فى بداية أى مشوار صحفى يتسيد الانبهار الموقف، وتسيطر المبالغة أحيانًا، ولا مانع من وجود قليل من الرهبة عند الحديث أو الالتقاء بالشخصيات ذات الحضور الطاغى فى مجالها، وفى عالم الثقافة والأدب يسطع اسم الكاتب الكبير بهاء طاهر كصاحب موهبة متفردة ومواقف لا تنسى، والذي واتتنى فرصة إجراء حوار معه فى مطلع شهر أكتوبر عام 2011!
المفارقة الحزينة أن الحوار أُعد للنشر في نهاية شهر أكتوبر من عام 2011، ولم يُكتب له أن يكون بين أيدي محبى وجمهور الكاتب الكبير إلا فى نفس الوقت تقريبًا لكن بعد 13 عامًا في ذكرى رحيله الأولى.
كنت طالبًا فى السنة الدراسية الثانية بكلية الإعلام جامعة القاهرة، أعيش مع الأحلام أكثر من التعايش مع الواقع، وبالتالي حوار صحفي مع بهاء طاهر، وسيُنشر في مجلة ثقافية شهيرة، فرصة لن تتكرر، وبالفعل لم تتكرر!
تباهى وتواضع روائي كبير
مع استرجاع ذكرياتي عن الحوار على الاعتراف بعد مرور السنوات بأنى ركزت جهودي وقتها على ما سأخبر به أصدقائى عن الحوار أكثر من التحضير للحوار نفسه، فالتباهى باللقاء شغل البال أكثر من أمور أخرى فى عالم الصحافة تعلمت أهميتها مع مرور الأيام لكن في الوقت نفسه أسجل للكاتب الكبير "عدم الخذلان"، وجعلها فرصة سعيدة وليس مجرد درس قاسي أتعلمه.
ما أتذكره جيدًا أني عندما حاولت الاتصال بالكاتب الكبير لإجراء الحوار، اعتذر بسبب ظرف صحى يمر به في هذه الأيام، إلا أن جملة "أنا لسه طالب فى كلية إعلام وشرف ليّ أنى عمل حوار مع حضرتك".. كانت كفيلة بحسم موافقته على أن يكون وسيلة إجراء الحوار الهاتف الأرضى بدلاً من لقاء مباشر.
فى بداية الحوار سألت الكاتب الكبير، هل نملك مشكلة فى عدد المبدعين بمصر فى الفترة الماضية؟، ليأتى الرد حاسم: "بالعكس، هناك عدد كبير جد، المسألة تحتاج إلى نوع من الغربلة لظهور الصالح واختفاء الطالح"، لأبادره بعدها بسؤال اعتبرته وقتها أين هم: "لكن أين هم؟".. ليرد بهدوء: "موجودون.. عليك أن تبحث عليهم".
ولعلى لم أفهم مقصد الكاتب الكبير فى إجابته الأولى لأكرر السؤال: "أقصد.. لماذا لا نرى أمثال بهاء طاهر وخيرى شلبى بيننا الآن؟".. ليرد بوضوح أكثر: "هذه هى مشكلة الإعلام، الذى يتوجب عليه البحث عن المواهب الشابة بدلاً من أن يأتى ليسألنا نحن الكبار عنهم، هم المستقبل ونحن أصبحنا فى نهاية المطاف".
إشادة تأخرت لسنوات
بادرت الكاتب الراحل بسؤال عن أسماء يتوقع بزوغ نجمها فى المستقبل القريب، وكان جوابه أنه يقرأ فى الوقت الراهن رواية "وشم وحيد" للكاتب الشاب سعد القرش، وعرفه بالحاصل على الجوائز إلا أنه لم ينل نصيبه من الأضواء والشهرة المستحقة، وأكد أيضًا فكرة وجود عشرات الأسماء الموهوبة غير المعروفة للإعلام، ويجب النظر إليهم خاصة فى أقاليم مصر.
الإشارة إلى اسم الروائي سعد القرش، دفعنى للاتصال به للتعرف على انطباعه عن الإشادة بروايته، ليؤكد لىّ أنه أول مرة يعلم أن الأستاذ بهاء قد قرأ روايته الصادرة في عام 2011، وأنه لم يخبره بهذا الأمر من قبل رغم مواقف رائعة جمعتهما معا، لا سيّما أن الأستاذ معروف بمواقفه الإنسانية وتواضعه رغم أنه أبرز كتاب جيله على صعيد الثراء الثقافي، مُختتمًا بأن تنامى تلك المعلومة إليه أسعده رغم مرور كل هذه السنوات.
صاحب رائعة "خالتى صفية والدير"
نعود إلى نص الحوار، وتركزت أسئلتي على وجود اتهامات من كُتاب تجاه دور نشر بالتعنت ضدهم خلاف ما كان يحدث بالماضى، ليجب: "هذا منافٍ للحقيقة، المشاكل موجودة طوال الوقت، نشر رواية فى زمننا كان يعد إنجازًا كبيرًا، الوضع الآن أفضل بكثير من الماضى، فقد عانينا فى شبابنا كثيرًا جدًا".
وما رأيته من سياق الحديث بأن الكاتب الراحل يحمل الكاتب مسئولية نجاحه وحده، ليؤكد ما توصلت إليه قائلاً: "الحياة عبارة عن معركة يخوضها كل كاتب.. القوى يتغلب والضعيف يتهاوى".
بالتأكيد لم يكن الحوار ليمر بدون سؤال عن رواية "خالتى صفية والدير" باعتبارها العمل الأشهر للكاتب الراحل فى الأوساط الشعبية بعدما تحولت إلى عمل درامي ناجح، يتصدر اسم الكاتب الكبير بهاء طاهر تتر بدايته ونهايته.
سألت صاحب رائعة "خالتى صفية والدير" - وصفه الأبرز فى عدد من وسائل الإعلام قديمًا وحديثًا - عن تجربته فى معالجة قضية الفتنة الطائفية فى روايته الأشهر، ومدى وجود نقص فى نوعية تلك الأعمال ليرد باقتصاب بأن الأعمال من هذا النوع كثيرة، مستدركًا بأن مثل هذه المشكلات تحتاج لأفعال قادرة على الحل لا أقوال، مختتمًا بقوله: "مليون عمل ليس له أهمية قانون أو قرار واحد".
اختتمت حوارى مع الكاتب الكبير بسؤال اعتبره الآن ضعيفًا ونصه: "هل أنت متفائل بمستقبل الثقافة فى مصر"؟.. ليرد على: "بكل تأكيد.. البلد تمتلئ بالمواهب المهم البحث عنها".. إلا أن مرور كل هذه الوقت يجعلنى أجزم أن الرجل كان متفائلاً قولاً وفعلاً، ومتواضعًا رغم تعدد مواهبه، وداعما للشباب بكل طاقته، فرغم طول مدة حوارى معاه ومعاناته الصحية وقتها، كان صبورًا، ومجاملاً عندما أخبرنى بأنى صحفي ينتظرنى مستقبلاً باهرًا، وواصفًا أسئلتى بالقوية والذكية، ما أشعرنى بسعادة بالغة حينها، وثقة كبيرة في النفس، والآن أشعر بسعادة أكبر رغم أنى بنفسي حذفت أكثر من نصف هذه الأسئلة قبل مراجعة الحوار للنشر، واعتبرتها لا تليق بكاتب بحجم بهاء طاهر!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة