«إنى عربى، تركى، يونانى، جركسى، أصول أربعة، فى فروع مجتمعة، تكفله لها مصر، كما كفلت أبويه من قبل، وما زال لمصر الكنف المأمول والنائل الجزل، على أنها بلادى، وهى منشئى ومهادى، ومقبرة أجدادى، ولد لى بها أبوان، ولى فى ترابها أب وجدان، وببعض هذا تحبب إلى الرجال الأوطان».
هكذا يلخص أمير الشعراء أحمد شوقى مسار حياته من حيث أصله ونسبه منذ أن ولد فى 16 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1968، ويذكر «شوقى» هذا التلخيص، لأنه ينتمى لأسرة مختلفة الأصول والأعراق، فجده تركى يمتد نسبه إلى الأكراد فالعرب، وقدم إلى مصر أيام ولاية محمد على باشا، فألحقه بخاصته، واستعان به فى كثير من المكاتبات الديوانية، حين عرف عنه إجادته التركية والعربية خطا وإنشاء، وظل يتقلب فى المناصب حتى صار أمينا للجمارك المصرية فى عهد سعيد باشا، وجمع ثروة طائلة مات عنها، وتركها لابنه «والد الشاعر» فبددها الابن، وكاد يقع فريسة الفقر والبطالة، لولا أن تداركه الخديو توفيق فأقامه مفتشا بخاصته، حسبما يذكر الدكتور عباس حسن فى كتابه «المتنبى وشوقى، دراسة نقدية وموازنة»، والصادر فى سنة 1951.
يضيف عباس حسن، أن جدة أحمد شوقى كانت جركسية، عرفت بحزمها وكياستها، وجده لأمه تركى، قدم مصر فتيا، فاستخدمه إبراهيم باشا، وزوجه بجارية معتوقة مورية الأصل «بلاد المورة باليونان»، وبقى يصعد حتى مات وهو وكيل خاصة الخديو إسماعيل باشا.
تلك هى الأصول التى ولد عليها أحمد شوقى فى حى الحنفى بالقاهرة القديمة، ولما بلغ الرابعة من عمره دخل مكتب الشيخ صالح بحى السيدة زينب، ثم مدرسة المبتديان الابتدائية، فالمدرسة التجهيزية «الثانوية»، ولما أتم دراسته الثانوية دخل مدرسة الحقوق، وقضى بها سنتين، ثم أنشئ فيها قسم للترجمة فتحول إليه، وقضى به سنتين نال بعدها الشهادة النهائية فى الترجمة.
يذكر عباس حسن، أن الخديو توفيق كان معجبا بأحمد شوقى، وبشعره الذى ينشره وهو طالب، فاختاره بعد تخرجه مبعوثا إلى فرنسا، ليتم دراسته فى الحقوق والآداب هناك، فأقام فى مونبليه ثم فى باريس ثلاث سنوات ونصف السنة، أكمل فيها دراسته، واستزاد مما سافر له، ومكنته هذه الفرصة من الطواف بأنحاء فرنسا، والاطلاع على كثير من شؤونها وأحوال أهلها وزيارة إنجلترا، وبلاد الجزائر فى شمال أفريقيا، ثم عاد إلى بلاده فضمه الخديو إلى حاشيته، وندبه بعد ذلك لتمثيل مصر فى مؤتمر المستشرقين بجنيف، فاختلب الفرصة وتنقل فى تلك البلاد الفاتنة، وغادرها بعد المؤتمر إلى بلجيكا، فزار حاضرتها، وبعض مدنها الكبيرة، وعاد إلى وطنه وعمله.
توفى الخديو توفيق، وتولى العرش بعده ابنه الخديو عباس الثانى، ويذكر عباس حسن: زاد فى إكرامه وتقريبه، وجعله أنيس مجلسه ورفيق رحلته، فوق أنه شاعره الخاص، ثم استعلت الحرب العالمية الأولى فى أواخر سنة 1914، والخديو عباس يصطاف وحده فى بلاد الترك، وكانت مصر تابعة لها من الوجهة السياسية مع احتلالها من إنجلترا، وأعلنت حمايتها عليها، ومنعت الخديو من الرجوع إليها لاتهامهم إياه بأنه عدو لهم، وأنه تركى الهوى راضٍ عما فعله الترك من انضمامهم فى الحرب إلى صفوف الألمان، واضطهد الإنجليز كثيرا من الوطنيين وشردوا المقربين إلى الخديو.
يؤكد عباس حسن، أن أحمد شوقى كان من هؤلاء الوطنيين المقربين من الخديو، فنفاه الإنجليز إلى بلاد الأندلس، وظل بها إلى آخر سنة 1919 فسمحوا له بالعودة، فوصل أول سنة 1920، ولكن أميره «عباس الثانى» لم يعد لأسباب سياسية حالت دون ذلك، فانطوى شوقى على نفسه حينا وتفرغ لأدبه وتنمية ثروته، وتهيأت له الفرص أن يزور بلاد الترك، ولبنان وسوريا، وتجلت عبقريته كاملة بعد عودته من المنفى، وطلع على الناس أنضج فكرا، وأصفى قريحة، وأقوى شاعرية، وأغزر إنتاجا، فأرسل روائع الشعر، وبدائع النثر، وفواتن القصص المسرحية وغير المسرحية، وانطلقت ملكته الموهوبة، وتبارى استعداده المهيأ فى جمع المجد له، وقصره عليه، وقد تم له ما أراد، فلم يظفر شاعر عربى معاصر بمثل ما ظفر به شوقى من شهرة وصيت.
يضيف عباس حسن، أن البلاد العربية اتفقت كلمتها على أنه أمير شعرائها، ولم يكتفوا بترديدها متفرقة فى بلدان العروبة، بل سجلوها فى إجماع رائع على لسان وفودهم التى اجتمعت فى القاهرة سنة 1927 فى مؤتمر عام تعلن زعامته الشعرية، وتنادى به أميرا للشعراء، وتقدم له فى ابتهاج وإكبار واطمئنان تاج الإمارة ولقبها، وظل محتفظا بها لا يزاحمه عليها شاعر حتى ودع العالم سنة 1932.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة