الناقد أحمد حسن عوض يكتب..

هل الشعر ضرورة أم ترف؟

الجمعة، 24 يوليو 2009 11:36 ص
هل الشعر ضرورة أم ترف؟
أحمد حسن عوض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يرى كثير من الناس أن الشعر ترفٌ مجانى يمارسه الإنسان فى أوقات فراغه وصفائه الروحاني، وينسحب هذا الأمر أيضًا على بعض متذوقى الشعر ممن ينشدون الجمال فى الأشكال الشعرية المختلفة، التى تتمتع بروعة الصياغة وطرافة الأساليب بحيث يكون كل هدفها أن تهدهد مشاعرهم الساكنة المطمئنة وتدغدغ أجسادهم المستريحة، وهذه النفوس الهادئة ترى أن الشعر بخاصة والفن بعامة نوع من "الكماليات"، أو الرفاهية التى يستمرئها من لهم فائض فى أموالهم أو أوقاتهم أو من ركنوا إلى لون من "الكسل العقلي" فى الحياة أو من كانوا على النقيض، فاستبدلوا الشعر بالحياة، ووجدوا ضالتهم المنشودة فيه كنوع من التعويض عن الإخفاق فى اللحاق بقطارها السريع، فكان الشعر مجرد مشجبٍ يعلقون عليه أحلامهم المطوية، أو تيارًا كهربائيًا يصلون به مصابيحهم المطفئة.. والحق أن هذه التصورات لا تعيب الشعر فى شيء إنما تعيب تلك النفوس الكسولة والأرواح الخاملة، فالشعر الحقيقى هو الذى يمد الإنسان بدفعة الحياة المستمرة وجذوة الروح المشتعلة. لا أظن أن إنسانًا يؤمن بالشعر إيمانًا حقيقيًا واعيًا ناضجًا يمكنه أن يتنكب عن خطى النجاح والتفوق فى مختلف مجالات الحياة؛ ذلك الإنسان السليم الذى تتكامل فيه الملكات الإنسانية من وجدان حى، وعقل نشط، وإرادة وثابة سيكون حتمًا على قدر رفيع من التميز.

ليس الشعر نقيضًا للعلم أو للسعى على الرزق أو لاحترام الحياة.. ليس الشعر بديلاً عن الحياة، إنه "روح الحياة".. وأظن أن ما نحن فيه من تخاذل وكسل، وجمود وقهر، وفقر هو صدى حقيقى لتخلينا عن تلك الروح الخلاقة والطاقة المتجددة، وأذكر أن معاوية بن أبى سفيان كانت قد حدثته نفسه بالفرار فى إحدى المعارك، وأمر بأن يجهز جوادٌ له كى يفر عليه، ولكنه تذكر أبياتاً لعمرو بن الإطنابة، كانت هى خط الدفاع الأول له ضد الخوف والهروب، وكان عمرو يقول فيها:

أبت لى عفتى وأبى بلائى وأخذى الحمد بالثمن الربيح
وأعطانى على المكروه مالى وضربى هامة البطل المشيح
وقولى كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدى أو تستريحى
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ وأحمى، بعدُ، عن عرض صحيح

يا للمفارقة!! كيف تتحول العفة فى وعى معاوية من مفردات الأخلاق والتقوى والقناعة إلى تأويل جديد يعنى التعفف عن الفرار والهرب، وهو نقيض الشجاعة التى حملته على الثبات فى موقفه، أليست هذه "الشجاعة" التى تخلقها الروح الشعرية الوثابة والطاقة الدينامية الحية هى التى جعلت المتنبى يقول فى بيته الشهير:

الخيل والليل والبيداء تعرفنى
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
مستنفرًا "طاقات الإقدام والثبات" فى محاولة منه للتحرك الحقيقى من "الواقع الخانع" إلى التجسد فى قلب الأسطورة الشعرية التى خلقتها قيم شعره العليا ولم نعد نجد انفصالاً فى نهاية الأمر بين الذات والموضوع أو بين القائل والمقول.

هذه الرغبة الشعرية الحميمة فى امتلاك الواقع بأبعاده المختلفة، التى جسدتها الروح الشعرية العربية فى أبرز تجلياتها الشعرية التى يقف على قمتها المتنبى لم تكن إلا ترسيخًا لقيم الإقدام والشجاعة والوفاء والعفة والعطاء والبذل.

هذه الروح العربية المفعمة بالولع بالصدارة هى التى جسدها أيضًا أبو فراس الحمدانى فى بيته الشهير:
ونحن أناسٌ لا توسطَ بيننا
لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ
هل هذا الولع بالنموذج أو المثل الأعلى هو الذى رسخ لفكرة الطاغية، وهل الفحل الشعرى هو الذى هيأ للفحل السياسى؟ كما يزعم بعض النقاد. لا أظن أن الأمر على هذا النحو، فقد كان كبار الشعراء فى العصور الحضارية المتقدمة فى تاريخنا العربى القديم مشغولين بصنع النماذج أو المثل العليا فى كل شىء، لم يكن يعنيهم كثيرًا أن يتصف ممدوحهم بهذه الصفات، وإنما كان يعنيهم أن يتحرك الخليفة أو القائد إلى أن يتمثل تلك القيم الأخلاقية المختلفة، فيتجاوز دوائر التسلط والأنانية والطمع إلى آفاق الإيثار والعدل والعطاء، وأن يرتبط الطموح الفردى بالغايات الجماعية.

ولعل هذا الولع بنحت النماذج العليا فى أغراض الشعر المختلفة انعكاس عميق لما رسخته القيم العربية الإسلامية، التى تحرص على الغايات القصوى بوجهيها البراقين النصر أو الشهادة، كان طه حسين يقول حين أقرأ قول الشاعر القديم للرشيد:

وعلى عدوك يا بن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلامُ
فإذا تنبه رعتـه وإذا غفـا سنت عليه سيوفـك الأحـلامُ

"لا أكاد أقف عند الرشيد ولا عند إخافته للعدو نيامًا وأيقاظًا، وإنما الذى يعنينى أن هذا الشعر جيد يروع بما فيه من تصوير ما ينبغى أن يكون عليه الملك اليقظ الحازم الذى يحرص على رعاية الدولة، وليس يعنينى أن يكون الرشيد قد كان كما وصفه الشاعر أم لم يكن، وإنما الذى يعنينى هو هذا المثل الأعلى الذى رسمه الشاعر للذين يقومون على شئون الأمم ملوكًا كانوا أم خلفاء أم رؤساء جمهوريات".

ولا يعنى إيرادى لتعليق طه حسين، أننى مؤمن بالتصالح المطلق بين الشعرى والسلطوى أو أننى أغض الطرف عن السلبيات التى نراها الآن فى الأنظمة العربية، ولا يعنى ذلك أيضًا أننى أدافع عن الشعراء بذواتهم، فهم بشر يصيبون ويخطئون، ولكننى أبارك فيهم هذا النزوع المستمر إلى الكمال الذى يدفعهم إلى الحلم بقدر ما يدفعهم إلى المغامرة.. إذن علينا أن نعى جيدًا درس الشعر الحقيقى، وأن نستلهم روح المغامرة التى كان المتنبى ينشدها قديمًا حين قال:

إذا غامرت فى شرف مرومِ فلا تقنـع بما دون النجومِ
فطعم الموت فى أمرٍ حقيـرٍ كطعم الموت فى أمرٍ عظيمِ









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة