هل تعد سيدة الغناء العربى أم كلثوم تاريخيا من المبدعين، أم كانت مجرد مؤدية ألحان كما يبدعها ملحنوها، وبالتالى فإن الإبداع يكون لغيرها؟
أطل هذا السؤال برأسه فى عام 1959 حينما رفض المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، برئاسة الدكتور حسين فوزى، ترشيحها لجائزة الدولة التقديرية بحجة أنها مؤدية وليست مؤلفة، وظل الأمر على هذا النحو تسع سنوات حتى فازت بالجائزة يوم 13 فبراير 1968، بتدخل من جمال عبدالناصر، كما أوضحنا ذلك فى مقال «ذات يوم» المنشور يوم 13 فبراير 2024.
أعيد طرح السؤال بحصولها على الجائزة، وتصدى له المؤرخ والناقد الفنى الكبير كمال النجمى فى مقاله «جائزة الإبداع لأم كلثوم»، بمجلة الكواكب فى 20 فبراير، مثل هذا اليوم، 1968، واستهله بالقول: «أم كلثوم لا تبدع الألحان التى تغنيها، أى لا تخلقها، بل تؤديها كما يبدعها ملحنوها، رأى لا يكون صحيحا عند التعرف العادل على الأبعاد الفنية لأم كلثوم صوتا وفنا».
يشرح «النجمى»: «أم كلثوم من فلتات فن الغناء العربى فى كل العصور، ولا يجوز أن يقام لها من الموازين الفنية ما يقام لمطربات ومطربين يتكرر ظهور نسخ منهم جيلا بعد جيل، وأسهم صوت أم كلثوم إسهاما جوهريا فى خلق أسلوب التلحين العربى المتطور وتحديد مساره، وأتاح للملحنين أن يجوبوا آفاقا باهرة ما كانت تخطر لهم على بال لولا وجود هذا الصوت الذى حملهم إلى تلك الآفاق، لقد فتح صوت أم كلثوم أبوابا للتلحين الجديد المتطور، كان يتعذر أن تنفتح لملحنى عصرنا لولا إمكاناته الفنية الرفيعة التى يعتبر وجودها مجتمعة فى صوت واحد سخاء على عشاق فن الغناء، لا يسمح به الزمان إلا مرة واحدة كل بضع مئات من السنين».
وعن مواصفات صوتها، يذكر «النجمى»: «صوت أم كلثوم بمقدرته الهائلة، ومساحته الخصبة، ومقاماته المصقولة المضبوطة ذات التناسب العجيب، وذبذباته السحرية، ونبراته الوضيئة التى تتمثل فيها ألوان من لمحات الجمال والجاذبية والقوة لا نهاية لها، صوتها هذا الذى أهدته المصادفات الطيبة لعصرنا هو الذى أشعل مواهب الملحنين، وآثار التنافس بينهم، وألهمهم ألحان حاولوا دائما ما وسعهم الجهد أن تكون على مستواه، وحرصوا دائما أن يلبوا متطلباته من الألحان التى لا يستطيع صوت سواه أداءها والتصرف فى أدائها وإضافة اللمسات الفنية إليها لتكوين مذاقها الفنى الفريد».
يضيف «النجمى»: عندما ظهرت أم كلثوم فى العشرينيات «القرن العشرين» كانت الأصوات المشهورة لا تخرج عن دائرة الصراخ «العثمانلى» و«النواح الغجرى»، فكان ظهورها بشيرا بانقضاء هذه المرحلة الفنية المتخلفة، ولما بدأ الشيخ أبوالعلا محمد يلحن لها فى العشرينيات وضح له أن صوتها يتطلب مستوى أرفع بكثير من مستوى الألحان، التى درج ملحنو ذلك العهد على تلحينها للمطربات والمطربين، حتى تجمدوا فى قوالب الغناء البدائية.
وبعد الشيخ أبوالعلا ارتبطت أحلام دعاة التجديد الغنائى بصوت أم كلثوم، لأن صوتها كان الوسيلة المثلى لإقناع المستمع بقضيتهم فى تجديد الغناء وتطويره، وبدون صوتها كانت حركة التجديد والتطوير ستبقى حلما يلوح للنائمين ولا سبيل إلى تحقيقه فى اليقظة، ومن خلال صوتها انبعثت محاولات الموسيقار محمد القصبجى ابتداء من أغنية «إن كنت أسامح» فى نهاية العشرينيات، إلى ألحان هذا الموسيقار المجدد فى الثلاثينيات والأربعينيات، وصوت أم كلثوم هو الذى جلا على الأسماع ألحان زكريا أحمد ورياض السنباطى، ومن صوتها استمد كلاهما روحا معنوية غامرة دفعتهما إلى تجويد تلك الألحان، فصوت أم كلثوم رصيد فنى لا ينضب، يستند إليه كل ملحن وبدونه يجد الملحن أنه كتب شيكا بلا رصيد.
يواصل «النجمى»: «إلى هذا الرصيد استند كل من لحن لأم كلثوم بعد الشيخ أبوالعلا، والقصبجى وزكريا والسنباطى، ويوضح أنه لا يقلل من جهد الملحنين، وإنما يحاول أن يفصل إبداع أم كلثوم بشعرة دقيقة جدا عن إبداع الملحنين، لأنها تشترك بصوتها اشتراكا فعليا فى خلق اللحن إلى الحد الذى يجعل السامع لا يتصوره بدون صوتها وأدائها ومشاركتها فى تشكيله.
يؤكد «النجمى»: «أم كلثوم تأخذ اللحن فتكلثمه، أى تجعله لحنا كلثوميا خالص الذوق واللون والرائحة، وتصب فيه نبراتها، وتفرشه على قدر ما يناسبه من مساحة صوتها التى تتسع لكل الألحان وتهيئ له عمليات فنية دقيقة متأنية ذكية، حتى تجلوه فى آخر الأمر على صورته الكلثومية التى يحار فى روعتها السامعون، وتلبس قلوبهم وعقولهم وأجسادهم كأنها مس من الوجد الصوفى، أو طائفة من السحر العجيب، وفى تاريخ الغناء العربى لا مثيل لأم كلثوم فى هذا المجال إلا فيما ندر، ولا يذكر تاريخ الغناء العربى إلا أصواتا قليلة جدا غنت للناس وتغنت عشرات السنين بقوة دائمة، وتجديد لا ينقطع، وصوت أم كلثوم فى مقدمة هذه الأصوات، وأكثرها خلودا بلا جدال».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة