كأنهما وجهان لعملة واحدة رغم الاختلافات الظاهرية، تجمعهما الكثير من القواسم المشتركة، لكن أكثر ما يوحد بينهما تلك الفخامة التى تتسلل إلى نفسك حين ترى أحدهما، فخامة المظهر والهيبة، فخامة الأصل والصفات، وفخامة الموهبة والإبداع، جمعهتما عراقة الأصل، فكلاهما سليل عائلة تكتظ بأسماء الباشوات والبكوات، ولكنهما تركا كل شىء حبا فى الفن فى وقت كانت العائلات تعتبرعمل أبنائها بالتمثيل عارا وسبة، ولكن الزكيين النجيبين اختارا أن يعيشا راهبين فى محراب الفن، باشوات التمثيل وبكواته سليمان نجيب وزكى رستم.
ربما تتشابه شخصياتهما فى الواقع مع بعض الشخصيات التى قدماها على الشاشة، ففى فيلم ليلى بنت الأكابر، تشبه شخصية زكى رستم الحقيقية شخصية شوكت باشا جد البطلة الأرستقراطى المحافظ ذى الشخصية الصارمة، بينما يجسد صديقه وعشرة عمره سليمان نجيب شخصية الخال توفيق ابن العائلة الأرستقراطية، الذى يتسم بالبساطة والطيبة وخفة الظل ولا يعترف بالفوارق بين الطبقات، عشرات الشخصيات جسدها كل منهما، ولا يمكن أن ترى غيره يؤديها بهذا الإتقان، فمن يمكنه أن يجسد شخصية عمو عزيز الزوج الثرى القاسى الذى يتزوج فتاة فى عمر ابنته ويمارس ساديته عليها، من يستطيع أن يجسد هذه النظرات المرعبة مثل زكى رستم، ومن يمكنه أن يؤدى شخصية طاهر باشا الذى ينطلق من عينيه طوفان شر فى فيلم نهر الحب، وهو يساوم زوجته ويحرمها من ابنها حتى يدفعها للانتحار تحت عجلات القطار، من يستطيع أن يجسد شخصية المعلم بيومى القاتل الذى يدعى الإيمان والتقوى ممسكا بسبحته الشهيرة فى فيلم رصيف نمرة 5 وتصبح عبارة: «سبحتك يا معلم بيومى » إيفيه يستخدمه الناس لكل من يرتدى قناع الدين ليخفى جرائمه، ورغم كل هذا الشر الذى أصبح زكى رستم عنوانا له فى السينما استطاع باقتدار أن يؤدى شخصية الأب الطيب والموظف المطحون والجد الحنون فى أفلام «معلشى يا زهر»، و «أنا وبناتى »، و «ياسمين»، وغيرها عشرات الأدوار التى جعلته من أهم ممثلى العالم بشهادة مجلة «بارى ماتش» الفرنسية التى صنفته فى استفتاء أجرى عام 1945 ضمن أفضل 10 ممثلين فى السينما على مستوى العالم.
أما صديقه سليمان نجيب الذى جمعهما عدد من الأعمال المشتركة، فمعظم أدواره تشبه شخصيته الحقيقية، مرحة وبسيطة ومحبة للناس وللحياة، حتى عصبيته ممزوجة بالطيبة وخفة الظل، سواء أدى شخصية أرستقراطية تشبه طبقته الاجتماعية التى نشأ مجسدا شخصية الباشا الطيب خفيف الظل، كما ظهر فى مشهده الأيقونى بفيلم غزل البنات، حين يلتقى الباشا بالأستاذ حمام لأول مرة، أو حين يجسد دور الغنى الذى جار عليه الزمن وتعرض لعملية نصب فظل طوال مشاهده بفيلم الآنسة حنفى يعض أصابع الندم قائلا «لو كنت خدت الوصل»، أو حين يعبر عن حكمته ونظرته البسيطة للحياة والمساواة بين البشر فى حوار جمعه بصديقه زكى رستم فى فيلم بنت الأكابر.
علاقة عائلية
بدأت العلاقة بين عائلتى سليمان نجيب وزكى رستم قبل ميلادهما، وقد لا تصدق أن فارق العمر بينهما 11 عاما، وأن سليمان نجيب المولود فى 21 يونيو عام 1892 أكبر بهذا الفارق من زكى رستم، رغم أن ملامح زكى المولود فى 5 مارس عام 1903 وهيئته تمنحانك إحساسا بأنه الأكبر، ولعل وجهه المتجهم وملامحه الحادة فى معظم أدواره تضاعف من هذا الإحساس، بعكس نجيب الذى يبدو بشوشا اجتماعيا مرحا فى معظم أدواره.
ولد سليمان نجيب فى أسرة أرستقراطية مثقفة، فوالده الأديب مصطفى نجيب، مدير الإدارة العربية بسراى عابدين بالديوان السلطانى، فترة الخديو عباس الثانى، وعمه محمود شكرى باشا رئيس الديوان، وخاله أحمد زيور باشا رئيس وزراء مصر فى عشرينيات القرن الماضى، وحرص والده على تعليمه وتثقيفه، فعرفه على الفنون والمسرح، فنشأ ميّالا لها منذ صغره، وفقا لما ذكرته مؤسسة هنداوى للنشر الإلكترونى فى مقدمة الطبعة، التى أصدرتها من كتاب «مذكرات العربجى» الذى ألفه سليمان نجيب.
مشوار نجيب
عشق نجيب التمثيل منذ كان طالبا بالمدرسة التحضيرية بدرب الجماميز فى السيدة زينب، وفقا لما ذكره الكاتب أشرف بيدس فى كتابه «أبيض واسود» تحت عنوان الجنتلمان، مشيرا إلى أنه بعد حصوله على البكالوريا التحق بكلية الحقوق وعمل بالمحاماة، ثم انضم لفرقة عبدالرحمن رشدى وسلامة حجازى، ولم ترحب أسرته بعمله فى الفن، فترك التمثيل لفترة احتراما لوالدته، وشغل العديد من الوظائف الحكومية حيث عمل بسكرتارية وزارة الأوقاف، ثم بالسلك الدبلوماسى المصرى، وكان قنصلا عاما بالسفارة المصرية ﺑ«إسطنبول»، ثم عاد إلى مصر ليعمل بوزارة العدل، وبعد وفاة والدته ندهته نداهة الفن من جديد، فعاد للتمثيل وكون مع عبدالوارث عسر فرقة أنصار التمثيل، وكان ذو ثقافة واسعة يتقن عدة لغات ويمتلك مواهب فى التأليف والنقد والتمثيل، فكتب عدة مقالات فى مجلة «الكشكول» الأدبية تحت عنوان «مذكرات عربجى» انتقد فيها متسلقى ثورة 1919، وكان يوقعها باسم «الأسطى حنفى أبومحمود »، ويتحدث خلالها عن أحوال المجتمع المصرى مدونا يومياته فى شوارع المحروسة، وهى الفكرة التى نالت إعجاب الكثيرين، ومنهم الكاتب الكبير فكرى أباظة الذى كتب مقدمة لهذه المذكرات، وصف فيها سليمان نجيب بالفيلسوف وطبيب النفوس.
بدأ نجيب يشبع موهبته الفنية بالمشاركة فى بعض المسرحيات، فى وقت كان العمل بالفن والتمثيل من الأمور التى تعتبرها الأسر عارا.
وهو ما أكده سليمان، خلال حوار مع الكاتب والناقد الفنى جليل البندارى، ذكر تفاصيله فى مقال نشره بعد رحيل نجيب تحت عنوان: «قصة سليمان نجيب فيلم من الحياة» بمجلة آخر ساعة عدد 1057، بتاريخ 25 يناير 1955، موضحا أن جميع أفراد عائلته كانوا يضيقون بهوايته ويحاربونه، وقال: «أحاطت بى الظروف القاسية من كل جانب بسبب التمثيل، وفشلت عائلتى فى انتزاع هذا الداء من جسمى وعقلى، وكلما باعدوا بينى وبينه ازداد تعلقا به».
ورشحه صديقه المخرج محمد كريم ليشارك محمد عبدالوهاب ببطولة أفلامه الأولى «الوردة البيضاء »، وشارك فى كتابته، «دموع الحب عام 1935، ويوم سعيد عام 1940»، كما شارك أم كلثوم فى ثلاثة أفلام هى «دنانير وعايدة وفاطمة »، وشارك فى كتابة أكثر من عمل سينمائى، ووصل عدد الأفلام التى كتبها للسينما 20 قصة سينمائية، كما كتب للمسرح أكثر من 40 مسرحية شارك فيها بالتمثيل، وحرص على أن يكتب تحت رواياته أنها مقتبسة، رافضا أن يكتب أنه مؤلفها، كما يذكر البندارى فى مقاله، حيث قال نجيب: «إن موهبتى لا تؤهلنى أن أقف فى مكان واحد بجوار سارتر وبرنارد شو ويوسف وهبى»، كما شارك فى 52 فيلما، وفى تاريخه هو أول مصرى يتولى رئاسة دار الأوبرا الملكية من عام 1938، وكان هذا المنصب موقوفا على الإيطاليين، حتى إنهم كانوا يطلقون على هذا المنصب «المستعمرة الإيطالية»، كما كان أول فنان يحصل على البكوية من الملك فاروق، وظل فى منصب رئيس دار الأوبرا حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، فأمدت عامين له بعد بلوغه سن المعاش.
زكى عبقرى الاندماج
وتتشابه ظروف نشأة زكى رستم مع صديق عمره سليمان نجيب، فزكى محرم محمود رستم ينتمى لأسرة عريقة امتلكت أكثر من 1800 فدان، وكان والده وجده من باشوات مصر، وفقا لموقع السينما دوت كوم، وولد فى قصر جدّه اللواء محمود باشا رستم، أحد رجال الجيش المصرى البارزين، وكان القصر من أشهر قصور حى الحلمية، كما كان والده محمود رستم من كبار ملاك الأراضى الزراعية ومن أعضاء الحزب الوطنى وصديقا شخصيا لمصطفى كامل، وللمطرب عبده الحامولى، وكانت رغبة العائلة أن يدرس زكى، الذى ولد بين 14 أخا وأختا من 3 زوجات للأب، الحقوق وحاولت والدته أن تثنيه عن الانشغال بالفن لكنها لم تفلح، وهدده والده بالطرد.
يتحدث زكى رستم عن نشأته فى حوار نادر بمجلة الكواكب، نشر بتاريخ 13 مارس 1956 تحت عنوان: «زكى رستم الهارب من المعجبين يروى قصته »، حيث كان يفضل العزلة ويقاطع الصحافة، وحتى يجرى معه محرر الكواكب هذا الحوار النادر ظل يبحث عنه، مؤكدا أنه لا يظهر فى مقهى ولا كباريه ويتحاشى الناس، وأنه التقاه فى مكان اعتاد أن يقضى فيه بعض الوقت فى وسط القاهرة، مؤكدا أنه يبدو أصغر سنا مما يبدو على الشاشة، وقال رستم فى حواره لـ «الكواكب »: «كنت تلميذا بالمدرسة الابتدائية وكان لى ابن خال يدرس الطب ومن هواة المسرح، فكان يأخذنى معه إلى مسرح جورج أبيض، فشغفت بالتمثيل، وبدأت أتصل بهواة التمثيل وتعرفت على الأستاذ عبدالوارث عسر ».
مضى رستم يتحدث عن علاقته بسليمان قائلا: «كان والدى صديقا لوالد المرحوم سليمان نجيب وحسنى نجيب، وتوفى والدهما سنة 1915 فتكفل والدى بالشقيقين، وصرت أنظر إلى سليمان كأخ أكبر فى البيت ودارت الأيام، فكان أخا أكبر لى فى المسرح أيضا ».
انضم الفنان الكبير لجمعية أنصار التمثيل بعد إتمام دراسته الثانوية بتزكية من الفنان عبدالوارث عسر، الذى كان عضوا بالجمعية، ليقف لأول مرة على المسرح عام 1923 فى دور صغير بمسرحية «العبرة»، التى شاهدها الزعيم سعد زغلول، ثم انتقل بعد عدة أدوار إلى فرقة عكاشة.
وفى كل هذه المراحل، كان زكى رستم رفيقا لصديقه سليمان نجيب واجتمعا عام 1924 فى فرقة جورج أبيض الذى قال له: «ستكون ممثلا مجيدا»، وبعدها عرض عليه يوسف وهبى الانضمام لفرقة رمسيس، وفى كتابها «يوسف وهبى سنوات المجد والدموع » ذكرت الكاتبة راوية راشد تفاصيل أن رستم وقتها كان شابا قوى البنيان، وأحد أبطال رياضة رفع الأثقال والمصارعة، وحصل على البكالوريا تمهيدا للالتحاق بكلية الحقوق، وعندما وقعت عليه عين يوسف وهبى أدرك أنه أمام موهبة كبيرة، ورأه مناسبا لأداء دور القيصر فى مسرحية راسبوتين، حيث كان يتقن اللغة العربية، بالإضافة إلى إتقانه اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وكان يقول إن زكى رستم مؤسس مدرسة جديدة فى الأداء وهى مدرسة الاندماج.
ووفقا لما ذكره الكاتب أشرف بيدوس فى كتابه «أبيض وأسود » حاولت والدته أن تثنيه عن الانشغال بالفن لكنها لم تفلح، وهدده والده بالطرد.
وبعد رحيل الأب هرع زكى رسم إلى صديقه سليمان نجيب ليساعده فى العمل بالفن، وبالفعل التحق بفرقة عبدالرحمن رشدى، وعندما عملت الأم أصيبت بالشلل، لكنه واصل مشواره.
وظهر نبوغ زكى رستم وتفرد بموهبته منذ بداياته، ففى عام 1926 أقامت لجنة تشجيع التمثيل والموسيقى مسابقة فنية، وفاز فيها بالمركز الأول فى التمثيل التراجيدى، وكان وقتها عضوا بفرقة رمسيس، وبعدها تنقل بين عدة فرق، وكانت بدايته فى السينما عندما اختاره يوسف وهبى والمخرج محمد كريم للمشاركة فى فيلم زينب الصامت، الذى عرض فى سينما متروبول عام 1929، كما شارك فى بدايات السينما الناطقة بأفلام «كفرى عن خطيئتك» عام 1933، و«الوردة البيضا» عام 1933، و«الاتهام» 1934، ووصل عدد الأفلام التى شارك فيها 240 فيلما.
المتشابهان المختلفان
جمع عدد من الأعمال بين زكى رستم ورفيق عمره سليمان نجيب، كما جمعتهما العديد من الصفات والمشتركات، رغم الاختلاف الظاهرى بينهما، حيث كان نجيب اجتماعيا يحب التواصل مع كل الفئات والأجيال، وكان صديقا ودودا ناصحا لأجيال مختلفة من النجوم، وكثيرا ما تحدثت عنه الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا وعن دوره فى حياتها وتعليمها وتثقيفها، فى حين كان رستم منعزلا لا يشغله سوى أدواره ولا يحب الاختلاط بالناس وله عدد محدود من الأصدقاء ولا يحب التواصل مع الصحافة.
ومن بين الصفات التى جمعت الصديقين، نجيب ورستم، داء الوسوسة، ففى عدد نادر من مجلة الكواكب، صدر عام 1954، نشرت المجلة موضوعا عن أهم النجوم الذين يعانون من هذا الداء، وذكرت أن زكى رستم وسليمان نجيب من أكثر الفنانين المصابين بهذا الداء، بسبب الخوف الزائد من الجراثيم والميكروبات، فكان رستم يدقق فى كل التفاصيل ويتحاشى أن يتناول طعاما خارج بيته، أما سليمان نجيب فكان من ضمن شروطه لقبول أى شخص فى بيته أن يوقع عليه الكشف الطبى للتأكد من أنه لا يحمل أى أمراض معدية، وكان يحرص على أن يوقع كشفا طبيا دوريا على كل الخدم الذين يعملون فى بيته.
وتميز نجيب بالحنان الشديد وإظهار المحبة لكل من يتعامل معه، حتى المارة فى الشارع، وكان يحظى بشعبية كبيرة بين نجوم الفن من كل الأجيال، يساعدهم فى أزماتهم المادية وينصحهم دائما، وكان كريما لأبعد الحدود، كما كان خبيرا بكل تفاصيل المسرح، وهو ما أوضح شكرى راغب، أحد أشهر مديرى مسرح الأوبرا المصرية، الذى كتب مقالا عن نجيب فى ذكراه بمجلة الكواكب عام 1960 تحت عنوان: «دموع الوفاء فى ذكرى الجنتلمان » مؤكدا فضله فى مسيرته المهنية، وأنه تعلم منه كل ما يتعلق بإدارة مسرح الأوبرا، وأنه ترك أثرا لا ينسى، كما تحدث عن أهم الصفات التى اشتهر بها الفنان الراحل، وهى الكرم، مؤكدا أنه كان ينفق كل ما يحصل عليه على ضيوفه، سواء من الفنانين الأجانب أو الفرق الأجنبية ويقيم لهم الحفلات، ويقدم لهم الهدايا ويوزع ما يتلقاه من هدايا أصدقائه، وكان مشهورا بمآدب الإفطار التى يقيمها لزملائه فى رمضان.
فى حين كان رستم يحب العزلة، فلم يكن له أصدقاء سوى سليمان نجيب، وعباس فارس وعبدالوارث عسر، ولم يؤنس وحدته فى بيته سوى خادم عجوز قضى فى خدمته أكثر من 30 عاما وكلبه الوولف الذى كان يصحبه دائما، ورغم ذلك كان مرهف الحس ويدل على ذلك العديد من المواقف، التى جمعته ببطلات أفلامه، حيث كانت بعض المشاهد تقتضى أن يضربهن وهو المعروف بقوته وشدة إندماجه فى التمثيل، فكن يخفن منه، وبعد هذه المشاهد التى أدى بعضها إلى إغماء بعض النجمات، ومنهن الفنانة ماجدة التى شاركته فيلم «أين عمرى »، والفنانة هدى سلطان التى ضربها فى فيلم «حميدو» كان الفنان الكبير يبكى من شدة خوفه عليهن، ويعتذر لهن على قسوته أثناء الاندماج فى الدور.
ومن بين أهم المشتركات بين زكى ونجيب أن كل منهما لم يتزوج وعاش راهبا فى محراب الفن، وفى حوار نادر نشرته مجلة الكواكب مع الفنان الكبير سليمان نجيب، أجراه الكاتب الكبير أنور عبدالله، سأله عن سر عدم زواجه، فقال نجيب الذى كان قد تجاوز الستين: «كنت طوال حياتى عازفا عن الزواج لأننى أحب حريتى وأخشى أن تقيدها سلاسل الزوجية، وكنت أهوى السهر وحياة الفن، لذلك لم أكن واثقا من أننى سأكون زوجا يحترم حقوق الزواج ».
فى حين يكشف الناقد الكبير جليل البندارى أنه سمع من سليمان نجيب سبب عزوفه عن الزواج، مشيرا إلى أنه كان يحب فتاة فى بداية كفاحه، وبعد 15 سنة أعد نفسه لزواجها، وفى اليوم الذى قرر أن يطلب يدها جاءه نعيها، وظل وفيا لذكراها أكثر من 20 سنة، ولم يفكر فى الزواج بعدها، وكان يواظب على زيارة قبرها ويحدثها قائلا: «انهضى إنى أستطيع أن أحيا معك الآن حياة سعيدة، ويبكى ولا يفيق إلا بعد أن يرتب حارس القبر على كتفه ».
بينما كشف زكى رستم سبب عزوفه عن الزواج فى حوار نادر مع مجلة الكواكب بتاريخ 3 ديسمبر عام 1957، حيث أطلقت عليه المجلة لقب الأعزب المزمن، وكشف أنه انشغل فى بداية حياته بحب الفن، ولم يصادف المرأة التى تتوافر فيها الصفات التى ينشدها، واعترف بأنه عرف الحب مرتين، الأولى عام 1926 واستمر 7 سنوات، حيث تعرف بفتاة جميلة من أسرة طيبة وكان يغارعليها بشدة، فتعذب بحبه لأن الفتاة كانت تحب الظهور ويستهويها المديح، ولهذا قرر أن يقطع علاقته بها، والثانية عندما تعرف على فتاة جميلة واستمرت علاقته بها 8 سنوات، وكانت تمتلك كل المواصفات التى ينشدها، ولكنه لم يتزوجها بسبب اختلاف الطبقات، وندم على عدم زواجه منها وانتهى هذا الحب عام 1944، وبعدها لم يفكر فى الحب والزواج.
وبعد وصول سليمان نجيب لسن المعاش عام 1952 رأت الحكومة أن تمد له 5 سنوات لتستفيد من خبرته فى منصب مدير دار الأوبرا، وكما ذكر شكرى راغب فإن نجيب رفض وقال: «حد ضامن نفسه 5 سنوات خليها سنتين بس، وبالفعل انتهت المدة فى يونيو 1954 وشعر نجيب بدنو أجله، وأعلن للمسؤولين قبل موته بيومين تنحيه عن المسرح، ليفسح فرصة للجيل الجديد قائلا: «كل واحد ياخد دوره بقى، خلاص العمر خلص أنا عاوز أرتاح».
وقبل رحيله بفترة قصيرة، وكما جاء فى مقال ذات يوم للكاتب والمؤرخ سعيد الشحات، المنشور بـ «اليوم السابع » فى 18 يناير 2024، توجه نجيب إلى مكتب صلاح الشاهد كبير الياوران، وقابل الرئيس عبدالناصر، ودعاه لمشاهدة العرض المسرحى «المشكلة الكبرى » آخر عمل مسرحى له، مؤكدا أنه سيعتزل الفن بعده، وبالفعل لبى «ناصر » الدعوة، وكان سليمان نجيب رائعا، وفى الاستراحة بين الفصول قابل نجيب الفنانة الكبيرة زينب صدقى، وقال لها ضاحكا: «أعرض عليكى اتفاقية جنتلمان، فكلانا أعزب، ومن يمت قبل أخيه يقوم بواجب الأخوة نحو منزله فيرعاه ويشرف عليه».
وبعد العرض بفترة قصيرة رحل سليمان نجيب بعد 8 أشهر فقط من خروجه على المعاش، وقال صديقه شكرى راغب أنه استدعاه ليلة وفاته، وطلب منه أن ينقل كتبه وتحفه وهداياه وصوره إلى دار الأوبرا صاحبة الفضل فى كل هذه الهدايا والذكريات، وبعد ساعات مات فى 18 يناير عام 1955، وعندما سمعت زينب صدقى النبأ الحزين، قالت: «نحن على موعد » وذهبت إليه وقامت بما يتطلبه الموقف حسب اتفاقهما.
وبالرغم من أن زكى رستم كان مقاطعا للصحافة، ونادرا ما تجد له حوارا صحفيا، فحوارته معدودة على أصابع اليد الواحدة، فإنه وكما ذكرت الكاتبة الصحفية هبة الله يوسف فى حلقاتها «راهب الفن زكى رستم» بجريدة «الجريدة الكويتية 29 إبريل 2020»، كسر هذه المقاطعة بحوار نادر لمجلة الكواكب فى سبتمبر 1953 رد فيه على شائعة اعتزاله، وأكد أنه يتمتع بقوته وحيويته وقادر على أداء أدوار الفتوة، وقال ثائرا لمحاوره: «هل ترانى أسير بعكازين، ظهرى مقوس، هل تعلمون كم عمرى؟ أنا أصغر من كل ممثلى الجيل القديم، ومن يتحدانى يبرز شهادة ميلاده، أنا مازلت زكى رستم بتاع زمان، واسألوا عنى فريد شوقى، أنا لما أمثل أمامه وأدوس على إيده يقول لى حاسب يا زكى أنا مش حملك، وتساءل: هى فين السينما أصلا، فين همه المخرجين، أنا كفاية إن مجلة «لايف» قالت: زكى رستم أحسن ممثل فى الشرق»، وامتد عطاؤه الفنى بعد ذلك بسنوات حتى بعدما أصيب بضعف السمع، وفى عام 1962 منحه الرئيس جمال عبدالناصر وسام العلوم والفنون، فقال رستم- وفقا لما ذكره سعيد الشحات فى مقاله «ذات يوم »: «كان أعظم يوم فى حياتى يوم أخبرونى أننى حصلت على هذا التكريم، ويوم نادى اسمى الرئيس عبدالناصر وصفق لى الجميع، وكان يوما لن أنساه، وأنا أسلم على الرئيس الذى كرمنى على مشوارى الفنى».
وظل عبقرى الفن يعيش فى عزلته ولا يعرف غير البلاتوه، وازدادت عزلته وحزنه بعد وفاة رفيق عمره سليمان نجيب، وكان آخر ظهور له فى فيلم «أجازة صيف» عام 1966، وبعده ابتعد عن الوسط الفنى، ولم يكن يلتقى أحدا ولا يخرج إلا نادرا، وعاش مع كلبه فى عزلة قاسية يقرأ الكتب باللغات العربية، والفرنسية والإنجليزية.
وفى عام 1972 أصيب زكى رستم بهبوط فى القلب، كما ذكر الكاتب الصحفى واالمؤرخ سعيد الشحات، قضى بسببه 20 يوما بمستشفى «دار الشفاء» قبل أن يسلم روحه إلى بارئها فى 16 فبرايرعام 1972، لينتهى بوفاته زمن باشوات الفن وبكواته ووجهائه سليمان نجيب وزكى رستم.
زكى رستم فى إحدى مشاهد أفلامه
زكى رستم وحسين رياض
سليمان نجيب
فيلم الدكتور سليمان نجيب
مع صديقه المقرب إلى قلبه سليمان نجيب
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة