استشهاد 5 آلاف طفل منهم 260 مجهول هوية وأكثر من ألف طفل تحت الأنقاض
العالم مدعى التحضر ينددون بالمسلمين والمسيحيين بسبب ذبح الحيوانات فى أعياد الأضحى والفصح ويتجاهل ذبح أطفال غزة على الهواء
طواقم الإغاثة تعجز عن إنقاذ الأطفال الأحياء من تحت الركام بسبب ضعف الإمكانيات وقوة القصف.. و7 ألاف طفل مصاب أغلبهم حالات بتر وتشوه وفقدان البصر
مجازر الصهاينة تزيد إصرار أطفال فلسطين على تحرير الأرض ومن رحم المعاناة يولد النصر
يجلس شاردا يحمل على ظهره حقيبة مدرسية، لكنها ليست مثل كل الحقائب، فهو ليس كأى طفل ومدينته ليست كسائر المدن وموطنه ليس كمثله وطن، حقيبته لا تحتوى على أقلام ولا كتب أو كراريس، ليس بها علبة ألوان ولا تعرف سوى اللون الأحمر، لون لحم ودماء أخيه ذى الأربع سنوات، الذى تضم الحقيبة ما تبقى من أشلائه بعدما قصفت قوات الاحتلال منزله، جمع الطفل الفلسطينى ذو العشر سنوات أشلاء شقيقه، التى رآها مبعثرة إلى جواره بعد القصف وبعد استشهاد أبيه وأمه، وجلس شاردا فى سيارة الإسعاف لا يستوعب عقله الصغير ما حدث ويحدث، وحين سأله المسعف عما يحمله أجاب بأنها أشلاء أخيه، جحظت عيناه ولم يعد قادرا حتى على البكاء، جلس وجميع أوصاله ترتعد بينما تزدحم المستشفى وسيارات الإسعاف بجثامين الشهداء وأشلائهم، ويتكدس فى الطرقات مئات المصابين الذين لا يجدون أبسط أدوات الإسعاف بعد حصار غزة ومنع المساعدات الطبية والإنسانية من الوصول إليها، بينما تعمل الطواقم الطبية ليل نهار محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، يفاضلون بين المصابين، حسب درجة خطورة الحالة، يحاولون إنعاش قلوب أنهكها الدمار والقصف وفراق الأحباب ومزقتها قنابل العدو، يجرون جراحات خطيرة بلا تخدير، ويحاولون طمأنة أطفال ورضع بلا هوية بعد أن فقدوا كل أهلهم، هكذا هو الحال فى غزة، تحول فيها كل شىء إلى اللون الأحمر، تناثرت الأشلاء فى كل مكان، استشهد ما يقرب من 10 آلاف شهيد أغلبهم من الأطفال، الذين اغتال الكيان الصهيونى طفولتهم، وشارك العالم بأسره الذى يدعى التحضر فى قتلهم، ووقف كالمتفرج يرى وأدهم دون أن يعبأ بصرخاتهم.
غزة مقبرة الأطفال
لم يعد الأطفال فى غزة كسائر الأطفال يفكرون فى المدرسة والكتب والألوان والألعاب، بل تحولت حياتهم إلى جحيم، لا يسمعون إلا أصوات القصف، ولا يرون إلا الجثث والأشلاء والدمار فى كل مكان، لم يعد أغلبهم يعيش فى بيوت، بعد أن طاردتهم صواريخ وقنابل قوات الاحتلال وشردتهم من بيوتهم، انتقلوا للعيش فى المدارس والمستشفيات متطلعين إلى بعض الأمان ومزيد من الوقت حتى يأتى دورهم فى الاستشهاد، لكن الاحتلال الذى استباح كل الأماكن وكل الأرواح قصف المستشفيات والمدارس وسيارات الإسعاف، فى عشرات المجازر البشعة منذ بدء العدوان على غزة.
ما يقرب من 4 آلاف طفل استشهدوا فى غزة، بحسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية، منهم أكثر من 260 طفل مجهول الهوية، وأكثر من 2500 سيدة، حيث تصل نسبة النساء والأطفال ضحايا القصف الصهيونى إلى 70% من الشهداء، فضلا عن استشهاد 150 من الطواقم الطبية وتدمير 57 سيارة إسعاف، واستهداف 105 مؤسسات صحية وخروج 16 مستشفى من الخدمة، بينما تؤكد المؤشرات وجود ما يقرب من 1000 طفل تحت الأنقاض، وما يقرب من 7 آلاف طفل مصاب، فيما أشار تقرير لمنظمة اليونيسيف إلى أن 420 طفلا فلسطينيا يقتلون أو يصابون يوميا فى قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، ووصف التقرير غزة بأنها أصبحت مقبرة لآلاف الأطفال، فيما بكى أفراد طواقم الإنقاذ الذين لم تعد لديهم أى إمكانيات لانتشال الأحياء من تحت الأنقاض والركام، وهم يؤكدون أنهم يسمعون صرخات أطفال أحياء تحت الركام ينادون «طلعونا من شان الله»، ولا يستطيعون إنقاذهم، فضلا عن المجازر التى ارتكبتها قوات الاحتلال بقصف عدد من المستشفيات، ومنها المستشفى المعمدانى ومستشفى الشفاء ومستشفى القدس وعدد من المدارس التى تأوى آلاف الأسر التى خرجت من منازلها تنشد بعض الأمان، حيث قصف الاحتلال مئات المدارس، وآخرها مجزرة مدرسة الفاخورة، فضلا عن قصف عدد من المساجد والكنائس.
الدرس انتهى لموا الكراريس
لم يعد فى غزة عام دراسى، فالأطفال يتعلمون أشياء أخرى فى هذه الأجواء المأسوية، كبروا أضعاف أعمارهم، أصبح من تبقى منهم على قيد الحياة أب أو أم لأخيه أو أخته الأصغر بعد فقد الأم والأب بل وأحيانا كل الأهل، ترى الطفل المصاب منهم بإصابات بالغة يؤلمه وجع وداع إخوته الشهداء أكثر من آلام جسده الضعيف، تنفطر قلوبهم وهم يقبلون جثث أبائهم وأمهاتهم وإخوتهم، وتعجز قلوبهم وعقولهم عن استيعاب معنى الحياة بعدما فقدوا كل شىء، الكثيرون منهم بترت أطرافهم أو فقدوا أبصارهم أو شوهت نيران الصهاينة أجسادهم، يطاردهم القصف أينما فروا، لا يعرفون النوم الهادئ ينتظرون الموت فى كل لحظة.
تحطمت أكثر من 200 مدرسة، واستشهد أكثر من 2000 طالب، وما يقرب من 150 معلما، لتنطبق على أطفال غزة قصيدة صلاح جاهين التى كتبها بعد المجزرة، والتى ارتكبتها الوحشية الصهيونية فى مدرسة بحر البقر عام 1970، الذى قال فيها: «الدرس انتهى لموا الكراريس بالدم اللى على ورقهم سـال.. فى قصـر الأمم المتــحدة مسـابقة لرسـوم الأطـفال.. إيه رأيك فى البقع الحمـرا.. يا ضمير العالم يا عزيزى دى لطفلة كانت من أشطر تلاميذى.. دمها راسم نـار راسم عار ع الصهيونية والاستعمار.. والدنيا اللى عليهم صابرة وساكتة على فعل الأباليس.. الدرس انتـهى لموا الكراريس».
الأطفال فى غزة لا يحتاجون للكراريس، لأنهم تعلموا أن يكتبوا أسماءهم على أجسادهم ليسهل التعرف عليهم إذا مزق القصف هذه الأجساد الصغيرة، تعلموا أن يكتبوا وصاياهم استعدادا للموت فى أى لحظة تحت سمع وبصر هذا العالم الذى يدعى التحضر، ويزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، بل والحيوان، يثور وينتفض ويعترض حين يذبح المسلمون الأضاحى فى عيد الأضحى، وينددون بوحشية المسيحيين الذين يحتفلون بأعياد الفصح والكريسماس بذبح الطيور والحيوانات، ويرون فى ذلك تعذيبا للحيوانات البريئة، ويدعون للكف عن ذبح الحيوانات، بينما عميت أبصاره عن رؤية دماء وأشلاء أطفال غزة وهم يذبحون على الهواء.
تجاهل العالم المتحضر هذه الأجساد الصغيرة الممزقة، أغمض عينيه حتى لا يرى الناجين منهم وهم يرتعشون من الصدمة، لم يسمع كلماتهم البسيطة البريئة التى تمزق القلوب، والتى أصبحت أيقونات لن ينساها التاريخ تشهد على وحشية هذا العالم وليس إسرائيل فقط، يرتعش أحدهم وهو مصدوم لا يقوى على البكاء بعد أن أيقظه القصف من نومه ليقول فى براءة «كنت نايم »، بينما تصرخ طفلة: هى أمى بعرفها من شعرها، وتبكى صغيرة: وقع علينا الصاروخ وماما ماتت يا عمو، وتسأل طفلة أصابها الهلع بعد إنقاذها من تحت الأنقاض ظنا منه أنها فارقت الحياة، وتسأل المسعف: إحنا رايحين على المقبرة يا عمو، وتبكى أخرى فى براءة: يا عمو أنا زعلانة.. بدى ماما.
استشهد الطفل يوسف، الذى عرف العالم أوصافه من أمه الثكلى وهى تقول: شعره كيرلى وأبيضانى وحلو، بينما أجاب طفل فلسطينى عن سؤال: لما تكبر شو حابب تصير؟ بعبارة تلخص حال الأطفال فى غزة قائلا: إحنا بفلسطين مابنكبرش ممكن يطخونا ممكن نموت فى أى لحظة، فيما ودع طفل جثة شقيقه راجيا من يحمله بأن يعطيه شعرة منه، بينما وقف آخر حاملا جثة شقيقه لينتظر دوره فى التكفين.
«راح أضل عايش؟ ».. عبارة قالها طفل فلسطينى وهو يرتجف ويسأل الطبيب، بينما الدماء تنزف منه بعد إنقاذه من تحت الركام، ارتعش قلب الطفل كمال الذى أصيب إصابات بالغة بعد قصف منزله، واستشهاد شقيقيه وهو يجلس على كرسى متحرك باكيا: كان عايش وكان يزعق عليا، يا كمال يا كمال، وبعدين الحجارة كانت فى فمه، معرفش يزعق عليا، الله يرحمه مع السلامة، بدى بوسه، مع السلامة يا أحمد.
الحياة مع الموت فى انتظار الدور
تحولت حياة أطفال فلسطين إلى جحيم، فحين تعيش مع الموت والدمار والقصف والجثث والدماء والأشلاء، يصبح الحديث عن البيت والألعاب والطعام والشراب والدواء والدراسة رفاهيات، وحين ترى يوميا وفى كل لحظة مشاهد الأباء والأمهات، وهم يودعون أبناءهم أو يحملون بقايا أشلائهم فى أكياس بلاستيكية، يصبح من الطبيعى أن تنتظر دورك وأن تتوقع الاستشهاد فى كل لحظة، يلقن الأطفال المصابون أقرب أحبائهم الشهادة، ويقفون فى طوابير ينتظرون تكفين إخوتهم، يمرون بين جثث أقاربهم ليلقوا عليهم نظرة الوداع بعد أن غادروا هذا العالم الظالم وتركوهم وحدهم ينتظرون الدور، فمن لم يأت دوره عاش ميتا بلا حياة وبلا أهل، يعانى من كابوس لا ينتهى، ووحشية لا تعرف رادعا وإبادة جماعية تطارد كل من بقى على قيد الحياة من الأبرياء، سواء طفلا أو امرأة أو شيخا أو مصابا أو طواقم طبية وإغاثية وصحفية ودعاة وأئمة فى أقذر وأسوأ جرائم إنسانية عرفها التاريخ على مسمع ومرأى من العالم، الذى يدعى الديمقراطية والتحضر بكل منظماته الإنسانية والإغاثية والأممية والحقوقية، التى تجردت من إنسانيتها، وهى ترى شلالات دماء الأبرياء تسفك ليل نهار على أرض غزة، بينما يزداد إصرار أطفالها على تحرير الأرض والتمسك بها، لأنهم يعرفون قيمة الثمن الذى دفعوه فداء لها، وبعد حين يمر كل ذلك، تتمخض المعاناة فتلد نصرا وتحررا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة