فى زمن الجائحة، أصدرت دار العين كتاب "دروس أنت فيها المعلم"، ثم استهلت العام الجارى بإطلاق الجزء الثانى منه بعنوان "دروس أنت فيها المعلم – الحصة الثانية" لخبير التنمية البشرية "تامر شلبي" ليواصلَ من خلاله ما بدأه من تأملات فى الجزء الأول، معتبرًا إياه "حصة ثانية" تتطلب إصغاءً أعمق وتأملاً أدق فى تفاصيل الحياة، بهدف إيقاظ العقل والقلب معاً لاستخلاص المعنى الحقيقى من مشوار العمر.
يتساءل الكتاب: كيف يغدو الإنسان قادراً على فهم نفسه؟ وكأنه استحضر روح عالم النفس الروسى "إيفان بافلوف" المعروف بنظرياته حول الاستبطان (مراقبة النفس)، وتأثير التحولات المجتمعية، على السلوك والنفس البشرية، التى كانت وستبقى محاولات فهمها أشبه بمحاولات العثور على ديناصور حى فى الزمن الحالي؛ وبينما لم يركن "شلبي" للتنظير، اختار أن ينسج عبر كتابه دروساً وتأملاتٍ فلسفيةً حول الذات، والعلاقات، والحياة بتحدياتها ومتعتها، بلغة قريبة من القلب وعميقة فى آنٍ واحد.
يدعو "شلبي" إلى البساطة باعتبارها مدخلاً للحكمة، فيقول إن البساطة لا تعنى السذاجة، بل العمق فى الرؤية والتجرد من الزيف، ويرى أن تأمل الطبيعة يوسع العمر العقلي، ويصقل الوجدان، لأنها تمنح دروساً قد تكون مؤلمةً لكنها كاشفةٌ لحقيقة الوجود، وأن تكون عادياً جداً، فيما تقول وتفعل، وحتى يصل القارئ لـ "أعتاب الحكمة" يجب أن يكون مرآةً لنفسه، ذلك أن الحكمة زاويةٌ عمياء، ومَن رآها بقلبه نجا من شَرَك ما يستهلك النفس، موضحاً أن دروس الطبيعة هى التى تُطعم وتُهدهد وتُنقص وتُزيد فى العمر العقلي، بما تمنحه من تجارب، بعضها مؤلمة تقود إلى الاكتشافات الكبرى وتكشف الغطاء لنرى كل شيء على حقيقته.
يمر الكتاب على محطات متنوعة: من الحب باعتباره فعلاً لا قولاً، إلى أهمية التمهل فى فهم التحديات، وصولاً إلى دروس فى السعادة والضحك باعتباره دواءً ومتنفساً، ووسيلة تطهير للروح، وليس تفاهة أو انتقاصاً من الوقار، بل علاجاً لما ليس له دواء، ويصور الكتاب البسمة بصدقة خراجها عن الروح والنفس، وفى أحد الدروس المشابهة يشدد على عدم زيادة تعقيد الحياة، وفى حالة مواجهة ضحية أمر أو مشكلة، أن نكون -على الأقل- محايدين، ونتحدث بأسلوب يخلو من اللوم، وبموضوعية.
غلاف الكتاب
الحياة لا تخلو من الأخطاء لأنها طبيعة بشرية، وبحسب رؤية "شلبي" يجب التعامل معها بعيداً عن تبنى نظرية المؤامرة أو الوقوع فى فخ الضحية، لأنها أدوات وحجة (البليد)، الذى لم يجد تفسيراً كافياً لما يحيط به، فأراد -بسهولة- أن يجعل الجميع أعداءَ، وكان من الأَوْلى التركيز والاعتراف بالحقائق، لأن الإنسان الذى اخترع الطرق، -فيصل المسير فيها الاختيار والإرادة-، لا بد أن يستخدم هذه الطرق للوصول لا للهروب، وهناك تقاطعات تفتح لطارقها أبواباً أُخَر فى الحياة، تشرح الصدر باليقين، وبالتالى يربح الإنسان ما لم يكن فى خاطره، ويكسب ذاته.
يحذر الكتاب من خطر القلق والاستسلام، داعياً إلى التطور الدائم والتعلم المستمر كشرط أساسى للنضوج، وينوه على التحلى بالنوايا الصادقة والشجاعة، وبأن الملامح تعكس ما بداخل صاحبها فهى لا تكذب مهما تنكَّرَ المرء خلف الكلمات، أو حاول التجمل بالكذب وإخفاء الحقيقة، مشدداً على ضرورة إشباع القلب بالصدق والتعامل به لتقبل الآخر، ولضمان نجاح التواصل الإنساني.
يشدّد الكتاب على ضرورة التوازن بين المادة والصحة، مشيرا أن الجسدَ ليس وعاءً فحسب، بل أداةَ الاستمتاع بالحياة وتحقيق رسالتها، ويربط المؤلف بين الوعى المهنى والطموح، مُستلهِماً روح القول المنسوب لعبد الله بن عمرو بن العاص: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، مؤكداً أن الأرجح دائمًا الموازنة دون تفريط ولا تقصير؛ فالحياة عبارة عن مشاهد متتابعة من البكاء والألم والضياع والهدى والسعادة والنجاح والسقوط، ودورات متكررة من كل شيء ونقيضه، حتى الموت.
خبرة "تامر شلبي" فى الموارد البشرية -حيث عمل فى إدارة قطاعات الموارد البشرية بشركات كبرى- حاضرة فى عدد كبير من الدروس، حيث يعرض فلسفته وتأملاته حول بيئة العمل والترقي، ويدعو إلى دراسة التحديات ومحاولة كشف أسرارها المختبئة، وكأن الأمر لعبة ليست بسيطة لكن السعى للترقى والفوز فيها يحتاج إلى مهارة وصبر وقبلهم تأن.
باختصار، كتاب "دروس أنت فيها المعلم – الحصة الثانية" هو دعوة للتأمل والتصالح مع الذات، ورحلة فكرية وإنسانية نحو الحكمة والنضج، عبر دروس بسيطة وعميقة فى آن، تلامس جوهر الإنسان وتدله على طريق الحياة الأكثر صدقاً ونقاءً، للعيش فى سلامٍ نفسيٍّ، والوصول إلى فهم أعمق للذات والوجود.