كان الوقت فى منتصف الساعة الحادية عشرة مساء السبت 15 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1919، حين أسلم الزعيم الوطنى محمد فريد روحه، بعد غيبوبة وإفاقة فى أيامه الأخيرة بمسكنه بالعاصمة الألمانية «برلين»، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «محمد فريد رمز التضحية والإخلاص».
كانت وفاته ختاما لغربة بدأت فى 25 مارس 1912 بمغادرته مصر سرا بتدبير من قيادات الحزب الوطنى الذى كان يتزعمه خلفا لمصطفى كامل، لتأكدهم من عزم الإنجليز والحكومة على سجنه، كما كانت الوفاة ختاما لحياته التى بدأت بمولده يوم الاثنين 30 يناير 1868 وعاش فيها الفقر والغنى، والنضال فى الداخل والخارج، ويذكر الرافعى: «نشأ فى بيت مجد رفيع العماد، فهو ابن «أحمد فريد باشا» الذى صار ناظرا للدائرة السنية سنة 1886، وكان من كبراء مصر المعدودين، واشتهر بعلو النفس والأخلاق القويمة».
ويصفه الكاتب الصحفى صبرى أبو المجد فى كتابه «محمد فريد، ذكريات لا مذكرات»: «ولد كما يولد أبناء الأمراء فى فمه ملعقة من ذهب، عاش كما يعيش أبناء الحكام الكبار، بين القصور العالية المليئة بالخدم والحشم، لا يعرف وما ينبغى له أن يعرف شيئا عن الشعب أملا وألما، وتدرج كما يتدرج أبناء الكبراء والحكام الإقطاعيين الكبار فى الوظائف التى تقربه من طبقة الحكام، غير أنه بعد فترة طويلة من الدراسات والقراءة والتأمل وطبيعة تكوينه الشخصى والنفسى قربته تماما من الشعب وآمال الشعب وآلام الشعب».
مات فقيرا فى غربته، بعد أن أنفق على الحركة الوطنية كل ما ورثه من والده الذى كان يملك ألفا ومئتى فدان، وكان له هو قصر فى شارع شبرا مساحته 5 أفدنة من أراضى البناء، وعمارتان بشارع الظاهر، وحين أحس بدنو أجله، أرسل خطابا يوم 11 سبتمبر 1919، من برلين إلى صديقه إسماعيل لبيب، المقيم فى جنيف يطلب فيه سرعة الحضور إليه، حسبما يذكر الدكتور رؤوف عباس، فى مقدمته للجزء الأول من مذكرات فريد «تاريخ مصر ابتداء سنة 1891»، مضيفا: «لبى الصديق دعوته، وحين التقى به فى برلين طلب منه محمد فريد أن يتسلم صندوقا أودعه عند سيدة ألمانية، وكان يسكن عندها، وأوصاه أن يحافظ عليه ويحمله إلى مصر– حين تسنح الفرصة – ليسلمه إلى ابنه عبدالخالق فريد، أما ذلك الصندوق فكان يضم مذكرات وأوراق الزعيم الراحل».
ويذكر الرافعى، أنه فى ساعاته الأخيرة قال لمن حوله ومنهم الدكتور عبدالعزيز عمران وإسماعيل لبيب: «إذا مت ضعونى فى صندوق، واحفظونى فى مكان آمين، حتى تتاح الفرصة لنقل جثتى إلى وطنى العزيز، الذى أفارقه وكنت أود أن آراه»، وفى اليوم التالى شيع المصريون جنازته بما يليق بمنزلته، وتم وضع جثمانه فى تابوت حديد ليمكن نقله إلى مصر عند سنوح الفرصة عملا بوصيته، وبقى التابوت وديعة فى كنيسة بالقرب من المقبرة، وفى يونيو 1920، سافر الحاج خليل عفيفى التاجر بالزقازيق وعاد به على نفقته الخاصة.
يضعه الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين فى مكانة فريدة فى تاريخ الحركة الوطنية المصرية، قائلا فى كتابه «أيام لها تاريخ»، أنه أدرك حقيقة المسألة المصرية بعد الاحتلال الإنجليزى إدراكا علميا، فعرف أسلم الطريق نحو تحقيق المستقبل المصرى، ويضيف بهاء: «انبعث مصطفى كامل كالشعلة توقظ الركود وتنير الطريق، ثم انطفأ ولم يقف فى هذا الومض طويلا عند فكرة خصبة، مما جعله يتخبط بين تأييد الباب العالى التركى والاستعانة بفرنسا، وجاء فريد ليضع النقاط على الحروف التائهة، ليرسم للبعث المرتقب وسائله وغاياته، وجرت المسألة فى أن وسيلة التحرر من كل سيطرة أجنبية هى: الجلاء، ووسيلة المساواة والمشاركة هى الدستور».
امتدت عظمة «فريد» إلى وضع وسائل تحقيق أهدافه الوطنية، ويذكرها بهاء قائلا: «أنشأ مدارس ليلية فى الأحياء الشعبية لتعليم الأميين الفقراء مجانا، وعهد بالتدريس فيها إلى رجال الحزب الوطنى وأنصاره، فكنت ترى المحامى الكبير أو الطبيب الناجح، يخصص من وقته ساعة أو بعض ساعة كل مساء، يقف فيها فى حجرة ضيقة خشنة بسيطة يعلم الفقراء مبادئ القراءة والكتابة وجغرافية بلادهم وتاريخها، وأنشأ أول الأمر أربع مدارس فى بولاق والعباسية والخليفة وشبرا، ثم انتشرت مثيلاتها فى الأقاليم، ووضع أساس حركات النقابات، فأنشأ أول نقابة للعمال سنة 1909، وهى نقابة عمال الصنائع اليدوية ووضع لها قانونا وأنشأ لها ناديا، ثم انتشرت النقابات، ثم اتجه إلى الزحف السياسى ودعا الوزراء إلى مقاطعة الحكم، وعرفت مصر لأول مرة المظاهرات الشعبية المنظمة، كان يدعو إليها، وتجتمع فى حديقة الجزيرة عشرات الآلاف، ثم تسير إلى قلب القاهرة هاتفة بمطالبها، ووضع صيغة موحدة للمطالبة بالدستور، وطبع منها عشرات الآلاف، ودعا الشعب إلى توقيعها وإرسالها إليه ليقدمها إلى الخديو، ونجحت الحملة، وذهب إلى القصر يسلم أول دفعة من التوقيعات 45 ألف توقيع، ثم 16 ألفا».