حازم حسين

المهم ألا يعود الغريق إلى الماء.. اتفاق غزة بين انتقال وتمديد أو احتلال واختلال

الإثنين، 03 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ليس أصعب ولا أقسى من الحرب الطويلة على قطاع غزة؛ إلا أن تعود مُجدَّدا. قضى المنكوبون خمسة عشر شهرا تحت النار؛ لكن أثر أسابيع التهدئة الستّة عليهم ربما يكون أكبر، لا من ذاكرتهم القريبة مع العدوان المتوحش؛ بل مِمَّا يترسّب فى وعيهم عن الحياة نفسها.

كأنهم أُنقذوا على بُعد خطوة واحدة من الهلاك. حالة أقرب إلى الغريق الذى تداركته يدُ العناية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. والبقاء على الشطّ ولو مُبتلِّين أرحم كثيرًا من الرجوع إلى الماء. إن أثر الرصاصة اليوم أضعاف ما كان فى السابق، ولن يكون الموت كالموت، ولا تحتمل الآمال الغضّة أن تُقبَر مرّتين.

انتهت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة مطلع الأسبوع. انقضت ستّة أسابيع بما فيها من ترتيبات تبادل للأسرى والمحبوسين بين الاحتلال وحركة حماس، وتعطَّل المسار المُقرَّر سلفًا بشأن الانتقال بين المراحل، لتشغيبٍ مقصود من جهة نتنياهو، واستعراضات ساذجة من القسّاميين، أمدّته بالذرائع وفتحت له طريقًا سهلة إلى المراوغة والالتفاف على التفاهمات.

كان يُفترض أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية فى اليوم التاسع عشر من الهُدنة، أى بحلول الثالث من فبراير المنقضى. تعثّرت الخُطى، وامتنع ذئب الليكود عن إرسال وفده المفاوض إلى الدوحة أو القاهرة، قاصدًا أن يُؤخِّر الذهاب إلى ما بعد رحلته للولايات المتحدة، ولقاء ترامب فى البيت الأبيض، وفيها سمع ما يتجاوز أحلامه، وما شجّعه على أن يواصل لُعبة استنفاد الوقت والقفز إلى الأمام.

يُلقَى العبء الأكبر على كاهل النازية الصهيونية، وعجوزها القابض على السلطة بأصابع التوراتيين وأحزاب المستوطنين. لكن الطرف الآخر ليس بعيدًا من التساؤلات العالقة؛ لا سيّما من جهة الرؤية السياسية الغائبة عن عقل حماس حتى الساعة، والمُكابرة فى الوفاء بالالتزامات المطلوبة، أو إبداء أية بادرة طيبة لجهة النزول على شروط اللحظة، والاجتهاد فى مُداواة تداعيات النكبة الثقيلة؛ شريطة الاعتراف بكونها مأساة أصلا، وليس التمادى فى تلطيفها بالبلاغة والتسميات الخادعة.

والحال؛ أن غزّة عبرت على مرحلة من ثلاث بموجب اتفاق وقف الحرب. وما كان مُتاحا التوصّل إليه أصلاً لو تُرِكَت المسألة بين الغريمين. وإذ يُمكن الاختلاف فى تقدير الأمور، بين الحاجة أو الاضطرار، فالمُحصّلة أن تل أبيب ذهبت للصفقة مُرغمةً، والفصائل الغزّية أيضًا، وما تبدّلت التوازنات الدافعة للتهدئة فى شىء، ما يصحّ معه القول إننا بعيدون من عودة الحرب، بينما تتواتر المُؤشرات من جهة الاحتلال والمقاومة على العكس.

أعلن رئيس الحكومة العبرية من خلال مكتبه، وقف إنفاذ البضائع والمساعدات إلى القطاع اعتبارا من الأحد، اليوم التالى لانتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار. ولأجل التغطية على السلوك الإبادى وغير الإنسانى فى القرار، زعم أن تدفقات الأسابيع الماضية توفر مخزونًا كافيًا لخمسة أشهر، كما لو أنه يغسل يديه ابتداءً من الجريمة، ويضغط على أعصاب المدنيين بالمُدّة الطويلة وما سيتخلّلها من مخاطر ومُثيرات قلق.
طائرة مُسيّرة قصفت تجمّعًا فى شمالىّ القطاع، وما توقّفت الانتهاكات طوال أسابيع التهدئة. وإذا كان العدوّ قد استمرّ فى العدوان تحت قيود الصفقة؛ فماذا يُتوقَّع منه وقد تجمّدت تقريبًا، أو دخلت فى سياق الريبة والغموض، بحيث لا يمكن القول إنها قائمة أو مُنتهية، ولا يُؤمَن فى أيام السيولة والشكّ من الغدر، أو إنزال ضربات ثقيلة ودامية على رؤوس الضائعين فى العراء، وبين أطلال البيوت وتلال الركام.

يُثار أن ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب للشرق الأوسط، يقترح تمديد المرحلة الأولى لحين الاتفاق على ملامح الثانية، وتفاصيل الانتقال وشروطه، وأطروحته مشمولة بالإفراج عن نصف الرهائن، الأحياء والأموات، مع بدء التمديد، على أن يُدرَج الباقون جميعًا فى دفعة لاحقة، بعدما يُتوَصّل إلى تفاهمات بشأن الدخول فى الحلقة التالية من صفقة الخروج من الحرب.

والحماسيون، يرون من جانبهم أن أيّة مُقاربات لا تُحقّق القفزات المُقرّرة سلفًا، إنما تصبّ فى صالح الاحتلال لجهة البقاء عند الجملة الافتتاحية، وتضييع الوقت، واستنفاد خزّان الأسرى بوصفه ورقة المقاومة الوحيدة.

وعليه؛ فإن التمديد لا يُساق على نيّة إفساح المدى المطلوب للتفاهم على النقاط الخلافية؛ بل باعتباره هدفًا مقصودًا فى ذاته، ومنتهى ما يُمكن أن يتقصّده نتنياهو وحكومته، فى المدى الراهن على الأقل، وطالما لم تُثقل الضغوط كاهله، أو تردّه عن لعبة إبقاء الميدان ساخنًا والتسوية مُعلّقة.

كانت تجربة الهُدنة الأولى، أواخر نوفمبر قبل الماضى، إشارةً مُبكّرة إلى صعوبة تقريب الرؤى بين أُصوليّتين هائجتين، طالما تخادمَتا قصدًا أو اعتباطًا، وليس من السهل فض الاشتباك بينهما بعدما تموضعا فى مواجهة عدائية صريحة.

شهور طويلة بين القاهرة والدوحة وباريس وروما، ومُداولات فى أرجاء الأرض: فلسطينية إسرائيلية، وفلسطينية فلسطينية، وهَدَن عِدّة تفجّرت فى اللحظة الأخيرة قبل إنفاذها، ومصالحة وطنية مُعطّلة وتُلقى ظلالاً سوداء على غزّة خاصة، وعلى القضية فى العموم. والوساطة فى مناخ كهذا؛ كانت مهمة مُضنية لأطرافها، ورتّبت أعباء لا حدّ لها فى الاتصال والحوار، وفرضت إرجاء أمور وتقديم غيرها.

وعلى ما فات؛ فالمرحلة الأولى استبعدت أغلب المسائل الجدلية، وعملت على الانطلاق من المُشتركات أو الموضوعات محل الاتفاق، لأجل إسكات البنادق على وجه الاستعجال، والتصدّى للكارثة الإنسانية المتضخمة فى أرجاء القطاع، ومنهما تتوالى الجهود لبناء الثقة وتحقيق الانتقال المطلوب بين المحطات.

يُمكن القول إن الصفقة تجاوزت العقبة الأصعب؛ لجهة الخروج من الميدان وترتيب طاولة الحوار، ولو من مسار غير مباشر. وبالدرجة نفسها يصح الجزم بأن الأصعب والأسوأ لم يأت بعد؛ إذ ما تزال عناوين اليوم التالى وآلية حُكم القطاع ومآل حركة حماس قيد البحث، ولا وفاق عليها، وعليه يسهل تفخيخ التهدئة من أحد الطرفين بأقل قدرٍ من الجهد.

يخشى نتنياهو من تطبيع حال الاستقرار على مستقبل حكومته. صحيح أنه يتقدّم فى استطلاعات الرأى؛ لكن آراء الناس فى أزمنة الحرب ليست كما فى أوقات السلم، وأيّة انتخابات مُبكّرة ستقلب الطاولة على الأرجح، خصوصا لو تأسَّست أحزاب جديدة من يمين الوسط، أو تكتّلت مجموعات وائتلافات من دوائر الخصوم شديدة الاتساع.
استكمال اتفاق غزّة يقضى بالانسحاب الكامل من القطاع، ومغادرة محور فيلادليفيا على الحدود مع مصر، والاستعداد لمرحلة طويلة من جهود التعافى وإعادة الإعمار، بما يعنى نسف أية آمال ذابلة فى التهجير قسرًا أو طوعا، وفى انتشال خطّة ترامب من الضياع؛ رغم معرفة المتطرفين فى تل أبيب أنها وُلِدَت ميّتة، ولا أُفق لها اليوم، ولا فى أى مستقبل قريب أو بعيد.

وإذ يبدو بقاء الغزيين على أرضهم نهائيا، ولا سبيل لإزاحة الكتلة البشرية الهادرة عن مواضعها، ولا لأن يسيطر الأمريكيون على القطاع بالأصالة وفق تصوّر المشروع العقارى، أو بالوكالة على نيّة نقل الولاية عليه لإسرائيل؛ فإن ما يتبقى لدى الأخيرة أن تعمل على ترتيبات ما بعد الحرب، وأن تنصرف جهودها إلى أفضل ترتيبات ضامنة للأمن والاستقرار، والنظر فى آلية الصراع مع الفلسطينيين بعدما تضاعفت الصلابة بالإبادة، وعاد «حل الدولتين» إلى طاولة التداول.

والإقرار بحق المقاومة، وشرف المشاريع التحرُّرية ونضالاتها؛ لا يعنى أن نغفل عن إخفاقات حماس المتوالية، من أوّل «الطوفان» الذى كان مُقامرة غير محسوبة تماما، وإلى نزاعاتهم الداخلية التى تتجلّى فى تفاوت التصريحات العلنية، كما بين خليل الحيّة وموسى أبو مرزوق وأسامة حمدان مؤخّرا، والأهم استمرار المُكابرة فى الخروج من مشهد الإدارة التنفيذية للقطاع، وسدّ الذرائع لدى الاحتلال، عبر المبادرة إلى دعوة السلطة الوطنية لتولى مقاليد الأمور فى عموم غزّة.

كان السنوار رومانسيًّا ساذجا فى أحسن الفروض، ومُغامرًا انتحاريًّا فى سياق أجندة أيديولوجية فوق وطنية فى أسوأها. وكفاءة الورثة إنما تتحدّد بالقدرة على امتصاص التداعيات، وترميم ما أحدثه من شقوق واسعة فى الحركة، وفى جدار القضية نفسها، وليس بمواصلة النزق والشعبوية وتجارة العواطف الرديئة، كما كان فى جولات التبادل وتسليم الرهائن بما شابها من دعايات سطحيّة، ربما حقّقت الإشباع النفسى لدى مُقاتلى القسّام؛ لكنها ما أغنت المنكوبين من عوام الغزّيين، ولا غيَّرت من حقيقة الهزيمة الثقيلة لتصير نصرًا؛ للناس أو الفصائل أو الوطن الضائع.

والصعوبة الماثلة اليوم لدى الفريقين بالقدر نفسه. التشدُّد الأكبر ينبع من جهة النازى المسعور بنيامين نتنياهو؛ لكن مفاتيحه لدى الإدارة الأمريكية، وترويضه ميسور، وترامب لا يُريد استعار الحرب مُجدَّدا فى المنطقة، ولا المُخاطرة بامتداد ألسنة اللهب إلى ما يتجاوز حدود فلسطين التاريخية. أما «حماس» فإن عليها أن تفصل حاضر القطاع عن مستقبله، وألا تتخفّى وراء ورقة الرهائن لتُبقى الأوضاع سائلة وغامضة.

على الحركة أن تُعلن بوضوح لا يقبل التأويل أنها لم تعُد حكومةً انفراديّة للقطاع، ولا سلطة لديها على الجهاز التنفيذى ويوميّات الناس فى غزة، وأن تدعو منظمة التحرير والأجهزة المنبثقة عنها إلى استلام الراية بوصفها السلطة والممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى، وبحيث تعود القضية إلى أجندتها الجامعة، وتغسل وجهها من دعايات الوصْم والتشويه المرافقة للإخوان وبقيّة التيارات الراديكالية وحلفاء المُمانَعة، ويُدار النقاش بكامله فى سياق الصفة القانونية والتمثيلية المنضبطة وفق المعايير الدولية.

حتى لو احتفظ القسّاميون بما تبقّى من الأسرى؛ فلن يكون مقبولاً فى أية مرحلة مُقبلة أن تظل الحركة فى واجهة المشهد، أو طرفًا مباشرًا فيه، ولن يتيسّر إطلاق مسيرة الإعمار فى وجودها، ودون ضمانات عملية راسخة إلى أن نزوات الأصولية لن تُحرق أحلام المستقبل. ما يعنى أنه لا نفع لأوراق «حماس» إلا بقدر ما تساعد على تجاوز النكبة الراهنة، والانتقال إلى مرحلة أفضل لاحقًا، والأهم برهنة الحركة على ديناميكيتها، وقدرتها على الاعتراف وشجاعتها فى تحمّل المسؤولية.

يُمكن النظر فى تمديد المرحلة الأولى؛ فى حال أن تكون بشروط مطابقة أو قريبة لما كان منصوصًا عليه فى الثانية. الغرض أن تتوقف الحرب نهائيًّا، وأن تتشكَّل إدارة مدنيّة جديدة، بملكية فلسطينية، ومن دون هيمنة أو حضور حماسيِّين.

نتنياهو قد لا يستطيع الرجوع إلى الحرب؛ ولو منحه البيت الأبيض «بطاقة بيضاء»؛ طالما أن الأسباب والذرائع لم تعُد قائمة. مواصلة حماس اغتصاب الحُكم فى القطاع، والإيحاء بأنها «الطوفان واليوم التالى» كما استعرضت بغباوة على منصّات التسليم، أكثر ما يخدم زعيم الليكود ويخصم من منكوبى غزة.

الإدارة الأمريكية تنتظر الخطّة العربية لِمَا بعد الحرب؛ أى تنتظر موقف مصر العملىّ بعدما تصدّت بقوّة لخطط التهجير، وأفسدت الأطروحة وحدها قبل أن يلتحق بها بقيّة الأشقاء. القمة الطارئة فى القاهرة ستُؤمِّن على رؤية الانتشال والإنقاذ، وستلعب دورًا مهمًّا فى إحباط ما تبقّى من أحلام الصهاينة وأوهامهم، وفتح مسار للنظر فى مستقبل غزة، بغضّ النظر عن الانتقال للمرحلة الثانية أو البقاء لأسابيع أخرى فى الثانية.

تشغيب العدوّ من البديهيات المتوقّعة، ولا يُنتظر منه خلاف ذلك. الغريب لو أُثير الغبار من جانب الشقيق، أو تطوّع به ذوو الضحايا خدمة مجّانية للجلاد. يتوجّب على حماس أن تنزل على إرادة الحاضنة العربية، وأن تخرج من أوهام الأيديولوجيا والتحالفات والانتصارات المزعومة إلى حقائق الواقع، وتترك القضية لتتعافى وتتنفّس هواء نظيفًا.. نتنياهو سيواصل زرع الألغام وافتعال العثرات، ولا يُمكن قطع الطريق عليه؛ إلا لو توقّف مُعاونوه من الطرف الآخر عن الحَفر وتخليق الذرائع. وقعت الهزيمة للأسف ولن يُغيّرها الإنكار؛ والحركة ليست أهم من الأرض والبشر، والغباء كل الغباء أن يبقى المهزوم فى الحلبة؛ تاركًا للخصم أن يُسجّل مزيدًا من النقاط السهلة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة