ساد قاعة مجلس الشيوخ لغط انقلب إلى صخب ثم تحول إلى غضب، وعلت الأصوات وانقلبت إلى هدير تحول إلى زئير، وفقا لوصف جريدة «البلاغ» يوم 26 يونيو 1945، لمناقشة قانون تحديد الملكية الزراعية بخمسين فدانا، الذى تقدم به النائب محمد خطاب، وناقشه المجلس فى 25 يونيو، مثل هذا اليوم، 1945، وتضيف: «كان الجدل عجيبا حقا والمطلب كان أعجب، يطلبون من «خطاب» التسليم بلا قيد ولا شرط، ويطلبون للمشروع الرفض بغير كلام أو سلام، وبغير نقاش أو بحث، ويرون أن البلد كلها ضد المشروع».
كان «خطاب» عضوا بالحزب السعدى بزعامة النقراشى باشا، ويذكر فى كتابه «المسحراتى»، «أنه استقال منه فى مايو 1945، لرفض النقراشى للقانون»، وجاء المشروع كمحاولة لإصلاح أوضاع اجتماعية سائدة يذكرها الدكتور رؤوف عباس والدكتور عاصم الدسوقى فى كتابهما «كبار الملاك والفلاحين فى مصر -1937- 1952»: قائلين: «كان هناك سوء توزيع فى الملكية الزراعية وتركز الكبيرة منها فى نصف فى المائة من مجموع الملاك، وعارضوا أى رأى ينادى بإعادة توزيع الملكيات الزراعية، والوقوف ضد أى مشروع يتعرض من قريب أو بعيد لحجم هذه الملكيات أو تحجيمها».
تكشف مجلة «المصور» فى عددها 1081، يوم 29 يونيو 1945، عدة حقائق حول هذه القضية، قائلة: إن لجنة الشؤون التشريعية بمجلس الشيوخ أصدرت تقريرها عن مشروع القانون، بعد أن عدلته فجعلت الحد الأقصى للملكية 100 فدان بدلا من 50، وأن الإحصائيات الأخيرة أظهرت أن الذين يملكون أكثر من 2000 فدان فى مصر هم 61، ومتوسط ما يملكه كل منهم 5077 فدانا، والذين يملكون أكثر من 1500 إلى 2000 فدان عددهم 46 مالكا، بينما الذين يملكون أقل من فدان نحو مليون و779 ألفا و780.
عادت «المصور» وأفردت للقضية الصفحة الخامسة فى عدد 1082، بتاريخ 6 يوليو 1945 بعنوان «على هامش تحديد الملكية»، وقالت: «فى الشهر الماضى وقف معالى مكرم عبيد باشا وزير المالية ليقدم الميزانية الجديدة، وقال: إضافات الحكومات والبرلمانات المتوالية تندب حالة الفلاح فى مصر، وترسم صورة حالكة السواد لفقره الأسود، وكان المتشرف بالوقوف بينكم أحد الصائحين النائحين، حتى إنى رأيت الهوة السحيقة التى تفصل بينه وبين الطبقات الغنية فى مصر، ولم يسعنى إلا أن أنعى على المصرى استعماره لأخيه المصرى. إن مستوى المعيشة بين فلاحينا ليس فى الواقع وحقيقة الأمر إلا مستوى الحرمان».
وتذكر «المصور» أن مكرم باشا قال: إن مستوى دخل الفلاح المصرى لم يكن يزيد على 12 جنيها قبل الحرب العالمية الثانية، ارتفع إلى 20 جنيها بسبب التضخم النقدى، وهو رقم يغنى عن كل تعليق، وعن خريطة الملكية الزراعية، قال مكرم: إن كبار الملاك الذين تزيد ملكيتهم عن 50 فدانا يبلغون حوالى نصف فى المائة من عدد الزراع ويمتلكون 36.9 % من مجموع الثروة الزراعية، أما الباقى وهو أقل من الثلثين فيوزع على 99.5 % من مجموع الزراع، وملكية هؤلاء لا تزيد فى المتوسط على ربع فدان لكل منهم.
تضيف «المصور» أنه تألفت فى مصر أخيرا جماعة باسم «جماعة النهضة القومية »، تضم عددا من كبار الملاك بينهم «مريت غالى بك»، لم تتردد فى تأييد فكرة تقييد الملكية الكبيرة، وأن «مريت غالى»، يرى أن مائة فدان مساحة معقولة كحد أعلى لما يجوز أن يتملكه الشخص فى المستقبل، لأن ملكية واحدة شاسعة تحرم مئات العائلات الريفية من بلوغ ما يحقق لها الاستقرار الاجتماعى.
يعبر «خطاب » فى كتابه «المسحراتى» عن صدمته مما وجده بمجلس الشيوخ، لأنه كان يعتقد أن مشروعه لن يلقى معارضة صاخبة من أحد فيه، لكنه فوجئ بتحالف واسع ضده، يضم أحزابا ومجلس الشيوخ والمفتى، وفى 26 يونيو 1945 كتبت صحيفة «البلاغ» تصف جلسة المجلس بأنها «أول معركة بين جيلين تدور رحاها على حق الشعب المصرى فى الحياة».
يكشف «خطاب»، أن «الشيوخ» قرر إحالة المشروع إلى لجنة من أعضاء لجنة الشؤون الاجتماعية، يضاف إليها ثلاثة من كل لجنة من لجان المالية والعدل والأشغال والزراعة، على ألا يكون انعقاد اللجنة صحيحا إلا إذا حضر أغلبية ممثلى كل هذه اللجان، وإذا حضرها جميع الأعضاء إلا اثنين من إحدى اللجان بطل انعقادها، وبهذا لم يكن من الميسور انعقاد اللجنة أبدا، وبعد خروج «خطاب» من المجلس، كتبت اللجنة تقريرا دافعت فيه عن الملكيات الكبيرة، وفائدتها للاقتصاد القومى، وعن قدرة المالك الكبير دون الصغير على تجويد الإنتاج، ورفضت المشروع.
دفع «خطاب» الثمن، فبعد انتهاء عضويته رشح نفسه بدائرة عابدين عام 1947، وحاربته الحكومة مما أدى إلى سقوطه، ويذكر: «شاهدت من أساليب الجرأة والفساد وتحدى الشعور العام ووطء الحرية بالأقدام ما تضاءلت إلى جانبه ذكريات الجستابو».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة