د. أحمد سمير حماد

المطلوب مجرد هدنة

الثلاثاء، 03 سبتمبر 2013 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"الديمقراطية قد تفنى لكنها لا تستحدث من عدم".. هذه قاعدة أصيلة، فكل ديمقراطيات العالم سلكت الشعوب مساراً طويلاً من بذل الدماء فى سبيل هذه الكلمة الساحرة.. الديمقراطية فى مصر بذلت الدماء كذلك، وفى كل مرة بذلت فيها الدماء كانت تؤسس بالقطع إلى خطوة جديدة نحو ديمقراطية وليدة، فدماء يناير أفضت إلى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.. ودماء الشباب فى محمد محمود أفضت إلى نهاية حكم المجلس العسكرى وتسليم السلطة للمدنيين.. ودماء الاتحادية أفضت إلى إلغاء الإعلان الدستورى.

كل هذه الدماء كان لها ثمن، أسست لمرحلة من التحول الديمقراطى ورعته وروته حتى تنقلنا إلى تجربة ديمقراطية مهما بلغ تشوهها لكننا للأسف جعلنا هذه الديمقراطية التى لم تكتمل تفضى إلى دماء جديدة. واليوم البعض يحلم بعودة الديمقراطية المنتهية، والبعض يحلم ببناء ديمقراطية جديدة أنظف وأرقى، والبعض يرى أن المستقبل مظلم لن يفضى إلى ديمقراطية ولا إلى حرية.

تأملت مشاهد الدماء المروعة غطت شوارع مصر (المحروسة سابقاً) وفى كل يوم ننحدر إلى مشهد أكثر ترويعاً، فمطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة كان أهون من مشهد الانقسام، ومشهد الانقسام كان أهون من مشهد الاعتصام فى رابعة والنهضة، ومشهد الاعتصام كان أهون من مشاهد الحرس الجمهورى والمنصة، ومشهد منصة رابعة العدوية ومن يتحدث عليها كان أهون من مشهد الفض الدموى، ومشهد الفض كان أهون من مشاهد بذور الحرب الأهلية التى تنبت، ومشهد الشهداء فى الشوارع وهو مشهد الموت الشريف كان أهون من مشهد الموت الدنىء الذى رأيناه فى أبى زعبل لمحتجزين عزل أو فى سيناء لجنود مساكين.

كل يوم ننحدر، وكل يوم يموت فينا الضمير، وبمرور الوقت يتحول الضحايا إلى أرقام، وتتحول مشاهد الموت والقتل إلى حدث عادى، ويتحول المشهد المصرى من صدارة نشرات الأخبار تحت بند (عاجل) إلى خبر هامشى يقول مصرع 40 وإصابة 150 فى اشتباكات فى مصر.

هل هذا ما نريده؟!، وهل هذه الدماء التى نبذلها هى من أجل ديمقراطية حقيقية؟!. الأمر الذى أعرفه أن بناء نظام ديمقراطى لا يمكن أن يقوم على القمع أو الإقصاء. فما تعانيه مصر اليوم ليست أزمة سياسية إنها تتحول ببراعة إلى أزمة إنسانية.

إن النفق المظلم الذى دخلناه بأيدينا لا مخرج منه والنفخ فى نيران الحقد المقدس لن تورثنا إلا الكراهية.. وهذه الكراهية ستنمو وتثمر عقوداً من الإحباط والعزلة والحقد المتبادل، سيتحول المشهد المصرى إلى برميل بارود قابل للانفجار فى أية لحظة لمدة مائة عام قادمة مهما ظهر السطح آمناً مطمئناً، ومهما كانت صورة البلاد هادئة وواثقة ومنمقة.

أريد أن أذكركم أنه بعد 25 عاماً تقريباً من توقيع اتفاق المصالحة الوطنية فى الطائف بين الفصائل اللبنانية لا تزال لبنان بعيدة عن الاستقرار إنه ميراث العنف والدم والثأر الذى توارثته الأجيال.

نحن أمام معضلة رئيسة لا يمكن أن تختزل فى صيغة نظام فى مقابل نظام، ولا دولة فى مقابل جماعة، ولا فكر فى مقابل إرهاب، نحن فى ظل ثنائية الوطنية مقابل الإنسانية وكلتاهما للأسف لا يمكن تغليب إحداها على الآخر على الإطلاق فهما متلازمتان، كيف يمكن للإنسان أن ينتمى إلى وطن (مجتمع بشرى) وقد نزعت منه إنسانيته، وكيف يعيش الإنسان بلا وطن.

أساس المشكلة هو الوعى، الوعى الذى فقده الشعب وفقدته السلطة السابقة والحالية، الوعى بأننا جميعاً فى وطن واحد، هؤلاء ليسوا أغياراً يا سادة حتى إن اعتبرونا كذلك، هؤلاء مصريون، مواطنون، وكل مواطن له الحق ذاته فى هذا الوطن، لا فضل لأحد على الآخر، ولا هذه البلاد ملكاً لفصيل دون فصيل.

اعتبروها حرباً على الإرهاب، اعتبروها حرباً للتخلص من الفاشية الدينية، اعتبروها حرباً من أجل الإسلام أو من أجل عودة الشرعية، اعتبروها حرباً بأى صورة قد تريح ضمائركم، ولكن أليست للحروب قواعد، ألا تفضى الحروب إلى مفاوضات.

كل ما يمكن أن أطالب به الآن هو هدنة.. هدنة بين إخوة اقتنعوا جميعاً أن هذه حرباً مقدسة لن تنتهى إلا بإزالة العدوان وآثاره، هدنة يمكن أن نحقن بها الدماء الذكية المصرية، هدنة يسود فيها الصمت، ويعود فيها العقل بعيداً عن هذه الحالة من الهوس الجمعى الذى سيطر على سماء هذا الوطن وأرضه وعلق فى نفوس وعقول أبنائه.

قد تفضى هذه الهدنة إلى هدنة جديدة، أو قد تفضى إلى مبادرة من أى طرف فى السلطة أو خارجها، أو قد تفضى إلى مبادرة أو وساطة خارجية أو داخلية من بعض عقلاء هذا الزمان.. ولكن هل يقبل الناس هذا.. هل تقبل السلطة بهذا.. هل يقبل المتظاهرون بهذا.. هل تقبله أنت؟!.. أعتقد أنه لا.

إننا يا سادة نواجه أخطر أزمة واجهت مصر فى التاريخ، مهما أسميتموها.. حرباً من أجل الشرعية أم حرباً من أجل الإرهاب.. ولكن دعونى أذكركم بأن الحرب على الإرهاب فى التسعينيات من القرن المنصرم لم تنته إلا بالمراجعات الفكرية التى آمنت بها الجماعات الإسلامية واختارت سبيل المشاركة فى الحياة السياسية بسلمية، كم دفعت مصر من الدماء فى كل البيوت حتى وصلنا إلى مرحلة الإقناع والاقتناع، للأسف دفعت الكثير، وها نحن نرسم مساراً جديداً يدفع قواعد شباب الإسلاميين دفعاً إلى الإرهاب، إلى الكفر بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، أرى الآن أيمن الظواهرى وهو يخرج لسانه لنا جميعاً للإسلاميين قبل غيرهم، ويقول.. هل تأكدتم من صدق توجهى، هل تأكدتم من أن الديمقراطية كفر، هل تأكدتم أنه لا مكان للمسلمين فى أى دولة، هل تأكدتم أنها حرباً مقدسة ضد من يريد استئصالكم وقتلكم على هويتكم.. هذا ما نجنيه الآن يا سادة وسندفع ثمنه غالياً اليوم أو غداً.

وقتها سوف نرى أننا لسنا فى مرحلة الكفر بالتوافق أو المسئولية الوطنية، لسنا حتى فى مرحلة الكفر بالحرية والديمقراطية، بل سنصير حتماً إلى مرحلة الكفر بالوطن.
• أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة