في خضمّ تقلبات المشهد الإقليمي والدولي، تبرز معالم جديدة في العلاقات الاستراتيجية والعسكرية تفرض نفسها على خارطة الصراعات. تُعدّ التحركات الأمريكية في المياه الإقليمية وتوجهاتها العسكرية، التي ترصد أكبر تجمّع عسكري منذ حرب الخليج، مؤشرًا على استعداد أمريكي لإعادة رسم موازين القوى في الشرق والغرب الأوسط. إذ يُطرح التساؤل: هل يستهدف هذا الحشد دعم جهات معينة في المنطقة كجهود القضاء على جماعات مسلحة مثل الحوثيين، أم أنه تمهيد لعملية عسكرية موسّعة ضد إيران بعد انقضاء المهلة المتعلقة بالملف النووي؟
على الرغم من التفسيرات المتباينة، يكشف التحليل العلمي الدقيق عن أن حجم التجهيزات والعتاد العسكري يتجاوز ما يُستدعيه التعامل مع جماعات محلية أو تحركات فردية؛ إذ تشير المؤشرات إلى استعداد أمريكي يشمل آفاقاً استراتيجية تتجاوز حدود التعامل مع قضايا محلية، وهو ما يضع مصر في موقع ضغط إقليمي. ففي ظلّ السياسات التي تنتهجها بعض القوى العالمية، تبدو مصر وكأنها المصدّ الرئيسي لتصويب خطط تهدف إلى تغيير التوازن الإقليمي وإعادة توزيع النفوذ، خصوصًا مع تواصل محاولات بعض الجهات لتصفية القضية الفلسطينية واستقطاب قوى محلية وإقليمية في إطار معركة جيوسياسية واسعة.
بالتوازي، تواجه مصر ضغوطًا متزايدة، إذ تأتي هذه التحركات في ظل محاولات فرض حلول أحادية للقضية الفلسطينية، تتجاهل الحق التاريخي للفلسطينيين وتضغط على القاهرة لقبول مخططات التهجير. على الأرض، تعيش غزة مرحلة غير مسبوقة من الغضب الشعبي ضد حركة حماس، بعد أن أوقعت القطاع في أزمة خانقة منذ هجوم 7 أكتوبر 2023.
في قطاع غزة، تُلاحَظ مظاهرات شعبية واسعة تنتقد الجهات التي أسهمت في إحداث الانقسام الداخلي، وتطالب بإسقاط التيارات التي تُستغل لتحقيق أهداف خارجية على حساب الأمن والاستقرار. وقد أُثيرت الأصوات التي تنبه إلى أن بعض الحركات المسلحة ليست إلا أدوات في يد قوى خارجية تسعى لتأجيج النزاعات داخليًا، مما يقوض جهود تحقيق الوحدة الوطنية والصمود أمام المحاولات الهادفة لتفكيك دولة الحق والكرامة.
وفي سياق متصل، يتجلى تحوّل مشهد السياسة الأمريكية الداخلية في ظلّ أزمات اقتصادية واجتماعية عدة. فقد أعقب فترة إدارة تعتمد على سياسات نيوليبرالية أدت إلى تضخّم اقتصادي وهستيريا في أسعار الفائدة، ما أفضى إلى موجة تسريح واسعة من الموظفين. وبرغم التوترات الداخلية، برزت شخصية ترامب كرمز للعودة إلى قيم محافظة تسعى للحد من تداعيات العولمة وتحجيم تأثير التيارات الليبرالية. إلا أنّ القرارات المفاجئة التي اتخذها لاحقاً أثارت تساؤلات حول مدى توافقها مع الوعود الانتخابية، إذ اتسمت بسياسات مباشرة بدون دراسة كافية للآثار الاجتماعية والاقتصادية، مما زاد من حالة القلق الجماهيري والاضطراب داخل الدوائر الحاكمة.
وتتداخل هذه التحولات مع سياق أوسع في منطقة الشرق الأوسط، حيث يشهد المشهد الجيوسياسي تلاقي عدة عوامل من ضعف الدول الوطنية وصعود الميليشيات والحركات المتطرفة. فقد أدت الفوضى الإقليمية الناجمة عن انهيار بعض الأنظمة إلى خلق فراغ استراتيجي شاسع، تسعى قوى خارجية لاستغلاله لإعادة توزيع النفوذ؛ من تركيا وإيران إلى قوى غربية تتطلع إلى السيطرة على مسارات التجارة والتحركات العسكرية في المنطقة. ويُستدل على ذلك من خلال سياسات التقسيم المتعمدة التي تعيد رسم الحدود الجغرافية السياسية بين دول الشام والعراق، مما يزيد من تعقيد الصورة الأمنية والاستراتيجية.
في هذا السياق، تبدو مصر كحجر الزاوية في معادلة التوازن الإقليمي، إذ لطالما كانت المصد والقوة الداعمة لقضايا المنطقة، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري. تستند مصر إلى تاريخ حافل من مقاومة التدخلات الخارجية وبناء هياكل وطنية مستقرة، مما يجعلها مرجعية أساسية أمام محاولات تفكيك الوحدة العربية وتفريغ المؤسسات الوطنية. ومن هنا، فإن تعزيز القدرات الدفاعية والاستراتيجية لمصر لا يعدّ خيارًا بل ضرورة ملحّة في ظلّ التحديات الراهنة.
وسط عالم يميل إلى تفكيك الدول ودعم الميليشيات، يأتي انتصار الجيش السوداني ليؤكد صحة الرؤية المصرية التي لطالما دافعت عن دور الدول الوطنية. فبينما تسعى القوى الكبرى لإضعاف الجيوش لصالح كيانات مسلحة يسهل التحكم فيها، تقف مصر بثبات ضد هذا المخطط، داعمةً استقرار السودان ووحدة أراضيه. تحرير الخرطوم ليس مجرد حدث عسكري، بل انتصار لنهج يؤمن بأن قوة الدول تبدأ من مؤسساتها، وليس من الفوضى التي تُفرض عليها.
ختامًا، تُظهر الأحداث والتحولات الجارية أنّ المنطقة تقف على مفترق طرق، حيث تتداخل مصالح القوى الكبرى مع التطلعات الوطنية للدول، في محاولة لصياغة نظام جديد يضمن استقرار الحوكمة والأمن الإقليمي. يتطلب الأمر قراءة تحليلية عميقة ترتكز على معطيات علمية واستراتيجية لتفكيك المشهد الحالي، واستشراف المستقبل في ظلّ معادلات قد تغير موازين القوى وتعيد رسم خريطة النزاعات في الشرق الأوسط.