائل التى تأتى من نزار إلى أبى أو عمّى، أفتح صندوق بريد العائلة رقم (25)، وأقرأ، ثمّ أسلّم الرسائل إليهما، مدعية أنّها وصلت مفتوحة، فيظنّ أهل البيت أنّ (الأمن) هو من فتحها، ذلك أنّها كانت عادة شائعة آنذاك! لم تكن تكفينى الدواوين حينها، فالدواوين للناس جميعاً، ومع ذلك فرسائل نزار إلى أصدقائه حميمة، وراقية، وصادقة، وعابثة أحياناً مثلما هو شعره، ولعلّه كان يتفرّغ لصناعتها مثلما كان يتفرّغ لصناعة الشعر، إذ يقول فى قصيدته من الديوان الأخير:

أتفرّغ للكتابة عنك..
كما يتفرّغ نبى لكتابة الوحى..
وكما تتفرّغ بيوت الشام لصناعة الياسمين..
وكما تتفرّغ نساء الشام..
لصناعة الأنوثة..
أتفرّغ لتصميم جسدك..
كما يتفرّغ معمارىّ
لتصميم مدينة مقدّسة..
وكما يتفرّغ البابليّون لبناء بابل
والمصريّون لبناء وادى الملوك..
أرفع صدرك عالياً فوق البحر..
كأنّه منارة الإسكندريّة..
حتّى لا تضيع المراكب..
وتضيع طيور النورس..

ما زلت أنتظر أن يطلعنى أبى على رسائل نزار الإسبانيّة، فهو لم يفعل إلى الآن! ومازلت أطرب لذكرى رسالة نزار إلى عبد السلام العجيلي، حول تعيينه له، سفيراً فى إسبانية، حينما كان العجيلى وزيراً للخارجيّة السوريّة، وتندّرهما على الذين غمزوا من قناة بأنّه سلّم حقيبة إسبانيا لنزار قبانى لأنّه صديقه، فكان العجيلى يقول: سلمتها له لأنّه شاعر!
ذهبت حقائب دبلوماسيّة كثيرة، وأتت أخرى، وستذهب أيضاً، لكنّ حقيبة إسبانيا هى وحدها الباقية:

فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللّقيا بلا ميعاد!
عينان سوداوان فى حجريهما تتوالد الأبعاد من أبعـاد..ِ

لعلّ الشعور بالشجن الذى تحمله مطالعة شعر نزار، يعود إلى أنّ هذا الشعر كان رفيق هوانا، وإخفاقاتنا وانتصاراتنا، ويعود أيضاً إلى الإحساس بالأزمة، إذ إنّنا بعد سقوط الأقنعة الثقافيّة، التى تكشّفت عن وجه واحد، أنّى قلّبناه، لا نجد بدائل! إنّ عجلة السياسة والاقتصاد التى ندور حولها أو تدور بنا، تنأى بنا عن ذلك الإحساس بالأزمة، لكنّنا فى أزمة ثقافيّة فعليّة، وكوننا فى أزمة ثقافيّة يعنى أننا فى أزمة وجود، تحملنا على أن نتساءل عن الوقت الذى ستتفرّغ فيه الأمّة لصناعة شخصيّات ثقافيّة ناضجة، شخصيّات بلا أقنعة، تفكّر، وتبدع، وتقول، وتفعل، وتطرح رؤيات سياسيّة فى آن معاً!









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة