ننشر فصلاً من رواية "دولة العقرب" لفؤاد قنديل

الجمعة، 24 مايو 2013 03:58 م
ننشر فصلاً من رواية "دولة العقرب" لفؤاد قنديل فؤاد قنديل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنا واحدا وعشرين شابا حشرونا بعضنا فوق بعض فى عربة نصف نقل كحلية اللون من عربات الشرطة ومعنا ثلاثة جنود برشاشات . توقفت السيارة أمام مبنى عتيق فى ميدان لاظوغلى . أسرعنا بالنزول بعد أن كدنا مع الحر نتحول إلى عجينة واحدة من اللحم والعرق . صعدنا سلالم المبنى دفعا بقبضات أيدى الجنود .
- تحرك يا بهيم منك له
قبضات متنوعة فى الثقل وفى المواضع التى تصيبها وكلها فى ظهورنا، هاجمتنا ونحن قرب نهاية الدور الثانى صرخات وتأوهات عالية وطويلة تخرج من أعمق الأعماق تدل على آلام مبرحة تحاول تبليغ شكواها إلى السماوات . جسمى ارتعد وأوشك على التشنج . لابد أن المعتقلين يتلقون ضربات قاصمة بأدوات ثقيلة . تقطيع أجسادهم بسكاكين لا يسبب هذه الأصوات .. سيشوى الله أجساد المجرمين يوم جهنم
تواصلت الصرخات الكثيرة القادمة من وراء جدران عديدة ومتفرقة . ثقبت قلوبنا وزلزلت أرواحنا . ما أن وصلنا إلى الدور الرابع فى المقر الرئيسى لمباحث أمن الدولة حتى تمنينا أن نسقط على الأرض طلبا للراحة بعد أن تكسرت أعمدتنا الفقرية وتحطمت أكتافنا . طلب منا الضابط الوقوف للعد والتسجيل . أدخلونا جميعا فى حجرة كابية متهرئة الجدران . الصراخ لا يتوقف . وضع معظمنا الأكف على الآذان . البعض حاول أن يعلق فلم يجد الكلمات ولم يجد لسانه . الكل متوتر والأيدى تخبط بعضها . النظرات زائغة . الغرفة فارغة تماما إلا من روائح مقززة لا تحتمل. ربما كانت هنا دلاء كثيرة ممتلئة ببول طال تخزينه. لا توجد مقاعد ولا أسرة . بقينا واقفين .
لا أدرى ماذا جرى لى . أحسست كأنى مصاب بالجرب . جلدى يأكلنى فأهرش فى قفاى ورأسى . جلدى يأكلنى فى كتفى وصدرى فأهرش حيث أحس بالقرص الخفيف المتواصل والمتحرك بسرعة مثل فأر يحاول الهرب. بدأت الصرخات تخفت تدريجيا حتى توقفت. ياه .. توقف الهرش واختفى الجرب . عادت الأعصاب إلى مواضعها إلى حد ما وظل الترقب سيد الموقف .
لحظات قليلة ثم دخل علينا ثلاثة جنود ضخام الجثث . لم أكن أتصور أن الإنسان وصل إلى هذا الحجم، أكبرهم رتبة يحمل رشاشا والاثنان يحملان أكياسا سوداء .
قال الأعلى رتبة والأضخم :
- أهلا بالشباب
لم نرد ربما من هول المفاجأة . فاستطرد :
- نورتم لاظوغلي
أخرج كل جندى من كيسه بعض الأقمشة السوداء ومضى يلفها حول العيون . عصابة من قماش خشن جدا وله رائحة بشعة لعلها بول أيضا . ربطها الجندى على عينى بشدة حتى شعرت بالاختناق والعمى . لما انتهت مهمة تعمية العيون أمروا أن نتوزع على أربعة صفوف . كل صف به خمسة، والأخير به ستة . سرنا مغمضى العيون وراء الجنود . عند باب الحجرة الأولى دخل الصف الأول، وعند الثانية دخل الصف الثانى وهكذا . وسرعان ما بدأ حفل الاستقبال .
بعد أن دخلت الغرفة الثانية وأغلق الباب إغلاقا محكما نزلت على كل أعضاء جسمى الضربات . أظن أن عشرة على الأقل كانوا يضربوننى . تيقنت إنهم مجموعة من الأخوة الجزارين انطلقوا ينتقمون منى لأنى من وجهة نظرهم قتلت أباهم وأمهم، وربما زوجاتهم وأولادهم أيضا، وسرقت كل ما يملكون .
زعق اثنان من رفقائى الأربعة وسمعت بكاء ثالث هو أصغرنا جميعا . كدت أبكى من أجله
صرخت فيهم : نحن مصريون مثلكم يا أولاد الكلب
قال أحدهم وهو يوجه ضربة قوية إلى رأسى :
- إذن لابد من ضربك حتى تنسى يا بن الشرموطة .
ظلوا يكيلون اللكمات ويوجهون الضربات ويصفعون بالأكف .. لم أستطع الاحتمال . حاولت توجيه أية ضربة لكننى لم أكن أرى أحدا وكانت محاولتى تؤدى دائما لمزيد من الضرب .. فاض بى الألم وتنبهت أننى كنت أتأوه بشدة ولم يكن الضرب يتيح لى فرصة أن أسمع صوت ألمى الفادح.مضى السفلة يقذفون الأقدام المسلحة بالأحذية الثقيلة فى مؤخرتى وجنبى وصدرى ووجهى ورأسى حتى ارتطمت عدة مرات بالجدران الصلدة . الصراخ يتوالى والآهات تمزق القلوب . أحسست بالدم يسيل من وجهى ثم سقطت على الأرض فتابعوا قذفى بالأحذية وعجن بطنى وصدرى ثم رفعى عن الأرض ومعاودة اللكم والصفع و والتركيز على الصدر والبطن والظهر والمؤخرة إلى أن تهاويت مغشيا على . استيقظت على أصوات الألم وصراخ الرجال من شدة ما يتلقونه من ضرب وتكسير عظام .مرت سنوات من الضرب والسحق وأظن أن الدفعة الأولى من الضاربين استبدلوا بدفعة ثانية وربما ثالثة.
بقينا ثلاثة أيام نتلقى فطورنا فى الصباح بالصورة ذاتها التى تم استقبالنا بها ثم يوزع على كل فرد بعد أن يفيق من الغيبوبة - إذا أفاق – رغيف متحجر ومترب كان فيما يبدو منشور على سطح المبنى عافته العصافير والفئران وقطعة من جبن نصف متحجر، و فى المساء نتلقى طريحة أقل من الضرب مع كثير من البصق و الشتائم الموجهة للوالدين والأخوات مع رغيف مقدد وطبق صدئ به عدس مملوء بالحصى . كان علينا أن نشرب من دلو به ماء تطفو على سطحه شوائب كثيرة لم أحاول معرفة طبيعتها لكن بعضها كان يتحرك، وفى يد الدلو كوز مربوط بحبل، ودلو آخر للتبول لم يتم التخلص منه طوال وجودنا فى لاظوغلي. قاومت الظمأ طويلا إلى أن اضطررت للشرب من الدلو . لم أجد ما أنتشل به الشوائب . كان قد نفذ منذ اليوم الأول كيس المناديل الورقية الصغير فى تجفيف بعض نقاط الدم التى سالت من أنفى وفمى وقدمى .
تناقشت مع زملائى فى الغرفة فى مشكلة الماء . وافقوا على اقتراحى بأن نمر بالكوز على سطح الماء بالعرض وببطء لنجمع أكبر قدر من الشوائب العالقة وننثره على الجدران، فتخف إلى حد ما . جربنا مرة ثم اقترح جميل أن نغسل به وجوهنا بدلا من رميه. وافق الجميع بعد أن اقترح ثالث أن يكون ذلك بمس الماء والمسح على الوجوه. المهم شربنا الماء مع ما تبقى من الشوائب.
فى اليوم الرابع بدأ معنا التحقيق كل فرد على حدة.
كانت لجنة التحقيق مكونة من نقيب وجندى للضرب وجندى للتسجيل . دهشت لأنهم خصصوا لى كرسيا ولم أنل هذا الشرف منذ وصلت قبل عدة أيام مرت كسنين، كان الكرسى مطلوبا بالطبع حتى أكون أمام عينى المحقق وهو يوجه لى الأسئلة ويستطيع تأمل ملامحى إذا كذبت أو سخرت أو أبديت أية إشارة، ولكى يتمكن جندى الضرب من ممارسة مهامه بعناية وإتقان .
سألنى النقيب عن اسمى، قلت بمنتهى الأدب :
- ناجى الورداني
تنهد متمسكا بالصبر وإن كشفت نظراته المتوعدة عن أنه يكبح غضبا هائلا. قلت فى سرى : لماذا الغضب يا باشا ونحن لم نبدأ بعد ؟. قال :
- اسمك رباعى يا رمة يا بن الرمة
تنهدت كبحا للغضب . المفروض أن أقوم وأمسح بكرامة أهله الأرض . لا أحد يسب أمى . إلا أمى . للأسف سبوها كثيرا . لا أعرف حتى الآن السر فى العداء الشديد الذى يكنه معظم رجال الشرطة خاصة الضباط للأم . هل السبب فقط هو محاولتهم إهانة الرجال ؟ . لم أجد الفرصة لا للغضب ولا لتفسير عقد الضباط المدربين على هذه السفالة. قلت :
- ناجى أحمد رمضان الورداني
سيادة النقيب المنتسب لجهاز قذر مثله أسمعنى قائمة طويلة من الاتهامات التى لا يقل العقاب عليها عن الإعدام .. اعتداء على ضابط الشرطة أثناء تأدية عمله . سب الضابط بألفاظ فاحشة . البصق عليه وعلى الجنود . اختطاف سلاح ميري. توزيع المنشورات المعادية للنظام . المشاركة فى تكدير الأمن العام .. قيادة المظاهرات دون الحصول على موافقة الجهات المعنية . إلقاء زجاجات المولوتوف على قوات حفظ النظام والتسبب فى إصابات عديدة بين الجنود . إطلاق هتافات تزدرى النظام لاستعداء الجماهير ضده. رفع لافتات تتضمن السب للقيادة الأعلى، ولافتات أخرى تتضمن رسوما وكلمات مسيئة للقيادة الأعلى و لكبار المسئولين . تحطيم بوابات وأسوار ونوافذ عدد من الممتلكات العامة .إشعال النار فى ثلاث سيارات نقل جنود خاصة بالأمن المركزى . تحطيم وتدمير عدد من السيارات الخاصة . جر العابرين فى الشوارع لإجبارهم على التظاهر وترويع الآمنين.تعطيل حركة المرور . الانتماء لحركات وجماعات غير قانونية . التحرش ببعض الفتيات العابرات بحجة دفعهن للمشاركة .
سألنى النقيب الوسيم :
- ما قولك فيما هو منسوب إليك ؟
حاولت أن أجيب مباشرة بالنفى أو بغيره فلم أستطع . لم يكن يدور فى ذهنى غير أن هذه التهم لا يمكن أن يقدم عليها شخص بمفرده ولا العشرات .ولم أستطع أن أمنع نفسى ولتكن العاقبة ما تكون من قولى :
- أظنك نسيت جرائم أخرى ياباشا؟
قبل أن أكمل كانت صاعقة قد نزلت على سلسلة ظهرى فقصمته. وقعت ووقع فوقى الكرسى الذى كنت أجلس عليه . حاولت أن أقوم بسرعة قدر الإمكان حتى لا يسب الضابط القذر أمى، نهضت بصعوبة فقد أحسست أن ظهرى انقسم نصفين وعمودى الفقرى تفكك بحيث انفصل عنه الحوض ونصفى السفلى كله . أعاد النقيب سؤاله، قلت له بأكثر لهجة مهذبة فى غير موضعها:
- أرجو سعادتك أن تنسى مؤقتا إنك تمثل جهاز أمن مهم، وتقيم الاتهامات الموجهة لشاب يريد أن يبنى مستقبله وهو خريج جامعة وممثل مسرحى و ..
- أولا لا يجب أن أنسى عملى وجهازى يا حثالة المجتمع، ثانيا أنا أنفذ الأوامر ولست أنا من حدد الاتهامات، ثالثا التمثيل يكون فى بيتكم وليس هنا، رابعا عليك يا بن الجزمة الإجابة فقط على الأسئلة
التفت فجأة للجندى الثانى وقال له بعبارة حادة :
- أنت تتفرج علينا، لماذا لا تسجل ؟
والتفت إلى وقال :
- خلصنا فى يومك الأسود وإلا أجلت التحقيق معك أسبوعا تشرفنا هنا فى الجهاز ونزيد لك الوجبات
- تفضل سعادتك أنا تحت أمرك
- ما رأيك فى التهم المنسوبة إليك؟
- يا فندم أنا فعلا اشتركت فى مظاهرة احتجاجا على الانتخابات المزورة
قاطعنى بحدة :
- وأنت مال أهلك ؟ .. أنت ممثل ..مثل يا سيدى براحتك . هناك من يتحملون كلامكم الفارغ . ما ذنب البلد؟
- والانتخابات
- لو كل واحد انصرف لعمله وأخلص له سيكون كل شيء على ما يرام
- يا فندم
- مرة أخيرة وإلا علقتك .. ما رأيك فيما هو منسوب إليك؟
- لا أعترف بأية واقعة منها غير أنى حاولت بالتظاهر التعبير عن رأيى بشكل سلمى تماما
- اعترف الآن بشكل سلمى تماما وإلا ستعترف بشكل غير سلمى بالمرة
اختر مصيرك بالصورة التى ترضاها لنفسك ومستقبلك
- كيف أعترف سعادتك بأمور لا علاقة لى بها وأقسم بالله العظيم
- لسنا فى محكمة وحياة أمك .. إذن لن تعترف
أحنيت رأسى ولم أجد ما أقوله وإن كنت أفكر فيما يمكن أن أتعرض له
لكنى لم أسمح لنفسى بالضعف والاستسلام . أعرف يقينا أننى سوف أتلقى ضربا مبرحا وتتحطم عظامى، لكننى لن أخون نفسى ولا الناس المعذبين والمقهورين .. لقد اتفقت مع الزملاء على الثبات . الثبات .
تعرضت ورفاقى للضرب الشديد وقد زادت الوجبات بالفعل كما صرح الضابط، وتأكدت لنا رغبتهم فى الانتقام ليس منا فقط ولكن من كل من تخطر بباله ولو لحظة فكرة المقاومة . إنهم يرفضون مبدأ عدم الإذعان . لا يتخيلون أن أحدا من أبناء الشعب المصرى يمكن أن يقول للسلطات لا، حتى لو كانت بسيطة وقليلة الشأن . ومن هنا يشعرون بالخطر المحدق بهم . ولا يتصورون غير حتمية أن يسحق كل من لا يقر بارتكابه جريمة المقاومة لأنه ببساطة يرفض فلسفة النظام العبقرية فى خلق حالة توافقية بين كل المتناقضات ويقيم بينها انسجام نادر . لذلك لابد أن يعاقب بشراسة من يفكر فى هدم البناء . ليس مٌهما لو مات الآلاف من أجل الحفاظ على النظام والسلطة وهيبة الدولة التى توفر الاستقرار الوهمى للملايين، وقد كان يمكن أن تبتلعها الانقسامات والحروب والأنظمة الشيوعية العفنة أو الإسلامية المعقدة. إنهم يحمون البلاد ضد الأعداء بكافة أشكالهم ويثقون أن الأعداء لا ينقضون علينا من الخارج فقد تم تحييدهم وترتيب رشوتهم وإبعادهم، أما الأعداء الحقيقيون المتجددون فهم كل الخارجين على النظام من أبناء البلد.
فى أحد الصباحات التعسة دخل جندى الضرب الذى حضر التحقيق وقال: لن تتناولوا فطوركم اليوم لأنكم ستنقلون إلى السجن
سأل رمزى نصيف بحذر:
- قبل أن نعرف نتيجة التحقيق؟
- نتيجة التحقيق أرسلناها للسجون التى ستنقلون إليها عصر اليوم
مال الجندى وفك الكوز من دلو ماء الشرب واغترف من دلو البول وسكبه فى الدلو الأول مرتين وخرج. حركة بسيطة جدا لم يصاحبها سب ولا ضرب أداها الجندى بهدوء مع ابتسامة خفيفة وكأنه يتمنى لنا ليلة سعيدة . حركة تدل على ضمير يقظ وإحساس، فالجندى لاحظ أن دلو الشرب ناقص ولا يجب تركنا ظمأى فصب فيه كوزين من الدلو الثانى بشع الرائحة
توقعنا والسيارة المغلقة بإحكام تمضى فى طريق المعادى أن يكون مستقرها اللعين فى سجن طرة، لكننا تجاوزنا سجن طرة ومضت السيارة بسرعة أكبر لعدة كيلومترات حتى بلغت مبنى ضخما فتوقفت أمامه وأمرونا بالنزول . كنا سبعة. سور عال يصل ارتفاعه إلى نحو ثمانية أمتار. ويكاد يكون طوله بلا نهاية. تبدو جدرانه خشنة جدا . سأل رمزى السائق عن المكان، قال : طول العمر لك . هذا سجن العقرب.
اصفر وجه رمزى ومؤكد اصفر وجهى لأنى كنت قد سمعت به من صديق صحفى . استقبلتنا بوابة ضخمة مصفحة من الخارج والداخل لا يخترقها الرصاص . وزعونا على الزنازين . عنابر ضخمة ومهيبة . جدرانها سميكة جدا . مبانى لابد إنها ابتلعت كميات هائلة من الأسمنت والحديد قادرة على أن تعيش آلاف السنين شاهدة على وحشية العهد.
أدخلونى زنزانة فيها تسعة معتقلين كانوا جميعا يتأوهون فقد تلقوا وجبة الغذاء منذ قليل . قلت :
- السلام عليكم
لم يرد أحد . اثنان فقط حركا رأسيهما فى وهن شديد . أدركت الحالة المأساوية التى يعانيانها . سقط قلبى فى قدمي. جلست فى موضعى .
كنت ظمآنا جدا ومجهدا جدا لم تلمس شفتاى قطرة ماء منذ الأمس . فى الصباح نادانى جندى فخرجت من الزنزانة . قال : اخلع كل ملابسك إلا قطعة واحدة. تبعته إلى الخارج . وجدت ثلاثة جنود معهم عصى تلمع فى أشعة الشمس . قالوا :
- ستتوجه الآن للتحقيق .
قلت بقدر قليل من الدهشة :
- تم التحقيق معى فى لاظوغلى .
قال أحدهم :
- لاظوغلى مخصص للأطفال . هيا بسرعة نم على بطنك . ستزحف إلى غرفة التحقيق .
نظرت إلى الأرض كان هناك ممر بعرض مترين مفروش بالحصى مسنن الزوايا . انحنيت ببطء فتلقيت أول ضربة من العقرب. أدركت بصورة ما أن لاظوغلى فعلا للأطفال. سقطت على الحصى . هممت أن أرفع جسمى وأعتمد على يدى وقدمى فلم أستطع، ولما تنبهوا لما أنوى عمله كسرت ظهرى ضربة حذاء ضخم أو ربما تم الضرب بالفردتين معا . زحفت بطيئا فمزقنى كرباج . بدأت أقوى عزيمتى وأتعامل مع خناجر الحصى التى تمزق جسدى وتثقبه . خمسة وثلاثون مترا حتى غرفة التحقيق . كنت أزحف كالتمساح الصغير المطعون . لكنى تعلمت كيف أتعامل جسديا مع كل ألوان العقاب حتى الآن . عندما وصلت وأمرونى بالوقوف أمكننى أن أرى بطنى وصدرى وفخذى وقد تحولت إلى غربال تتساقط من ثقوبه قطرات الدم .فتح الجندى بابا حديديا مصفحا . تلاه بعد مترين باب خشبى ربما كان من سمكه مصفحا أيضا . طلع على هواء شديد البرودة حتى أننى ارتعدت وتداخلت لكنى كنت راضيا به وتمنيت أن يدوم قليلا . لمحت ضابطا يجلس على مكتبه الفخم . الحجرة مزينة بالأعلام وبراويز ذهبية بداخلها شهادات وعلى المكتب أقلام فخمة ودفاتر أنيقة وكسوة جلدية . دفعنى الجنود فجأة وبمنتهى القسوة نحو باب آخر . اجتزته فإذا حجرة تفح لهيبا و بها أدوات ومقابض . دفعنى الجندى وأمسك بعصا تبرق لمس بها كتفى فانخلع قلبى وصرخت بشدة . مر بها على صدرى وبطنى ورقبتي
فقدت نصف وعيى ثم لكمنى فأوقعنى . دخل الضابط وقال كلمتين:
- سنجرى التحقيق فى مكتبى ثم توقع عليه .عدم توقيعك يعنى موتك . لا وقت لدينا . واضح ؟
لا أدرى لماذا قلت : واضح
خرج الضابط بعد إشارته للجندى أن يتبعه . جرنى الجندى إلى غرفة الضابط المكيفة . قال الضابط على الفور : وقع
سألت وأنا أوشك على فقد بقية الوعى :
- علام أوقع ؟
ضرب الضابط المكتب بقبضة قوية زلزل صوتها الجدران وزعق : وقع
تلفت حولى فسقطت الصاعقة على ظهرى
انحنيت ووقعت وشعرت بالانهيار . تهاوى جسدى لأفيق فى الزنزانة .
فجأة همست : أين أنت يا ريم ؟ ..أين شباب الحركة . أين شباب 6 إبريل ? .. أنت على كل ظالم يا رب.
قال معتقل تجاوز الستين على الأقل :
- الحمد لله إنك بنفسك صححت النداء . لا تنادى البشر. توجه فقط إلى ربك ..
سألته : منذ متى وأنت هنا ؟
- منذ تسعة وعشرين عاما وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما وخمس ساعات. لم أكن هنا منذ البداية . جئت مع افتتاح هذا السجن عام 1993 . قضيت قبله اثنتى عشرة سنة بين مزرعة طرة وأبوزعبل والوادى الجديد فى سجن بطن الحوت .
تنهدت ودهشت . توقفت حواسى لحظات . أشار لى على المعتقلين الآخرين . أقلهم قضى عشرين عاما، وبعضهم أنجب ابنته ثم دخل السجن وعمرها عام والآن لديها أولاد وهو لا يزال هنا ولا يعرف عن أهله شيئا ولا يعرفون.
سألته عن سجن العقرب. قال . هذا السجن بدأ إنشاؤه عام 1991 تنفيذا لاقتراح من حسن الألفى وزير الداخلية ومساعده حبيب العادلى الذين وافقا على مذكرة قدمتها بعثة من الضباط قضت شهورا للتدريب فى أمريكا . استغرق بناؤه عامين. يتكون من أربعة عنابر تأخذ شكل حرفh . كل عنبر يضم نحو خمسة وسبعين زنزانة مجموعها 300 زنزانة للسجناء وعشرين زنزانة مخصصة للتأديب . كل عنبر معزول تماما عن باقى العنابر ويغلق ببوابات مصفحة من الداخل والخارج أى كأن السجن يتكون من أربعة سجون كل منها منفصلة تماما عن الأخرى، وهناك ستة مكاتب للتحقيقات مكيفة الهواء وملحق بكل منها غرفة تحتوى على أدوات الصعق الكهربائى . وسجن العقرب مبنى على الطراز الأمريكى الذى لا يسمح بمرور الهواء، ويستحيل الهرب منه ولو باستخدام الدبابات .
- أين أنتم يا شباب 6 إبريل؟ وأين أنت يا ريم؟










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة