كان انتظار الحرب قد طال، واعتبرها الجميع معركة الحياة، وكان كل من في هذا الوطن يشعر أنها معركته الشخصية التي طال انتظارها، وإذا كانت حالة حرب الاستنزاف قد ساعدت هذا الوطن على استعادة إحساسه بالحياة متذوقا بطولات أبنائه في عمليات العبور المتفرقة، وغيرها من البطولات التي استمرت لفترة تزيد عن السنوات الثلاثة، فقد استطاعت أم كلثوم بدعوتها للتبرع للمجهود الحربي خلق حالة رفض الهزيمة، كما فعل شادي عبد السلام عندما أخرج رائعته المومياء الفيلم الذي اختتمه بجملة (انهض فلن تفنى، لقد نوديت باسمك)، وغيرهم كثيرون لم تكن الاستكانة لحالة الهزيمة بالنسبة إليهم سوى موت محقق فقاوموا.
لقد احترف المصريون إذن الحياة، ورفضوا سواها، لهم أو لوطنهم.
ولذلك فقد كانت أنباء العبور وبدء العمليات العسكرية لحرب أكتوبر كلمة سر خاصة حركت الجميع، بل دفعتهم دفعا إلى أن يكونوا جزءا من الفعل لا مجرد متلقين له، وتحولت حالة الانتظار إلى حركة حقيقية وسريعة ولا تقبل العودة.
ربما بهذا فقط يمكن لنا أن نفسر ذلك الموقف الذي يُحكى عن بليغ حمدي، الملحن الذي سبق جيله وأجيالا بعده، والذي شهد له الكبار من السابقين عليه بالنبوغ، وهو أصغر من لحن لأم كلثوم، وهو الذي كان معروفا بأنه الفنان العشوائي الذي لا يلتزم بشيء، لكن هذا الفنان نفسه هو الذي استجمع كل قواه فور سماعه لخبر العبور، ولم يفكر في شيء سوى أن يقدم نموذجا للفعل الإيجابي، فأسرع بالذهاب إلى مبنى الإذاعة مصطحبا المطربة وردة، دون خطط واضحة سوى شعوره بأنه يجب عليه أن يكون هناك في مكانه، ليؤدي دوره الذي يستطيع تأديته.
ذهب بليغ إلى الإذاعة، وحاول الدخول فتم منعه، فطلب وجدي الحكيم، الذي حاول أن يمنعه تحت عذر أن المبنى سيادي والبلد في حالة حرب، فهدد بليغ بأنه سوف يبلغ الشرطة عنهم بحجة أنهم يمنعونه من تأدية واجبه وقت الحرب، فوافق رئيس الإذاعة وقتها (بابا شارو)، لكنه أكد أنه لا توجد ميزانيات لإنتاج أي أغنيات بسبب الحرب، فوقع بليغ إقرارا بأنه سيتحمل تكاليف الأغنيات كافة بما فيها أجور الموسيقيين.
واستدعى الفرقة الماسية وقائدها أحمد فؤاد حسن، وهم الذين رفضوا تقاضي أي أجر، وكذلك فعل الشاعر عبد الرحيم منصور، فبدأت تلك الليلة بأغنية كتبها للتو، وهي أغنية حلوة بلادي (أو على الربابة باغني) التي لحنها بليغ في أثناء كتابتها وغنتها وردة قبيل الفجر، ثم الأغنية الثانية وهي (باسم الله الله أكبر)، التي لحنها بليغ ولم يجد من يغنيها سوى مجموعة من موظفي الإذاعة، وتم تسجيلها بصوتهم، لتخلد الأغنيتان بوصفهما أول ما أنتج للحرب، كما أن أغنية باسم الله كانت بمثابة كلمة السر التي كان لها كبير الأثر على الحالة المعنوية للجنود على الجبهة.
لم تكن تلك مجرد أغنيات، ولم يكن تصرف بليغ وكل من تبعه في تلك الليلة مجرد تعبير فني عن حالة بل هو الفن حين يتحول لفعل حقيقي وإيجابي، وإلى التعبير الفعلي عن حالة حياة ربما نحتاج اليوم بشدة إلى استعادتها وتمثلها، بالقدر نفسه الذي نحتاج إلى فنانين من نوع بليغ وأقرانه، لكي ننادى باسمنا وننهض مرة أخرى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة