تعيش فرنسا واحدة من أكثر مراحلها السياسية اضطرابًا منذ عقود، حيث تسببت الخلافات بين القوى الحزبية وتراجع ثقة الشارع في الحكومة في خلق حالة من الشلل السياسي والاقتصادي، امتدت آثارها إلى بقية أوروبا.
وبحسب صحيفة لوموند الفرنسية فإن استمرار حالة عدم الاستقرار فى باريس بات يثير قلقا متزايدا لدى الشركاء الأوروبيين الذين يخشون من أن يتحول هذا الاضطراب إلى عامل ضغط إضافي على الاقتصاد الأوروبي المرهق أصلًا من تداعيات الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة.
ومنذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أفرزت خريطة سياسية منقسمة بين اليسار واليمين والوسط، لم تتمكن الحكومة الفرنسية من تمرير عدد من القوانين الاقتصادية الجوهرية، خصوصًا تلك المتعلقة بالموازنة والإصلاح الضريبي. هذه الانقسامات المتكررة جعلت المستثمرين يشككون في قدرة باريس على تنفيذ سياسات مالية مستقرة، ما انعكس مباشرة على ثقة الأسواق الأوروبية، خاصة أن فرنسا تُعد ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا.
وتشير الصحيفة الفرنسية إلى أن المؤشرات الاقتصادية الفرنسية شهدت تباطؤًا واضحًا خلال الربع الثالث من العام الجاري، إذ تراجع النمو إلى أقل من 0.3%، وهو أدنى مستوى له منذ عام 2021. كما ارتفعت معدلات البطالة الطفيفة مجددًا لتصل إلى 7.8%، في وقت يتباطأ فيه النشاط الصناعي، ويتراجع الاستثمار الأجنبي بشكل ملحوظ.
ويؤكد خبراء الاقتصاد أن هذه المؤشرات لا تخص فرنسا وحدها، بل قد تكون مقدمة لموجة تباطؤ أوسع في أوروبا بأكملها. فباريس، بحكم موقعها ودورها المحوري في الاتحاد، تمثل ركيزة أساسية في النمو الأوروبي. وإذا تراجعت قدرتها على الإنفاق أو الاستثمار، فإن سلاسل التوريد والتجارة داخل القارة ستتأثر سلبًا، خاصة في دول مثل إسبانيا وإيطاليا وبلجيكا التي تعتمد بدرجة كبيرة على السوق الفرنسية.
من جهة أخرى، يرى محللون أن الأزمة السياسية الفرنسية لا تقتصر على الخلافات الحزبية، بل تمتد إلى أزمة ثقة أعمق بين المواطنين والنظام السياسي ككل. إذ كشفت استطلاعات رأي حديثة أن أكثر من 65% من الفرنسيين يعتبرون أن الحكومة فقدت السيطرة على إدارة الأوضاع الداخلية، بينما عبر 58% عن قناعتهم بأن فرنسا تسير نحو أزمة مؤسساتية حقيقية إذا استمر الشلل البرلماني الحالي.
هذا التراجع في الثقة انعكس على الأسواق المالية أيضًا، حيث شهدت بورصة باريس انخفاضًا متواصلًا في مؤشرها الرئيسي كاك 40 خلال الأسابيع الماضية، مع تراجع أسهم البنوك وشركات البناء والطاقة بنسب متفاوتة. ويرى اقتصاديون أن استمرار هذه الاتجاهات قد يؤدي إلى خفض تصنيف فرنسا الائتماني مجددًا، بعد أن سبق لوكالة Fitch أن حذرت في تقريرها الأخير من مخاطر سياسية متزايدة على استقرار الاقتصاد الفرنسي.
وأضافت الصحيفة الفرنسية أن شركاء باريس في الاتحاد الأوروبي، خصوصًا في بروكسل وبرلين، يتابعون التطورات بقلق بالغ، إذ تخشى المؤسسات الأوروبية من أن يؤدي ضعف القيادة الفرنسية إلى تعطيل الملفات الاقتصادية المشتركة مثل خطة الاستثمار الأخضر و اتفاقية الاستقرار المالي الجديدة. كما يخشى بعض المسؤولين من أن يشجع هذا الارتباك قوى اليمين المتطرف في دول أخرى على توسيع نفوذها السياسي، ما يهدد وحدة الموقف الأوروبي في مواجهة التحديات الخارجية.
في المقابل، حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال الأسابيع الأخيرة تهدئة الأجواء عبر سلسلة لقاءات مع قادة المعارضة، لكن مراقبين يرون أن الخطوة جاءت متأخرة، وأن الأزمة تجاوزت حدود التفاهمات السياسية إلى ما يشبه الانسداد المؤسسي. ويعتبر بعض المحللين أن الحل الوحيد قد يكون في الدعوة إلى انتخابات مبكرة لإعادة تشكيل توازن القوى في البرلمان، رغم المخاطر الكبيرة التي قد ترافق ذلك على صعيد الاستقرار الاقتصادي.
وفي ختام تقريرها، تشير الصحيفة إلى أن أوروبا تجد نفسها أمام اختبار فرنسي صعب، فإما أن تنجح باريس في احتواء أزمتها الداخلية واستعادة ثقة الأسواق والمستثمرين، أو أن تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي في القارة بأكملها، ما قد يبطئ التعافي الأوروبي الذي لم يتجاوز بعد آثار جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا وارتفاع كلفة المعيشة.