الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، الذي توفي في 28 مايو سنة 2020، مبدع مختلف لا يشبه أحدًا، إنه مدرسة وحده، يملك رؤية خاصة في مفهوم الشعر، وفي مفهوم الحياة أيضًا، ومن أراد أن يعرف جزءًا مهمًا من حياة محمد عفيفي مطر ورؤيته فعليه أن يقرأ كتابه البديع "أوائل زيارات الدهشة"، ومما قاله فيه حديثه عن نجاته من الموت صغيرا بسبب طقوس والدته.
يقول محمد عفيفي مطر
ابن امرأتين
كأنني محور الرحى الذى يدور حوله حجر الموت ليطحن إخوتى واحدًا واحدًا، مات قبلى ثلاثة إخوة ومات بعدى ثلاثة إخوة وأخت وأنا أقف بين هاتين الموجتين الرجراجتين يعصف الموت أحيا قصص من سبقونى، وأتجرع غصص من تخطفهم الموت من بين ذراعي.
لقد جاهدت أمي جهاد الحياة كلها لأفلت من الموت واكسر همجية اللعنة المجهولة أو القدر الباطش أو الصراع غير المتكافئ بينها وبين قبائل الجن والأشباح، أما وقائع الحرب الضروس دفاعاً عنى فقد خاضتها بدءًا من عتمة الفجر، أخذتنى بيدها وفي اليد الأخرى جريدة نخل، وفي تقليد محكم المسلك وأدبيات الشحاذين المحترفين مرت بسبعة أبواب لأصحابها اسم واحد محمد وبصوت يذيب القلب حزناً واستدرارًا للشفقة والمرحمة كانت تطلب من كل بيت صدقة للولد المسكين عبد الله، وتحدد أن تكون الصدقة قرشاً فضيا مثقوبا ورغيف خبز وهكذا جمعت القروش الفضية المثقوبة السبعة والأرغفة السبعة ورجعنا معا إلى بيتنا قبل طلوع الشمس.
أما الأرغفة فكانت الطعامي سبعة أيام، وأما القروش فقد طلبت من أحد الحدادين أن يصنع منها فردة خلخال وضعتها حول قدمى اليمني وحذرتني من أن أخلعها لأي سبب.
في غروب أحد الأيام ذهبت بي إلى امرأة في القرية لتبيعنى لها فأكون ابناً لها بالبيع والتبني، كانتا اتفقنا على ذلك من قبل، وبدأ الطقس المرعب أدخلتنى المرأة من طوق جلبابها الواسع وأخرجتني من الذيل الواسع للجلباب سبع مرات وأنا أنحدر صارخا فوق جسدها العريان، ثم قالت أمي بحزم هذه أمك، وقد كنت أمانة عندى وهأنا أردك إليها تركتني وخرجت وأنا أصرخ وأتشبث بأطراف ثيابها والمرأة الأخرى تشدنى وتستبقينى في بيتها، وأخذت تلاطفني وتضمنى بين ذراعيها وتقدم لى وليمة من البيض والجبن واللبن المحلى بالسكر، وأنا أنظر حولى مستطلعا لأركان البيت. أشارت إلى ولد يقاربني في العمر وقالت:
هذا أخوك متولى ستنامان وتلعبان معا وستضربان معا كل من يعتدى على أي منكما .
انقضت الليلة وأنا اتقلب وأبكى وأحاول الفهم والتصديق واستنبات مشاعر الانتماء لهذا البيت الجديد وأسأل نفسي: فمن يكون أبي إذا؟
في إشراقة الصبح قالت المرأة: اذهب إلى أمك الثانية، أنت منذ اليوم ابن لنا نحن الاثنين معاً، إذا أغضبتك أو أردت أن تلعب مع متولى أو تأكل وتبيت عندنا فلا تتردد.
هكذا أصبحت مولودًا من امرأتين، تقاسمتا قلبي وخيمتا بظلهما الدافئ وحنانهما الفياض على طفولتي الباكرة، ولم أكن أتردد في التنقل بينهما، ومع تقدم العمر، وبعد الإفلات من مناجل الموت شرحت أمي وأفاضت في تفسير الوقائع والمعاني، لكنني ظللت أحس أعمق الإحساس بأنني وليد امرأتين مزدوج الوجود والعمر، ومزدوج الفجيعة بموتهما .
أوائل زيارات الدهشة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة