في ظل تصاعد التهديدات المتبادلة بين واشنطن وكراكاس، ومع تلويح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال ولايته السابقة بإمكانية التدخل العسكري في فنزويلا للإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو، تعود الأزمة الأمريكية – الفنزويلية إلى واجهة المشهد الدولي كواحدة من أكثر بؤر التوتر الأيديولوجي في أميركا اللاتينية.
وفي جوهره، يبدو الصراع بين واشنطن وكراكاس مواجهة بين يمين رأسمالي يسعى للسيطرة على الموارد النفطية ويسار بوليفاري يرى في الاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية جوهر مشروعه.
وبينما تعتبر الولايات المتحدة أن فنزويلا تمثل تهديداً لمصالحها في نصف الكرة الغربي، ترى كراكاس أن واشنطن لا تزال تنظر إلى أمريكا اللاتينية بعين "الوصاية الاستعمارية" القديمة، وفقًا لدراسة "عسكرة الكاريبي.. عودة إلى مبدأ مونرو للباحث أيمن سمير.
لكن الصراع بين البلدين ليس وليد اللحظة، بل يمتد جذوره إلى بدايات القرن العشرين، حين كانت فنزويلا دولة زراعية تعتمد على تصدير البن والكاكاو، بينما كانت الولايات المتحدة تراقبها ضمن إطار "مبدأ مونرو" الذي اعتبر القارة اللاتينية مجالاً حصرياً للنفوذ الأمريكي.
من النفط إلى النفوذ
بدأ التحول الحقيقي في العلاقات عام 1922 مع اكتشاف حقل "لا روسا" النفطي، الذي فتح الباب أمام الشركات الأمريكية الكبرى – وعلى رأسها "ستاندرد أويل" – للاستثمار المكثف في قطاع الطاقة الفنزويلي.
وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبح النفط الفنزويلي عنصرًا استراتيجيًا في دعم الحلفاء، ما عزز الوجود الأمريكي في البحر الكاريبي، وحوّل فنزويلا إلى شريك رئيسي في السياسة النفطية الغربية.
وبحلول خمسينيات القرن الماضي، كانت العلاقات في أوجها، خصوصاً في عهد ماركوس بيريز خيمينيس، حين تداخلت المصالح الاقتصادية مع التحالفات السياسية، لتتحول فنزويلا إلى حليف موثوق ضد المدّ اليساري في القارة.
حاجز ضد الشيوعية
مع بداية الحرب الباردة، تبنّت واشنطن سياسة دعم الأنظمة الموالية لها في أمريكا الجنوبية، واعتبرت فنزويلا حصناً أمام النفوذ السوفيتي. وبعد سقوط نظام خيمينيس عام 1958، دعمت الولايات المتحدة اتفاق "بونتو فيخو" الذي أسس لديموقراطية ليبرالية على المقاس الأمريكي.
غير أن نجاح الثورة الكوبية عام 1959 أعاد رسم خريطة التحالفات، إذ باتت واشنطن تخشى انتقال العدوى الثورية إلى فنزويلا، فزادت دعمها الاستخباراتي والعسكري للحكومات المتعاقبة في كراكاس لقمع الحركات اليسارية المسلحة.
من النيوليبرالية إلى الغضب الشعبي
ورغم تأميم قطاع النفط عام 1976، حافظت فنزويلا على علاقات مستقرة مع الولايات المتحدة، لكن انهيار أسعار النفط في الثمانينيات دفعها نحو برامج تقشفية تحت إشراف صندوق النقد الدولي، ما عمّق تبعية الاقتصاد المحلي للمؤسسات الغربية.
ومع تدهور الأوضاع المعيشية، اندلعت احتجاجات "كاراكازو" عام 1989، لتكشف هشاشة النموذج النيوليبرالي وتفتح الباب أمام صعود ضابط شاب اسمه هوجو تشافيز، الذي تحوّل لاحقاً إلى رمز شعبي يقود ثورة مناهضة للهيمنة الأمريكية.
الثورة البوليفارية.. بداية القطيعة
بوصول تشافيز إلى الحكم عام 1998، بدأت مرحلة جديدة من المواجهة الأيديولوجية مع واشنطن. فقد أطلق "الثورة البوليفارية" المستندة إلى أفكار سيمون بوليفار في التحرر والسيادة الوطنية، ووجّه عائدات النفط لتمويل برامج اجتماعية للفقراء، متبنياً خطاباً معادياً للرأسمالية الأمريكية.
على المستوى الخارجي، سعى تشافيز إلى بناء محور مناهض لواشنطن عبر تحالفات مع كوبا وروسيا وإيران، وتأسيس تكتل "ألبا" الإقليمي كبديل للنظام الاقتصادي الأميركي اللاتيني.
مادورو وعودة الصدام
بعد رحيل تشافيز عام 2013، واجه خلفه نيكولاس مادورو ضغوطاً اقتصادية وسياسية متزايدة، في ظل تراجع أسعار النفط وتدهور الأوضاع الداخلية. ومع تصاعد الاحتجاجات وتنامي المعارضة، اتهمت واشنطن حكومة مادورو بانتهاك حقوق الإنسان وتقويض الديموقراطية، وفرضت عليها سلسلة عقوبات قاسية شملت مسؤولين وشركات نفطية.
بلغ التوتر ذروته عام 2019، حين أعلن ترامب دعمه للمعارض خوان جوايدو كرئيس مؤقت، وصرّح بأن "كل الخيارات مطروحة على الطاولة"، في إشارة واضحة لاحتمال التدخل العسكري للإطاحة بمادورو.