وصلت السفينة الروسية «دوبا سارى» إلى الإسكندرية فى 27 يونيو، مثل هذا اليوم، 1965، وعليها ثمانية آلاف و845 طنا من القمح، حسبما تذكر جريدة «الأخبار» يوم 28 يونيو 1965، مضيفة أن «تروباشوف» قبطان السفينة الروسية عقد مؤتمرًا صحفيًا فور وصوله، قال فيه: «إن الباخرة غادرت أستراليا فى أوائل الشهر الماضى، وعليها 8845 طنًا من القمح الأسترالى، ومنذ 4 أيام تلقى إشارة لاسلكية من ميناء أوديسا تطلب فيه تحويل اتجاه السفينة، وتفريغ شحنتها فى ميناء الإسكندرية، وأضاف القبطان أنه سعيد لأنه يشترك فى مساعدة دولة صديقة للاتحاد السوفيتى»، وتذكر الأخبار أن شحنات القمح من الاتحاد السوفيتى تصل تباعا، حيث تصل سفينة وعليها 11 ألفا و650 طنا.
لم يكن وصول هذه الشحنات أمرا عاديا، وإنما جاء فى ظل الصراع بين مصر وأمريكا، حيث أرادت واشنطن استغلال احتياجات مصر من القمح لفرض سياستها عليها، ويكشف الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل القصة فى كتابه «الانفجار»، قائلا إنه مع بدايات صيف 1965، كانت واشنطن تهيئ مسرح العمليات فى الشرق الأوسط لما يمكن تسميته بـ«معركة القمح»، وكانت توريداته لمصر طبقًا للقانون الأمريكى 480 السلاح الذى دخل إلى ساحة الصراع.
كان القانون 480 يعنى «تصريف فوائض الحاصلات الزراعية الأمريكية، وهى حاصلات لم يكن مرغوبا فيها لخطرها على خفض أسعار الحاصلات الزراعية الأمريكية، فطرحت فكرة تحويلها إلى مبيعات ميسرة لبعض الدول التى لا تستطيع زراعتها توفير طعامها مقابل عملات محلية من هذه الدول، يجرى صرفها داخلها على احتياجات الولايات المتحدة من عملات هذه الدول، ثم يخصص الباقى لمشروعات تنمية مشتركة بفوائد بسيطة وعلى أجال طويلة، وكانت مصر من أول سنة 1959 بدأت تستفيد من القانون 480، ويذكر هيكل أن ذلك توافق بالضبط مع الفترة التى تردت فيها العلاقات بين القاهرة وموسكو نتيجة الخلاف مع نظام «عبدالكريم قاسم» فى العراق».
وقعت مصر اتفاقية لتوريد الحاصلات الزراعية مع أمريكا، وأهمها القمح من 1959 حتى ثلاث سنوات، ثم امتدت إلى سنة 1964، ومن 1965 أخذت القضية منحى جديدا، حيث أرادت مصر توقيع اتفاقية جديدة للمدى الطويل، لكن مجلس النواب الأمريكى ناقش قرارًا بوقف كل صفقات القمح لمصر إلا إذا.... «النقط يضعها هيكل»، ويأتى بوثائق مناقشات زعماء الكونجرس مع وزير الخارجية حول ذلك، وتسير فى اتجاه فرض شروط على سياسات مصر الخارجية.
يذكر «هيكل» أن «عبدالناصر» التقى وقتئذ مع مساعد وزير الخارجية الأمريكية «فيليبس تالبوت» وكان فى زيارة للقاهرة، وأحس بعد حديثه الصريح معه، أن موضوع القمح سيكون له دور فى الأيام والأسابيع المقبلة، فراح يفكر فى الطريقة التى تعطيه فسحة من الوقت أوسع.. يضيف «هيكل» أن مصر كانت اشترت صفقات قمح من أستراليا والمكسيك لتعوض ما نقص من المخزون الضرورى، ولكن الأسعار راحت ترتفع بشدة، كما أن المعروض فى الأسواق العالمية راح يقل مع دخول الصين والهند كمشترين، والاتحاد السوفيتى الذى كان يواجه فى عام 1965 عجزًا فى إنتاج الحبوب بلغ 16 مليون طن منها 9 ملايين طن قمح.
يؤكد «هيكل» بعد أيام من لقاء عبدالناصر مع «فيليبس تاليوت»، استقبل «نوفيكوف» وزير الكهرباء السوفيتى الذى كان فى القاهرة ليطلع على سير العمل فى مشروع السد العالى بعد انتهاء تنفيذ مرحلته الأولى، وبعد أن عرض «نوفيكوف» ما لديه، فوجئ بأن عبدالناصر يقول له إن لديه رسالة يريد إيصالها إلى رئيس الوزراء «كوسيجين»، ومؤداها أنه يطلب شراء قمح لإتاحة فرصة وقت لمواجهة الضغط، ثم لفت نظر واشنطن إلى أن مجال الحركة مفتوح، وأضاف عبدالناصر: أننى أعرف مشاكل الزراعة عندكم، وأنكم تستوردون القمح، ولكن ما نريده الآن جزءا بسيطا مما قمتم باستيراده، ولكن بالنسبة لنا كبير فى قيمته نظرًا لعنصر الوقت ولإحباط المناورات.
سافر «نوفيكوف» إلى موسكو، ويذكر «هيكل» أنه فى 18 يونيو 1965 اتصل السفير السوفيتى فى القاهرة برئاسة الجمهورية طالبًا موعدًا عاجلًا، وقائلًا إن لديه رسالة مهمة من «كوسيجين» يريد إبلاغها إلى الرئيس بأن المكتب السياسى قرر الاستجابة لطلب جمال عبدالناصر، وأن إعلانا بهذا الشأن سيصدر من موسكو خلال ثمانى وأربعين ساعة، وصدر الإعلان، وجرى إخراجه بطريقة مثيرة، حيث أعلن الاتحاد السوفيتى أن الأوامر صدرت إلى عدد من البواخر التى كانت فى البحر الأبيض متوجهة إلى ميناء «أوديسا» حاملة شحنات القمح بتغيير خط سيرها، والتوجه إلى الإسكندرية وتفريغ حمولتها هناك.
يؤكد هيكل: «شاءت الأقدار أن يجى يوم هذا الإعلان، السفير الأمريكى «لوشيوس باتل» لإبلاغ مصر بأنه سوف يكون على اتصال بوزارة الاقتصاد لتوقيع اتفاق تنفيذى لاستئناف شحن القمح الأمريكى لمصر».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة