محمد أحمد فؤاد يكتب: آلهة الشر وحضارة الخراب!

الجمعة، 13 سبتمبر 2013 07:24 ص
محمد أحمد فؤاد يكتب: آلهة الشر وحضارة الخراب! أبو الهول

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"جميلة كانت حياتنا القديمة، ناعمة ودافئة، وبيوتنا الصغيرة تزينها الطبول، وصوتا صافيا يغنى، وصدى الضحكات.. الهنود أقوياء، غير أن العشب توقف عن النمو، وخيول الفخر شارفت على نهايتها".. كان هذا مقطع من قصيدة لشاعر مجهول، ربما كان من أحفاد سكان أمريكا الأصليين، ومعنى القصيدة واضح، فالمقطع يبوح بالرفض التام لما آلت له الأمور بوصول "الرجل الأبيض" للعالم الجديد وتزامن وصوله مع خراب ودمار لثقافات وحضارات لم يبقى منها إلا أطلا..!

يبدو أن الإنزال الأول للأوروبيين على سواحل الأمريكتين قد حملته رياحا شريرة لم تعرفها هذه الأرض قبل وصول الرجل الأبيض لها، وها هى خطواته الأولى هناك قد رسخت لمعانى جديدة كالعنصرية والانتهازية، ربما لم تكن موجودة من قبل ضمن مصطلحات حضارات ازدهرت هناك لآلاف السنين قبل أن تقوض، بفعل حوافر خيول الفرسان والطلقات النارية وقذائف البارود الأسود التى لم تكن معلومة لديهم من قبل! إنها المأساة الأكثر عمقا فى تاريخ العالم الجديد، حضارات ثرية وقوية هى حضارات الأنكا والمايا والأزتيك وغيرها، انتشرت فى ربوع تلك الأرض البعيدة، وعاشت قرونا من الرخاء والطمأنينة، حتى اضطر أبناؤها مؤخرا بعد اكتشاف عالمهم على يد البحارة الأسبان، إلى كتابة مقاطع أدبية للتعبير عن الآلام التى عانوها على يد هؤلاء الغزاة الجدد..! "كالطاعون حل البيض الغلاة، الباحثون عن الذهب فى أرضنا.. فهمسوا للأب الأنكا بالطمأنينة، لكنهم قدموا له الموت، بغدر الضبع ومكر الثعلب قتلوه كحيوان اللاما الصغير"..!

تلك المقدمة لم تكن إلا تمهيد بسيط للتعبير عما نعيشه الآن من مآسٍ وكوارث، ولا أبالغ حين أقول أنها مقترنة دائما بتواجد أقطاب الغرب الاستعمارى فى أى مكان تطأه أقدامهم فى أرجاء المعمورة، لم يحدث من قبل وتزامن حدوث إبادة ممنهجة لحضارات وتقويض لثقافات، كما حدث ويحدث على يد عتاة الاستعمار الجدد من عصابات سادة العالم، مجموعة من الحوادث المتلاحقة ضمتها حقبة زمنية وجيزة لم تتجاوز بضع سنوات، لكنها شاهد عيان على اقتران وصول قوى الاحتلال الغاشمة بعمليات تدمير وطمس ممنهج للحضارات والثقافات، فهل الأمر هو محض صدفة أم قد يكون أبعد من ذلك.؟!

استوقفنى كثيرا المشهد الرهيب فى ليل السبت 17 ديسمبر 2011 ونيران الشر تلتهم بشراهة آلاف الوثائق والكتب والمخطوطات النادرة، حتى أتت عليها بالكامل تقريبا، وبقسوة متناهية تلاشت خزانة تراث مصر، تلك التى كانت تدعى يوما المجمع العلمى! من المدهش أن تلك النيران الآثمة كانت رحيمة نوعا، حيث لم تشأ لتتحرك سنتيمترات قليلة تجاه الرصيف المقابل لتطاول صرح لا يقل أهمية، وهو المبنى الرئيسى للجامعة الأمريكية بالقاهرة، هذا البناء الذى أدهش العالم بصموده الرائع، ووقوفه شاهدا على كل الأحداث التى شهدتها المنطقة منذ بدايات ثورة يناير المجيدة، وما تبعها من مؤامرات قد يكشف عنها التاريخ تباعا؟! وقد تركت تلك النيران آثارها على كل الأبنية المجاورة تقريبا عدا هذا المكان اللغز وكل ملحقاته.

والأغرب فى الأمر هو تزامن هذا الحريق المدمر مع أحد الحوادث التى ما زال يكتنفها الغموض، وهى توقيف مجموعة من النشطاء الأجانب معظمهم من الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاكمتهم على ذمة قضية تمويل منظمات المجتمع المدنى الشهيرة! ربما لا يعدو الأمر كونه مصادفة، أو ربما هى عناية القدر التى تتدخل أحيانا لحماية شىء على حساب شيئا آخر.. لكن الغريب فى الأمر أن الساعات الماضية شهدت حادثا لا يقل غموضا وبشاعة عن احتراق المجمع العلمى، وهو قصف وهجوم من مقاتلى جبهة النصرة فى سوريا على قرية معلولا شمال غرب دمشق، وتواتر أنباء على لسان الأم/ باجيلا إحدى الراهبات من سكان معلولا عن أضرار مادية جسيمة لحقت بالدير الأثرى "دير مار تقلا" أحد أهم معاقل التراث الآرامى والسريانى فى العالم، وتدمير جزء من كنيسة المعهد الآرامى ونهب محتوياتها..! تم هذا فى نفس التوقيت الذى تستعد فيه القطع البحرية الأمريكية قبالة السواحل السورية لتوجيه ضربة عسكرية تأديبية للنظام السورى، عقابا له على جرائم ارتكبها فى حق شعبه والإنسانية بصفة عامة، هذا التدخل العسكرى الذى لا يحظى كما يبدو بأى تأييد دولى أو أقليمى، بسبب ما سوف يخلفه من دمار وخراب، وأيضا لما سوف يحدثه من انقسام فى صفوف الشعب السورى، قد تنتهى إلى تقسيم عرقى وعنصرى لدولة عريقة كانت أرضها مهدا للحضارات منذ بدايات التاريخ الأولى.

أليس مدهشا أن تتحرك رياح الشر فى المنطقة من أرض إلى أرض بدعوى نشر الحرية والديمقراطية؟!، لكنها فى واقع الأمر تعبث بالتراث والتاريخ وتبث روح التحزب والتشرذم فى أرجاء منطقة طالما جمعتها وحدة الأرض واللغة والدين؟! والأغرب فى الأمر هو تحرك تلك الرياح الفاسدة دائما بأوامر عليا من آلهة الشر، تلك التى تتغذى فقط على الحروب والدماء والدمار، وهنا أتذكر حادث آخر لا يبتعد كثيرا عن السياق الحالى، ومع فارق زمنى بسيط لا يتعدى عدة سنوات، تحديدا فى يونيو 2004، وفى أعقاب الغزو الأنجلو/ أمريكى على العراق عام 2003.. حينما صرح د/ دونى جورج مدير عام المتاحف ورئيس هيئة الآثار العراقية، بأنه إبان سقوط بغداد فى يد قوات التحالف، وبعد انتشار قوات الاحتلال فى كل أرجاء العراق، تحركت مجموعات مجهولة تحت جنح الظلام، وقامت بنهب مجموعات كاملة من القطع الأثرية التى لا تقدر بثمن، وربما انتهى بها المصير بأن تباع الآن فى مزادات لندن ونيويورك بأسعار خيالية!.

وفى نفس السياق تعرض متحف مدينة الناصرية للهجوم، وتم تدمير وحرق الأجنحة الإدارية فيه إضافة إلى حرق مكتبته بالكامل، وكانت تضم أكثر من ثلاثين ألف كتاب متخصص فى مجالات التاريخ والآثار والحضارة!.

جدير بالذكر أن دونى جورج هرب وعائلته إلى سوريا عام 2008 بعد تلقيه تهديدات من قبل جماعات متشددة، واستقر به المقام أخيرا فى أمريكا، حتى توفى بسكتة قلبية مفاجئة فى مارس 2011 لدى وصوله مدينة تورونتو بكندا قادما من الولايات المتحدة!.

المدهش فى الأمر أن يتم هذا السطو المنظم أمام صمت مطبق من جانب قوات الاحتلال الأنجلو/ أمريكية التى زعمت أنها جاءت للعراق لحمايتها من ديكتاتورية وفساد الحاكم، وها هى تستخدم نفس المنطق المغلوط تجاه القضية السورية ولكن فى سياق مختلف نوعا!.

وكأن تقويض الحضارات والثقافات هو هواية محببة لدى أقطاب الغرب الاستعمارى، أو ربما يكون فلسفة أو تكتيك استراتيجى، فنجد آلهة الشر وقد قررت تقويض معالم التراث البوذى فى أفغانستان مارس 2001 بتحطيم التماثيل الأثرية فى مقاطعات كابول وباميان وهرات وقندهار وننجرهار وغزنه، جاء هذا تنفيذا لتعليمات زعيم طالبان الملا/ محمد عمر، وقد بدأ التنفيذ بناء على بيان ألقاه وزير الثقافة والإعلام فى طالبان/ قدرة الله جمال، وبمجرد الشروع فى التنفيذ الذى أصبح نواة حرب أهلية داخل أفغانستان بدأت منابر الغرب فى حملة منظمة ضد حركة طالبان، التى هى صناعة أمريكية، واتهمها بتقويض الحضارات وتدمير التراث، ثم بدأت التوابع تتوالى حتى سمعنا مؤخرا عن هؤلاء الذين يريدون تحطيم تمثال أبو الهول رمز الشموخ فى الحضارة المصرية القديمة، ومن بعده الاعتداء على تمثال نهضة مصر أحد أعظم منحوتات الجرانيت التى صنعها الفنان محمود مختار على الإطلاق!.

إنه النمط الحديث فى السيطرة، وآخر صيحات الاحتلال بدون ألم! مساندة ودعم جماعات عنصرية متشددة واتخاذها كحليف، ثم استخدامها لتدمير الرموز الثقافية ونهب التراث ومحاولات طمس الهوية، فتبدو قوى الشر الاستعمارية فى النظام العالمى الجديد وكأنها بعيدة تماما عن المشهد الذى يبوح فقط بهمجية أصحابه، فيصبح التدخل حينها بحصار دولى أو عقوبات اقتصادية أو ضربات تأديبية بحسابات العصر الحديث، هو البديل الأمثل للاحتلال العسكرى الذى بات باهظ التكاليف فى الأونة الأخيرة!.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة