في خلفية الضجيج اليومي، حيث تحيطنا جدران من الأرقام والشهادات التي تُحاك حول عالم المال، تبرز جريمة تُغسل في مياه عكرة ولا يُمكن لأحد أن يراها بسهولة، جريمة غسل الأموال، التي قد تبدأ من تجارة المخدرات أو الأسلحة أو حتى الذخائر غير القانونية، ولكن النهاية واحدة؛ محاولات متعددة لإخفاء المال المشبوه تحت غطاء النشاطات التجارية المشروعة.
حملات وزارة الداخلية الأمنية التي شنتها مؤخرًا، والتي استهدفت تجار المخدرات والأسلحة وعصابات غسل الأموال، كانت بمثابة إعلان حرب ضد هذا السرطان الذي يتسلل إلى قلب الاقتصاد، يطمس معالم الحقيقة ويعكر صفو المجتمع، فهؤلاء الذين يكسبون المال من التجارة بالأرواح والأعراض، يسعون لتحويل أموالهم القذرة إلى صفقات تُنسب إلى كيانات قانونية؛ عقارات، شركات، سيارات، وأراضٍ زراعية.
قدرت الحملات الأمنية الأخيرة الأموال المغسولة التي تم تتبعها بأكثر من نصف مليار جنيه، من بينها قضية تم ضبطها بقيمة 50 مليون جنيه والتي تم غسلها من خلال شراء أراضٍ وعقارات، هؤلاء الأشخاص الذين تحاك حولهم الحيل لإخفاء مصادر أموالهم، يجدون في الاقتصاد "المشروع" ملاذًا يلجأون إليه ليصبغوا أموالهم بالصبغة الشرعية. ولكن ما يفعلونه ليس سوى إعادة ترتيب الصور في إطار ملوث.
في وقتٍ آخر، وفي محافظة الفيوم تحديدًا، تمكنت الأجهزة الأمنية من القبض على شخصين كانا قد حاولوا تحويل مديونياتهم، التي تقدر بـ 35 مليون جنيه إلى مال ناتج عن نشاط قانوني، ليعكسوا صورة مزيفة من الثراء عبر تأسيس شركات وشراء عقارات.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل تم ضبط شخص في الجيزة كان ينجز نفس الجريمة، حيث كانت عمليات غسل الأموال تصل إلى حوالي 153 مليون جنيه من خلال الاستثمارات العقارية والسيارات.
ومع مرور الأيام، تتوالى الحملات الأمنية لتكشف عن شبكات واسعة تحاول غسل أموالها في مختلف المحافظات؛ فبين مطروح وأسيوط، تستمر الأرقام في الصعود وتصل تقديرات غسل الأموال إلى 110 مليون جنيه وأكثر، وفي كل مرة، نجد الأموال المغسولة تُحول إلى مشاريع تجارية وأراضٍ وممتلكات، وكأن القانون يغسل يد الجناة من الجريمة.
ولكن، حتى وإن استطاع هؤلاء إخفاء المصدر غير الشرعي لأموالهم، تظل الحقيقة عميقة في قلب كل ملف، بين أيدي الأجهزة الأمنية، في محاكمة مستمرة لا تكل ولا تمل من سعيها لتطهير المجتمع من هذا الوباء، كل قضية مغسولة، كل ثروة مشبوهة، هي بمثابة درس للجميع بأن المال القذر لن يظل خفيًا إلى الأبد.
جريمة غسل الأموال لا تعني فقط إعادة تشكيل المال، بل هي عملية تحريف وتزييف للواقع، تحويله إلى شكل يبدو مشروعًا، لكنه يحوي في طياته فسادًا يستنزف قوة الاقتصاد.
وبينما تتسارع حملات وزارة الداخلية بناء على توجيهات وزير الداخلية اللواء محمود توفيق للقبض على هؤلاء الجناة، نرى أن الحرب على غسل الأموال هي حرب مستمرة، ليست ضد المال فحسب، بل ضد كل من يحاول أن يستغل القانون ليخفي جرائمه تحت ستار البراءة.
ما زال القانون، وما زال الوعي الشعبي، وما زالت العدالة، تدور رحاها، لتفكيك هذه الشبكات، ولتثبيت مفهوم أن الأموال المشبوهة، مهما تغيرت مساراتها، ستظل دائمًا تشع بنور الكذب.