مكث إبراهيم باشا، ابن محمد على، فى غرفة صغيرة بقصر النيل بسبب عودة حالة تقيؤ الدم إليه منذ 14 سبتمبر 1848 على أثر مرضه بالسل، وبعد أيام توجه إلى القلعة، وشغل سراى الحرملك حتى وفاته فى 10 نوفمبر، مثل هذا اليوم 1848.
كان «نوبار باشا» مستشار إبراهيم، شاهدا على اللحظات الأخيرة فى حياة سيده، ويصفها فى مذكراته، قائلا: «مكثت بجواره أخدمه كممرض، وحاجب أمين سر وكل شىء، وكان أخى يساعدنى، وسارت الأمور كما كانت فى الأيام العادية، ولكننى كنت ألاحظ قلق كبار الشخصيات وهم يستفسرون عن حقيقة حالة الوالى الصحية»، يكشف: «كانت علامات السرور تبدو عليهم بشكل واضح كلما ذاع خبر عن تردى صحته، لأنه كان مهيبا يخشاه الجميع، وذاعت شهرة قسوته، وشعرنا أنا وأخى بالاشمئزاز لهذا الموقف، والوحيد الذى لم يتركه للحظة هو قبطان بك، مملوكه».
يؤكد «نوبار»: «لم يسمح لأحد بالدخول إليه سوى أخى وبونفور والطبيب الخاص ديامنتى وقبطان بك وأنا، كانت تسبقنا تحذيرات الأغاوات «بِس.. بس» (أى البسبسة) لتهرول النساء الموجودات فى الطرقات إلى مقارهن، كانت شقيقته نازلى هانم، المعروفة بتاريخها الدامى والشهوانى، تجلس دائما إلى جواره على حافة الفراش، بينما إبراهيم كعادته نائم على مرتبة على الأرض، وكنا عند دخولنا تقوم نازلى بالتخفى فى منتهى العناية وراء ستارة سوداء كبيرة يحملها اثنان من الأغاوات لتحول بيننا وبينها، ولكنهم نسوا أن المرايا التى تكسو كل حوائط الحجرة، كانت تعكس صورة وجهها ذى الأنف المحدب الذى يشبه منقار الصقر، وعندما كانت ترغب فى الخروج أثناء وجودنا كنا ننبطح على الأرض، وأعيننا تنظر إليها بينما تمر هى وراء الستارة السوداء التى كان الأغاوات يحملونها مفرودة دائما، يتحركون معها كلما تقدمت خطوة إلى الخارج».
يتذكر «نوبار»: «استمرت سكرات موت إبراهيم ثلاث ساعات، كانت هى الصراع الرهيب بين الحياة والموت، ولم يكن إبراهيم قادرا على أن ينطق كلمة واحدة، أو حتى حرفا، كانت فقط شفتاه تتحركان، وأستطيع القول إننى كنت أفهم ما يريد من حركة شفتيه»، يضيف: «كلفتنى شقيقته نازلى بعد حديث معى من خلال فتحة كالون باب الحريم أن أسأله إذا كان يريد أن يسمح لها بإحضار ابنه مصطفى، رفض فى البداية، ثم فى الساعة الأخيرة من حياته وافق».
يؤكد: «حضر ستة أفراد سكرات موته، أربعة مسيحيين واثنان مسلمين، إلى جانب فراشه كان أخى يقف وإلى جواره بونفور، ثم ابنه مصطفى، ثم قبطان بك عند مؤخرة الفراش، ثم الطبيب، وأخيرا أنا عند حافة الفراش أقوم بين لحظة وأخرى بإسناد رأس المحتضر، تنقل إبراهيم بنظراته ببطء بيننا، وعندما وصل بنظراته إلى ابنه أغمض عينيه وكأن الألم يعتصر قلبه، لأنه سيتركه لمصير مجهول، ثم توقف بنظره لثوان عند قبطان بك، وكانت نظرته الأخيرة لى».
ترك الحاضرون الحجرة للحريم ونازلى شقيقته، وفى الثانية صباحا انطلقت صرخات مدوية، كانت صرخات الحريم اللاتى كن ينتظرن لحظة خلاصه من آلامه»، يضيف: «انتشر الخبر، وكانت المفاجأة أن أحدا لم يحضر من كبار رجال الدولة، صحيح ما الضرورة حتى يزعجوا أنفسهم ويقطعوا نومهم؟ إن من كانوا يرهبونه لم يعد هنا».
يذكر «نوبار»: «فى السابعة صباحا اكتظ الدور المسحور الكبير فى القصر بكثير من الناس، كان كبار الموظفين يجلسون فى حجرتى فى منتهى الهدوء، ينادون على عبيدهم ليجلبوا لهم الغليون، وجاء أشخاص يخبروننا أن النعش عند مدخل القصر، كان هناك زحام رهيب، هرج ومرج صاخب، أناس يهبطون، وغيرهم يصعدون الدرجات فى فوضى تشبه من يصطحب موكب عروس سعيد».
يضيف: «نزل الناس من القلعة كمن يتسابقون للوصول إلى خط النهاية بخطوات سريعة، وعند المنعطف الأول المؤدى لشارع الموسكى، ركب العديد من كبار رجال الدولة خيولهم تاركين الموكب، وتبعهم مساعدوهم، وعند المنعطف الثانى المؤدى إلى مسجد السلطان حسن، انصرف الموظفون، أما من بقى فى الجنازة، ومن وصلوا إلى مدافن الأسرة فكانوا من الفلاحين حاملى النعش على أكتافهم، تتبعهم النادبات ووراءهم عربة بداخلها نساء أسرة الوالى».
يتذكر «نوبار»: «حمل النعش بشكل سريع إلى المدفن»، يعلق:«كان مشهدا قاتما وحزينا تغلفه الوقاحة والانحطاط، لأن هذه كانت نهاية الرجل الذى أضاء اسمه الشرق، وهز عرش السلطان محمود «سلطان الدولة العثمانية»، ولم ينقذه سوى تحالف القوى العظمى الأوروبية، وأوقفته على مشارف القسطنطينية التى كان شعبها المبهور به يدعو له بخالص الأمنيات».
توفى إبراهيم وكان والده محمد على باشا حيا، لكنه مريض، ويؤكد نوبار:«عندما أخبروه بوفاة ابنه، رد: «كنت أعرف، لقد حبسنى، كان قاسيا معى كما كان مع الجميع، عاقبه الله وأماته، لكنى أجد نفسى لكونى أباه من الواجب على أن أترحم عليه وأدعو له الله».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة