حازم حسين

ماكرون فى أزقّة خان الخليلى.. قوّة الصورة وصورة القوة واحتفاء لا يخلو من رسائل

الثلاثاء، 08 أبريل 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تغنى الصورةُ عن ألف كلمةٍ، وقد يكون لها ألفُ معنىً أيضًا. طبقاتٌ مُتراصّة ومُتراكمة من الدلالات، تتجاور من دون أن تجور إحداها على الأخرى. وجهٌ ظاهرٌ تُوازيه وجوه تتوارَى، ولعلَّها مَخفيَّةٌ قصدًا، أو بالمُصادفة وأثر الكثافة والثراء. ودائمًا تصلُ الرسائلُ لأصحابها المقصودين؛ لأنَّ كلَّ طرفٍ فيهم ينظرُ من الزاوية التى تعنيه، ويرى ما لا يراه الآخرون من ذوى الاهتمامات المُغايرة.


وإنْ شئتَ مثالاً عَمليًّا؛ فليس أدلَّ على تلك الحالة البولوفونية، مُتعدِّدة الأصوات والإشارات، من جولة الرئيس السيسى برفقة نظيره الفرنسىِّ إيمانويل ماكرون، الليلة قبل الماضية، فى قلب القاهرة الفاطمية، وحواريها الضيِّقة لدرجة الاختناق بالزحام، والفسيحة بما يكفى لعرضٍ سياسىٍّ شديد الإحكام والذكاء، ودودٌ فى اتِّصاله بالداخل، وبليغٌ فى تأكيداته للخارج.


يحلُّ ماكرون ضيفًا على العريش اليوم، بعدما استهلَّ زيارتَه بجولةٍ نوعيَّة غير مُعتادة فى الجيزة والقاهرة، تبعتها جلسةُ مباحثاتٍ رسميَّة وتوقيع عددٍ من الاتفاقيات ومُذكِّرات التعاون، ثمَّ قمَّة ثلاثيَّة مع العاهل الأردنىِّ بشأن تطوُّرات الأوضاع الإقليمية، وآفاق التهدئة فى غزَّة انطلاقًا من كبح العدوان، والعودة إلى وقف إطلاق النار على قاعدةٍ سياسية واضحة، تنتهى إلى برنامجٍ مُتكامل للتعافى المُبكِّر وإعادة الإعمار، كانت مصرُ قد تكفَّلت بصياغة تفاصيله الكاملة، قبل أن تُعتَمَد من القادة العرب فى قمّتهم الطارئة بالقاهرة، وتتَّخذ بُعدًا أوسعَ بإقرارها من مُنظَّمة التعاون الإسلامى، ليزداد زخمها مع قبول باريس بمحاورها العريضة؛ ولو بقِيَت بعضُ ملاحظاتٍ فى التفاصيل والتصوُّرات العَمليَّة عن اليوم التالى.
زيارةُ الرئيس الفرنسى الرابعةُ لمصر شديدةُ الأهمية فى وقتِها ومضامينها، وقد تضاعفت أهميَّتُها اتّصالاً بمُستجدَّات الأيام الماضية، سواء من جهة إعلان ترامب لحربه التجارية على العالم فيما أسماه "يوم التحرير"، عبر حزمةِ رسومٍ جُمركيَّة لا تستثنى أحدًا تقريبًا، وتحملُ إشاراتٍ مُزعجةً للحليف الأوروبى أكثر من غيره، أو فى اللقاء الطارئ على أجندة البيت الأبيض مُؤخَّرًا، باستدعائه رئيس الحكومة الإسرائيلية على عَجَلٍ، فى موعدٍ ظاهرُه الاقتصاد وباطنُه السياسة، وستكون ملفَّاتُ الإقليم فى صُلب مُناقشاته، لا سيَّما مع استعداد المبعوث الأمريكى للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، لجولةٍ وشيكة فى المنطقة، فيما يُشبه مُقدّمة الرَّكب لقدوم الرئيس ترامب نفسه، بحسب إشارته إلى احتمالية أن تجرى الرحلةُ خلال مايو المقبل.


فى الشِقّ الثنائى، تتطوّر علاقات مصر بفرنسا، وأوروبا من ورائها. تتعمّق التحالفات، وتُستَكشَف البدائل المُمكنة على كل المحاور، بينما تمضى الإدارة الأمريكية فى طريقٍ تُطوِّق حُلفاءها قبل مُناوئيها، وتُذَخِّر التجارةَ والدولار، وتستخدمُ الأمنَ مَدخلاً للابتزاز والمُقايضة.. لن يتغيّر العالمُ بين يومٍ وليلةٍ، ولا مناص من الاشتباك مع واشنطن أخذًا ورَدًّا، والاجتهاد فى إبقاء القنوات مفتوحةً، والعلاقات دون القطيعة وفوق الإذعان؛ وقد يُفيدُ هُنا إخطارها بأنَّ الأبواب مُشرّعة على كلِّ الاحتمالات، وبأنَّ ما تقضمه بجشعٍ فى الاقتصاد، ربما تُكابده عُسرًا فى غيره، والعكس.


بين السياسة والارتجال عداءٌ عميق، وهى إن كانت وقورًا بطبعِها، وتُفضِّلُ الهمسَ على الصَّخَب؛ فإنها لا تعترفُ بالمجَّانية ولا تُحبُّها إطلاقًا. ومن هذا المُنطلَق يتعيَّنُ النظر فى تفاصيل الزيارة الفرنسية بدقَّة وتعمُّقٍ، وعدم الانشغال بظاهرها عن بواطنها، أو تفويت المضمون فى فوران الافتتان بالشكل.


صحيح أنَّ الاحتفاء قَصدٌ أصيلٌ من جانب الإدارة المصرية، ويغلُبُ على مشهد الجولة الرئاسيَّة المُشتركة فى سوق خان الخليلى وتفرُّعاتها؛ إلَّا أنَّ لكلِّ علامةٍ دلالتَها فى النهاية، الضيف والمُضيف والزمان والمكان، وما طُرِحَ فى ثنايا الحبكة الدرامية من رسائل مَطويَّة، تعرفُ أصحابَها ويعرفونها، وتتقصّدهم بعِلمِ الوصول، وتقولُ بالإيحاء ما لا حاجةَ فيه إلى التصريح، وكلُّ لبيبٍ بالإشارة يَفهمُ، على ما يقولُ الرصافى فى بيتِه الشعرىِّ الشهير.


لستُ مع المُبالغين بإفراطٍ فى تأويل العلامات، ولا مع القافزين عليها أيضًا. الزيارةُ أثرُها المعنوىُّ كبير؛ وإن تضاءل فى فاعليَّته المادية، والحربُ الدائرة طويلةٌ ومُرهقة، ما حسمَها الميدانُ، وما من سبيلٍ للفوز فيها إلَّا بالنَّفَس الطويل وتجميع النقاط. وإذا كان تجلّيها المُباشِر قد نزَلَ على رؤوس الغزِّيين فى القطاع؛ فإنَّ غاياتها المُعلَنَة والخَفيَّة تتجاوزُ فسطينَ بكاملها، وتُرَتِّبُ أعباء ثقيلةً على الإقليم عمومًا، ودُوَل الطَّوق بشكلٍ خاص، والقاهرة على وجه الخصوص.


وبعيدًا من أيَّة شوفينيَّةٍ أو دعاياتٍ لا يحتملُها السياق، كما لم تنشغِل الدولة بها أصلاً؛ فقد ثبَتَ بالدليل العملىِّ أنَّ مصرَ حجرُ العثرة الأخير أمامَ مشروع تصفية القضية الفلسطينية، ويترصَّدها الصديق قبل العدوِّ، وتتعرَّض لعملية ابتزازٍ شديدةِ القسوة والوقاحة، وما يظهَرُ من ضُغوطِها أقلّ كثيرًا مِمَّا تطمره القنواتُ الخَلفيَّةُ، أو يتردَّدُ فى الغُرَف المُغلَقَة.


قبل سنةٍ أو يزيد قليلاً، كان موقف ماكرون مُختلفًا تمامًا عَمَّا آل إليه اليوم؛ بل عن الثابت الفرنسى بشأن الصراع العربى الإسرائيلى منذ تدشين الجمهورية الخامسة. نأتْ باريسُ بنفسِها عن الانحياز الصارخ، ورقصت على حبلٍ مشدودٍ رغم تعقيداتها الداخلية، ومع المجال الأنجلوساكسونى المحيط.


تضرّرتْ من النازيَّة فى الحرب الغربية الثانية، وتملَّصَتْ من الوصاية الأمريكية على أوروبا، وبدت مشغولةً طوالَ الوقت بالحفاظ على قدرٍ من الاستقلال النسبىِّ، حتى أنها أخذت مواقفَ قويَّةً وملموسةً لصالح فلسطين. ولا يُنسَى لها إسناد مُنظّمة التحرير بدءًا من التصويت لصالح الاعتراف بها فى الأُمَم المُتّحدة، ولا أنها كانت فاعلاً أساسيًّا فى سحب المشروعية عن غزو العراق، واضطرار واشنطن إلى تمرير خطَّتها من فوق رأس القانون والمُؤسَّسات الدولية.


حماوةُ الاندفاعة الغربية بعد "طوفان السنوار" ساقَتْها إلى ما يُناقِضُ ثوابتَها القديمة، ودُفعَتْ الإدارةَ الفرنسيَّةَ، بأثرِ الضغط أو الانفعال، إلى مُلاقاة تل أبيب فى جوهر سرديَّتها المُحرَّفة، أو مُنافسة واشنطن فى إثبات الالتزام تجاه الدولة اليهودية.


الخُلاصة أنها مضَتْ لفترةٍ تحت سقف "حقّ إسرائيل فى الدفاع عن نفسها"، وتصاعدت حماسةُ ماكرون لدرجة الدعوة إلى تحالفٍ دولىٍّ ضدّ حماس، على غرار التجربة السابقة مع تنظيم داعش؛ ثمَّ انقشعَ الغبار وتكشَّفَتْ حقائقُ الأرض، وعاد الفرنسيِّون إلى مرفأهم المعهود سالمين. ولم تكن العودةُ خالصةً من التأثيرات المُحيطة، يُرَدُّ بعضُها للوحشية الصهيونية، والبعضُ إلى فجاجة الانحياز الأمريكى؛ إنما لا يخلو الأمرُ من فاعليَّة إقناعيَّة لدول الاعتدال العربية، وليست مصر عنها ببعيدٍ قَطعًا.


ليس هَيّنًا أن تُنتَزَع باريسُ من مدار الرواية الإسرائيلية إلى الضفَّة المُقابِلَة، أو أن تعود لحيادِها المضبوط بالضمير والاعتبارات الإنسانية والقانونية. فرنسا تحتضنُ ثانى أكبر جاليةٍ يهوديَّة خارج إسرائيل، بعد الولايات المتحدة، وهى واحدةٌ من البوَّابات الذهبية للاتحاد الأوروبى، إن لم تكن أهمَّها.


لديها اعتراضاتٌ قديمةٌ على سلوك الولايات المتحدة داخل الناتو وخارجه، وتخلقُ توازنًا مع خيارات برلين المُغرِقَة فى الانحياز؛ استجابةً للابتزاز أو تكفيرًا عن ذنب الرايخ الثالث. والمعنى؛ أننا نكسبُ أرضًا جديدة بالدبلوماسية والدأب، لا من القُوى الهامشيَّة والدول المُحايدة فحسب؛ بل من مَتن العالم الأوَّل، ومَنْ كانوا على النقيض من رُؤانا قبل وقتٍ قريب. وبجانبِ الحقّ والعدل؛ فإننا لا نفتقِدُ وجاهةَ الخطاب ولا قُدرتَه على الإقناع.


استشرفَتْ مصرُ امتدادات الوقائع مُبكِّرًا، واستبَقَتْ بالتمحيص والتفنيد ما كان يُعِدُّ له الآخرون بالتضليل والاحتيال. والحادثُ اليومَ حصيلةُ جهدٍ لم ينقطع منذ الشرارة الأُولى، كانت فاتحته ديناميكيَّة سياسيّة نَشِطَة من الرئيس والمُؤسَّسة الدبلوماسية، تُوِّجَتْ بقمَّة القاهرة للسلام بعد أسبوعين فقط من الطوفان، وبإعادة "حَلِّ الدولتين" خيارًا وحيدًا على الطاولة، وقاطعًا لطريق الابتزاز، ومحاولات التطويع لاحقًا بالترغيب أو الترهيب.
خطابٌ واحدٌ لم يتبدَّل؛ بينما تبدَّلَ الجميعُ من حولها. واشنطن خاصمَتْ تُراثَها فى رعاية جهود التسوية السلمية، ثمَّ عادت، ثمَّ انقلبَتْ عليه مُجدَّدًا. إسرائيلُ ادَّعَتْ الدفاعَ عن النفس لتتمادَى فى العدوان، سرَّبَتْ نوايا التهجير وأنكرتها، ثمَّ تبجّحَتْ بها عَلنًا، بعد إعلان ترامب رغبتَه فى اقتطاع غزة لتكون "ريفييرا الشرق".


حتى حركة حماس، تقهقرت من زعمِها بافتتاح حرب التحرير النهائيّة، إلى مُجرَّد الحلم بالعودة لِمَا قبل السابع من أكتوبر، رفضَتْ خياراتٍ عاقلةً ثمَّ عادت لتقبلَ ما هو أدنى، وخدمت نتنياهو بما يتجاوز أحلامه، عندما بدت مُخلصةً لأجندة المُمانَعة والشيعية المسلحة، أكثر من إخلاصها لفلسطين، وربما لنفسها، أقلّه من جهةِ الرُّشد والاستدامة، ونجاعة المقاومة بالسياسة والسلاح، دون النظر للأُولى على أنها تفريطٌ لازم، أو الذهاب وراء الثانى لدرجة الانتحار المجانى. وكذلك الحزب وإيران، وبعض عواصم الإقليم التى كشفَتْ الحوادثُ عن اضطلاعها بأدوارٍ تُحوّطها الشبهات، وتُقدِّمُ المصالحَ الشخصيَّةَ على الموضوعيَّة، وعلى القضية بشرًا وحجرًا.


أذاعت مصرُ ما تقولُه سِرًّا، واتَّسقَت مع ثوابتها فى الفِعل والقول. يُحارِبُ كلُّ طرفٍ على جبهةٍ واحدة، على مستوى الخصم والأهداف المطلوبة، وتُحارب القاهرةُ على عِدَّة جبهات: العدوّ الجائع، والصديق الطامع، والفصائل المُغرمة بالعاطفة على حساب العقل، والعالم الذى دخل ثلّاجة المَوتى ويحتاجُ لِمَن يستصرخُ ضميرَه، ولا يملُّ من تحصين العدل بالاعتدال، وبناء جبهته مِدماكًا بعد آخر. وعليها لإنجاز المهمَّة أن تُحَفِّز الآخرين، وتتحفَّز على الجبهاتِ كافةً، ولكلِّ الاحتمالات، وأن تكون جاهزةً بقُواها الدفاعيَّة والهجومية، الخَشِن منها قبل الناعم، وأنْ تَرُدَّ على الرسائل فى وقتِها باللغة المناسبة، ولا تتوقَّف عن ترقيتها بتدَرُّجٍ محسوب.


يُناوِرُ نتنياهو من أجل البقاء، والفصائلُ الغزّية أيضًا. أفسدَ الأوَّلُ الهُدنةَ لاعتباراتٍ سياسية داخلية، ولن تعود إليها الثانيةُ إلَّا بعدما تُؤَمِّنُ مَوضِعَها ضمن تركيبة المستقبل؛ ولو كان المُقابل أن تستمرَّ المحرقةُ أو يُطمَسَ القطاعُ وساكنوه للأبد. وإزاءَ الضغوط العاطفيَّة من جهة الأُصوليَّة وحواضنها، والضغط المادى من الصهيونية ورُعاتها، تحتملُ الدولةُ المصريَّةُ دعاياتٍ مُشينةً من الطرفين، ولا تنفعلُ بها، وتستجيبُ بميزانٍ دقيقٍ وفقَ الضرورة والمصلحة. يُزايِدُ الإخوانُ وداعموهم، وتتشكَّى إسرائيلُ من رفع الجاهزيّة فى سيناء، وتتعثَّرُ الإدارة الأمريكية فى رسائلها بين إقدامٍ وإحجام، ومُغازلةٍ طَيِّبةٍ حِينًا، ومُناكفةٍ خبيثةٍ أحيانًا.


رسالةُ الزيارة الفرنسيَّة أنَّ القاهرةَ ثابتةٌ على خطابها، وماضيةٌ فى توسيع قوس احتضانه شَرقًا وغربًا. تواصل جهودها لاستنقاذ التهدئة، بينما تستقبلُ ماكرون قبل أسابيع من مُؤتمرِها لإعادة إعمار غزَّة، وسيعودُ الضيفُ ليبدأ التحضيرَ فى باريس لمُلتقى تحالُفِ حَلِّ الدولتين، وفى المَتن نضعُ تصوُّرًا وحيدًا على الطاولة، قد نقبلُ النقاشَ فى تفاصيله وترتيباته العملية؛ إنما لا مجالَ للبحث فى جوهره، أو افتراض إمكانية الانتقال منه إلى بديلٍ مُضادّ، أو لا يُراعى قائمةَ الثوابت التى تبدأُ من الأمن القومى، وتنتهى إلى حراسة الحق الفلسطينىِّ، وكلاهما عند نقطةٍ واحدةٍ، لا تقبلُ التجزئةَ أو الزحزحة.


وعلى ما فات؛ كانت جولةُ القاهرة القديمة مُحمَّلةً بالرسائل لكلِّ الأطراف. أوّلها أن نتجاوز البديهيَّات إلى موضوعات الخلاف دون تحايُل أو مراوغة، دولةً لدولةٍ، ومصلحةً بمصلحة. الاحترامُ واجبٌ، والندّية فريضةٌ لا فضيلة. السلامُ منفعةٌ مُتبادَلَة وليس فائضًا لجانبٍ على حساب الآخر، القوّة الصلبةُ حاضرةٌ وفقَ ما تقتضى الوقائع، والدبلوماسيةُ بديلٌ ميسورٌ وفى مُتناوَل الجميع، أمَّا الشارعُ فعلى قلبِ رَجُلٍ واحد، لا سبيلَ لإثارته على نظامه السياسىِّ بغَرَض دفعِه فى مسارٍ بعَينه؛ أكان طموح العدو الواضح فى انتزاع مُكتسبات على حساب أمنه القومىّ، أم طمع العدو المُستتر فى الزجّ به إلى مُغامراتٍ انفعاليَّةٍ غير مقبولة، وتضرُّ أكثرَ مِمَّا تنفع.


اختيارُ منطقة الجمالية ليس عارضًا. وقد التقطَتْ الكاميراتُ حديثَ السيسى لضيفِه عن نشأته فى المنطقة، وأنه عرفها خليطًا مُتنوِّعًا من كلِّ الطوائف والأديان، وفيهم اليهود، وما تزال حارة قريبة تتسمّى بهم. إنها رسالةٌ برغبة مصر فى التعايش، وتجربتها الطويلة معه، وبأنَّ الخارجين منهم بعد تلفيق دولة إسرائيل خرجوا بإرادتهم. رسالةٌ سيحملها ماكرون معه إلى العريش أوّلاً، بينما تتجاور الجهود الإنسانية مع يقظة المُقاتلين، وعلى بُعد كيلو متراتٍ قليلة من الجريمة الصهيونية النكراء؛ ثمَّ إلى باريس، وما سيتولَّدُ عنها من خطاباتٍ ومواقفَ فى مُقبل الأيام.
كان المُتوَقَّع أن تُهندَسَ الزيارةُ أَمْنِيًّا، وهو مِمَّا لا حرجَ فيه أو غُبار عليه فى كلِّ الفعاليات الرئاسية على امتداد العالم؛ لكنَّ إرادة المُنَظِّمين انصرَفَتْ إلى مُعاينةِ واحدةٍ من أشدِّ مناطق العاصمة ازدحامًا، وبينما تفتحُ المحلّات أبوابها، ويختلطُ الرسمىُّ بالشعبىِّ فى مشهدِ التحامٍ عميق، يتخطَّى اعتبارات الدوائر الأمنية، ويُسَفِّه عَمَليًّا من أيَّة أُطروحاتٍ مُناقِضة عن مناعة الجبهة الداخلية، ودعمِها لخيارات القيادة، وجاهزيَّتها للسَّير وراءها فى كلِّ الطُّرق والاحتمالات، ومن دون أىِّ هامشٍ للتشغيب أو الفتنة. ما يعنى إخطار الجميع بانغلاق باب الشارع فى وجوههم، وبأنَّ عليهم مُخاطبةَ مصر على عنوانٍ واحد وحيد، يعرفونه جيّدًا، واختبروا مواقفَه ورسوخَها طيلة الشهور الماضية.


من مزايا الفَنِّ أنّه يُوَجّه من دون توجيه، ويُعَلِّمُ بلا رطانةٍ، أو إغراقٍ فى المواعظ والدروس المُباشرة. والحالُ التى خرجت بها زيارةُ ماكرون للقاهرة عَملٌ فنىٌّ بالغُ النضج والإبداع، يُسَرِّبُ حمولاته عبر طبقاتٍ تتوالَى فوقَ بعضِها، لا تخلو من بهجة الصورة، ولا يعوزها عُمقُ المضمون.


والحقّ أنّها لم تَكُن أُولى اللمسات المُتقَنَة؛ إذ لم تتوقَّف الدولة عن إحراز الأهداف مهما تبدَّلَتْ الملاعب واختلف اللاعبون، من الأجندة الرئاسية، إلى روزنامة الدبلوماسية اليوميّة، ودأب الأجهزة الصُّلبة وكفاءة تحرُّكاتها، وتنَوُّع الرسائل فى الزمان والمكان والمحتوى. الكلام الموزون بالذهب على وقتِه، والصمت عندما يكون أثمنَ وأكثرَ تعبيرًا، أو يكون الخصم تافهًا وموضوعُ الحديثِ مُبتَذَلاً.


أوركسترا تعزفُ باحترافيَّةٍ وإتقان، وباستمتاعٍ يُغلِّفُ أداءهم؛ فينعكِسُ على جمهورهم البعيد قبل القريب اقتناعًا وتطريبًا، وعلى المُناكِفين بالارتباك فالانكشاف. معركةٌ صَعبةٌ بالتأكيد، ومُؤلِمَةٌ قطعًا، وستكون رابحةً فى آخر المطاف؛ لأنها عادلةٌ أوّلاً، ولأنَّ جنودَنا فيها يخوضون المواجهةَ برساليّةٍ صافية، وصبرٍ وطنىٍّ عظيم، ودأبِ نَسَّاجٍ يُعَشِّقُ خيوطَه مُتأنَيًا رغم اكتمال اللوحة فى مخياله، والأهمُّ أنهم ينطلقون من إيمانٍ لا يتزعزعُ فى أنَّ مصرَ على الجانب الصحيح، تنتصرُ للجُغرافيا، ومن مَكرورِ عاداتها ألَّا يخذلَها التاريخ.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة