تنطلق حياتُنا من هناك, من عالم الغيب, من نقطة الصفر, والتي سبقتها آلآف الأصفار, بل ملايين الملايين من الأصفار, تأتي وتتتابع وتتجدد عبر الزمن, كل يوم تولد أصفار جديدة, تكبر وتزداد وتنمو كتلاً من لحم ودم وأفكار ومشاعر, تحب وتكره, تضحك وتبكي, يحوم الأمل واليأس حول رؤوسهم, وفي قلوبهم, وعلى أطراف أصابعهم, وفي خُطُوات أقدامهم, لتعود مرةً أخرى, تتضائل وتنكمش شيئاً فشيئاً, حتى تنتهي إلى نقطة الصفر كما بدأت, وما بين الصفرين كانت رحلتي, رحلة امرأة آفتها الكُبرى أنها امرأة, وليست رجل, تحمل بين جوانحها مشاعر امرأة, قلبها قلب امرأة, نبتت خلاياها من بذور أنثوية, لمست يديها أنثوية, قبل مجيء إلى هذا العالم, كنت كالآخرين صفر, فلا شيء هناك, صفر حيث لا زمن, ولاشيء سوى ضوء يُشع بنوره في أنحاء الوجود, ثم شعلة من نقاء في عالم الغيب, ثم صرخة أمي في المخاض الأخير حين ولادتي, موصولة بصرخاتي, ثم كنت قلباً في مرحلة الحبو, غضٌ ونقي كندى الصباح الباكر, يغسل ما تراكم من تراب تحت الظلام, لم يتعلم شيء بعد, لم يعرف سوى أن يحب ويضحك ويغني ويرقص, ولا يدري لماذا هو يفعل ذلك, كنت صفراً رائعاً حين كنت صغيرةً, أم الآن فأنا صفر أجوف, مزدحم بالأعداد, والأحداث والشجون وقليل من الحب, فهو كوكب ضخم, رأس يحمل أعباءً ثقيلة, وجسد ترهل, من كثرة ما أصابه من سهام الزمن حين كان يصارع, ليظل على قيد الحياة, وما بين الصفرين, كانت هناك أصفار شتى, صفر كبير, وصفر صغير, وصفر عقيم, وصفر لا صفر فيه, قد يخدعنا بقليل من الحيل, لكنه في نهاية الأمر صفر لا شك في ذلك, وسواء تساوت عدد الأصفار, أم لم تتساوى, فكلها في نظري واحدة, لا تعني شيء سوى أنها أصفار متراكمة, صفر في الأفكار, وصفر في المشاعر, وصفر في رصيد البنوك, وصفر في الجيوب, وعند أبواب المحلات, وعلى الشواطيء, ولأنني أملك صفراً عميقاً, ضارباً في جدار عمري المنهار, فإن صورة الصفر تُطاردني في كل شيء, في اليقظة, وفي المنام, تمنع الأحلام, أوتُبدلها كوابيس مفزعة, أراني فيها حافية القدمين, أسير فوق الزجاج المكسور, أهوي من أعالي البيوت ببطيء شديد, أرتطم بالعذاب, وأتساءل فيما بيني وبين نفسي, أليس لهذا الصفر من نهاية؟ فالأيام تمر وتمضي, تُبعدني عن كل شيء, إلا هذا الصفر اللعين, فهو يكاد يكون وصمة فوق جبيني, لا تزول ولا تُمحى, وكلما حاولت تحريكه ولو قليلاً, شعُرت بأنه صخرة, لا تتحرك ولا تلين, أي صفر هذا الضخم الثقيل الجاثم فوق صدري, فحين نبدأ أصفار وتنتهي بنا الأسفار إلى نكون أصفار, فهو شيء مهين, وكأنك لا شيء, جئت إلى الدنيا ورحلت دون أدنى إشارة تقول أن أحداً مر من هنا, أو حتى ضل الطريق, حينما كنت أُهرول نحو الحياة, وأخطو خُطوات عظيمة إلى الأمام, وأعتقد بأني قطعت آلاف الأميال, ثم نظرت خلفي, فإذا بي واقفة مكاني, صفر جامد, لم أتزحزح خطوة واحدة, وحين ألتقي بأصفار أخرى في الشوارع, وفي الحدائق العامة, وفي الأتوبيس المزدحم, وفي طابور العيش, وعلى المصاطب, وعند عربات الفول, وفي المقاهي العتيقة, تهدأ نفسي, أشعُر بألفة غريبة, كأنها رحم تجمع بيننا, فنحن جميعا متشابهون, أبناء صفر الأصفار الأكبر, لست وحدي إذن, فلما البكاء, وهناك أخرين مثلي, صفر في البداية, وصفر في النهاية, صفر على طول الخط, وعلى امتداد الطريق, الآن أنا لستُ حزينة لأننا في النهاية, كلنا أصفار, كما كنا في البداية.
حين ولدتُ كنتُ نقيةً كسماءٍ صافية, غزا النور قلبي, أضاءَ جوانبي, شق بضوئه منافذ نفسي, ملأ النور أرجائي, انتشت روحي خفة, وانطلقت ذراعاي الصغيرتين تستقبل الحياة, كبرت قليلاً فبهتت صفحة القلب قليلاً, ثم كانت خطوط من هنا, وخطوط من هناك, بدأت ملامحي في التغيير, قلَت مساحة الضوء, بدأ النور يخفت, ظهرت نقطة سوداء, كانت صغيرة في البداية, ثم أخذت تتسع ببطيء, ثم تتضخم, وبدأ الصراع, كان صراعاً باطنياً عنيفاً, أرهقني كثيراً.
عندما نُولد لا ندري ماذا تحمل لنا الأيام القادمة, وبعد سنوات نتعجب, حين ننظر إلى الخلف ونتذكر, لم يكن ليخطُر ببالنا ما سيكون, قد تنال منا الحياة, وتحمِلًنا فوق أشواكِها, وتُقلبُنا على جمرِها, ومهما نتلوى ونُعاني, فهي لا تنظُر إلينا, ولا تُشفق علينا, ولا يعنيها ما أصابنا, ونسألها في جدٍ لماذا؟ فلا شيء يُجيب سوى صدى الأنات, التي تخرُج من صدر مكلوم, تخرج فحيحاً من نار ودخان كثيف, يحجٌب عن عيوننا مرأى الأشياء, فنتخبط ونضرب بيدين قويتين على غير هُدىً منا, نُحاول أن نُنقذ أنفُسنا, فإذا بنا وقد غرِقنا في جحيمها المُتقد, نتلوى وتتساقط نفوسُنا, حتى إذا تبدد الضباب وأنقشع الدخان, أدركنا أنه لم يبقى منا شيء سوى أطلال, فنمتلأ حنقاً وضيقاً, ونُحاول أن نستغيث بشيء, لعلنا نعود كما كنا, فلا إجابة, وإذا بنا وقد نبت من حُطامِنا آلاماً قاسيةً مميتة, تلك الآلام تقود خُطانا, وتسوقُنا نحو المجهول.
ما أثقلَ الحياة التي تمر بالإنسان من حين لأخر, يستشعر فيها ضيقاً لا حدود له, فكل شيء أمام عينيه يتشح بالسواد, كل شيء بلون الحداد, كل شيء حزين, غارق في البؤس, يطبع في النفس آلام لا حصر لها, وتظل الحياة تضيق وتظلم, حتى لابصيص من ضوء ينير الطريق الطويل, الممتد عبر اللحوم والدماء, وتزداد الدنيا قتامة, ولا أمل في الرجوع, فهي تشتد وتضيق وتؤلم, حتى لتكاد تكتم أنفاسَنا, فتتركنا أجساداً خاوية, وقلوباً ضامرة, وأرواحاً شاحبة, ونظل أطلال, رغم الأنفاس التي تتردد في صدورنا المكدودة, وإذا كانت الحياة بهذا السوء, فلماذا ولدنا؟ وما معنى أن تكون حياً, وأنت أسير غيرك؟ لا حيلة لك في شيء, وكأنك قشة في مهب الريح, لا تملك سوى الطاعة والإذعان, والخضوع الذليل, لأشياءٍ لا ترى فيها نفسك, ولا تملك أن تقول لا, فإن لا, هي النبذ والالحاد, والخروج والإنسلاخ من جلدك, فلماذا خيروننا بين نعم ولا, إذا كانت لا, لا معنى لها, ولا حظ لها, ولا وجود لها بيننا, وإذا كانت نعم, هي الإجابة الوحيدة, والطريق الوحيد, فما بين نعم ولا, تكون أو لا تكون, تحيا أو تموت, ولا شأن لك بما سيكون من أمرك.
فما أبشع أن تموت وأنت على قيد الحياة, أن تسير فوق الأرض جُثة هامدة, أن يصير قلبك ك لا, لا حظ له من حياة, آلة تتحرك, نبضات لا حرارة فيها, ولا أثر لها فوق الوجنات, جحيم أن تُغتصب منك الحياة؛ لتعيش ميتاً، أن تُكره على حياة, لا حياة فيها، أن تموت حياً, وتحيا ميتاً, وأن تكون الحياة سجناً لعيناً, يجثو فوق صدرك, ولا تستطيع الفرار منه, وأن تُحال البساتين اليانعة بداخلك إلى أكوام رماد, أن تحملك سطوة الآخرين وجبروتهم على ما تُحب, وما لا تحب، تبحث في الوجوه, ولا ترى سوى القيح متجسد في وجوه البشر, ينبعث من مسام جلودهم وألسنتهم روائح كريهة, ذلك شيء مُفزع، ولا أدري لماذا أوهمونا بأننا أحرار، وأن لنا أن نختار، وأن حياتنا رهن إختيارنا, وأننا سنُحاسب على حريتنا, التي لا نملكها، قد كذبوا علينا، أوهمونا كذباً بأشياء لا وجود لها في عالمنا القروي الساذج, إننا جميعاً أسرى, لا حرية لنا في شيء, فليس غريباً أن تراهم يتصرفون وكأنهم أحرار, وكأن أفعالهم نابعة من إرادتهم, فهم غفلى, لا قدرة لهم على مخالفة أوهامهم.