كان الوقت ظهر 16 مايو مثل هذا اليوم 1956، حين استقبل رئيس وزراء الصين «شوين لاى» رئيس مكتب مصر التجارى فى الصين الشعبية «محمد مدحت الفار»، وفى اللقاء أبلغ «الفار» الزعيم الصينى قرار مصر بالاعتراف بالصين، وكان «لاى» أول من استقبل القرار فى نفس يوم إعلانه بالقاهرة، ورحب به أجمل ترحيب، مظهرا الشكر والتقدير من حكومته وشعبه إلى حكومة وشعب مصر، حسبما تذكر «زينب عيسى عبدالرحمن» فى كتابها «العلاقات المصرية الصينية.. 1956 - 1970»، وتضيف: «أصبحت مصر الدولة الثالثة والعشرين المعترفة بالصين الشعبية»، وكانت الأولى عربيا.
كان القرار فى حينه سباحة عنيفة ضد التيار العاصف وتجاوزا للخطوط الأمريكية الحمراء «وفقا للكاتب الصحفى محمود عوض فى مقاله «مصر والصين - سلامات» بجريدة الحياة اللندنية يوم 18 ديسمبر 2010، موضحا: «الولايات المتحدة بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة فى الصين سنة 1949 رفضت الاعتراف بالصين الجديدة، مقررة أن الصين بالنسبة إليها هى «فورموزا» التى أصبحت تايوان فيما بعد، وأن تلك الجزيرة الصغيرة هى التى تمثل كل شعب الصين، بل وتحتل مقعد الصين الدائم فى مجلس الأمن الدولى كواحدة من الدول الخمس الكبار دائمة العضوية.
يضيف عوض: «بالطبع كان المشهد عبثيا إلى أقصى حد - وتلك كانت سنوات الحرب الباردة - لا وجود للصين بالمرة إلا باسم فورموزا، وعلى أصدقاء وحلفاء أمريكا التزام هذا التصنيف لأن أى اعتراف بالصين الجديدة - الصين الحقيقية - هو عمل عدائى ضد المصالح الأمريكية»، وتذكر زينب عيسى عبدالرحمن، أن الولايات المتحدة الأمريكية رأت أن القرار المصرى عملا لا يغتفر، وأن وزير خارجيتها «دالاس» استدعى السفير المصرى فى واشنطن أحمد حسين، وأبلغه بذلك واحتج على القرار.
سبق هذه الخطوة علاقة إعجاب بين عبدالناصر وشوين لاى، وحسب محمد حسنين هيكل فى كتابه «عبدالناصر والعالم»: «اجتمع عبدالناصر وشوين لاى للمرة الأولى فى «رانجون» عاصمة بورما، عندما كانا فى طريقهما إلى باندونج لحضور مؤتمر دول الحياد الإيجابى «18 أبريل 1955»، وكان الصينيون حريصين كل الحرص على إجراء هذا الاتصال مع عبدالناصر، فقد كانت «مصر - عبدالناصر» بدأت تبرز كزعيمة للعالم العربى، وموقفها من الصين كان يعنى موقف منطقة بأسرها، وعندما توقف عبدالناصر فى نيودلهى لاصطحاب نهرو «رئيس وزراء الهند» لباندونج، طلب السفير الصينى فى العاصمة الهندية أن يقابل شوين لاى، وقبل عبدالناصر بسرور، وعندما هبط عبدالناصر ونهرو من طائرتهما فى رانجون، وجدا شوين لاى فى انتظارهما فى المطار، وقام نهرو بمهمة التعريف قائلا: «هل أحتاج إلى أن أعرفكما ببعضكما أو إلى تقديم كل منكما إلى الآخر».
يذكر هيكل، أنه فى مساء ذلك اليوم عقد الزعيمان المحادثات التاريخية الحاسمة التى أدت - فى النهاية - بمصر إلى عقد صفقة الأسلحة الأولى مع الاتحاد السوفيتى «سبتمبر 1955»، تلك الصفقة التى قدر لها أن تكون ذات آثار بعيدة المدى، ومتعددة بالنسبة إلى مصر نفسها وللعالم العربى أجمع.
اعترفت مصر بالصين بعد لقاء عبدالناصر وشوين بعام وشهر، ووفقا لزينب عيسى عبدالرحمن: «قام وكيل الخارجية المصرية «حسين عزيز» باستدعاء سفير الصين الوطنية بالقاهرة «دكتور هوفنج شان» وكان عميدا للسلك الدبلوماسى الأجنبى بالقاهرة صباح 17 مايو 1956، مبلغا إياه قرار الحكومة المصرية بسحب اعترافها بحكومته، وعلى أثر هذا القرار أنزل علم الصين الوطنية من فوق مبنى سفارتها التى أغلقت للأبد».
تذكر عبدالرحمن، أن الحكومة المصرية عللت قرارها بأنها أدركت أن حكومة الصين الشعبية الحالية هى الشرعية للصين، وتمثل بلدا عدد سكانه 600 مليون نسمة أى ربع سكان العالم منهم 50 مليون مسلم، ولا يمكن تجاهلها، واشتركت فى مؤتمر باندونج الذى كان من أهم قراراته تصفية الاستعمار ومنح الشعوب حق تقرير المصير، واعترفت أكثر من عشرين دولة بها، منها دول غربية كبريطانيا التى تتاجر وتبيعها مواد استراتيجية بغير رضا أمريكا، وكذلك إسرائيل ربيبة الأخيرة، وأن الصين تقف موقفا عدائيا ومعارضا لكل الأحلاف والتكتلات العسكرية وهى نفس الأهداف التى تسعى إليها مصر.
ويضيف محمود عوض، سببا آخر، قائلا: «ظهر فيما بعد أن الاعتراف المصرى بالصين كان الدافع له هو المصلحة الوطنية، كان قرار تأميم شركة قناة السويس يختمر سرا فى العقل السياسى المصرى ومن بين حساباته التداعيات المتوقعة للقرار دوليا، وفى مقدمها احتمال لجوء فرنسا وبريطانيا وحلفائهما إلى فرض حصار اقتصادى ضد مصر سيكون من أول أسلحته الامتناع عن شراء محصول القطن الذى كان فى حينها المصدر الرئيسى للحصول على العملات الصعبة، بالتالى كان الاستعداد بالبدائل تفكيرا حصيفا من السياسة المصرية».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة