"كان فى الخامسة عشر حينما شاهدها لأول مرة فى حفل، وكانت تصغره بسنة واحدة، وكان عشقا من النظرة الأولى" هذا الوصف لم يكن عن طالبين فى المرحلة الثانوية أحبا بعضهما من النظرة الأولى، لكنه عن حاكم عظيم، أحب من النظرة الأولى، فجعل حبيبته تعيش كأعظم الملكات، وبعد موتها خلدها كأعظم السيدات، هو الحاكم الهندى شاه جيهان، وزوجته الأميرة ممتاز محل.
ممتاز محل، الفتاة التى خطفت قلب ووجدان شاه جيهان منذ الصغر، هى فى الأصل بنت أحد عائلات الفارسیة عاصف خان من أعيان القرن الحادى عشر الهجرى، تزوجها السلطان شاه جيهان فى عهد أبيه نور جيهان وهى بنت عشرين سنة، أنجبت أربعة بنين وثلاثة بنات، ويقال أنها كانت نادرة الحسن والجمال.
بعد خطبة دامت خمس سنوات تزوج العاشقان عام 1612، وعلى العكس من معظم قصص الحب فإن غرام الأمير الشاب بحبيبته لم يفتر بعد الزواج، بل زاد تأججا وتوهجا، خصوصا بعد أن اكتشف دماثة خلقها ورجاحة عقلها، حيث كانت لا تتدخل فى شؤون الدولة ولا تشترك فى المكائد والدسائس كما تفعل معظم نساء البلاط. ولشدة تعلق الأمير بزوجته كان يصحبها معه أينما حل وارتحل، حتى فى أسفاره وحروبه، فلا عجب بعد ذلك أنه أنجب منها أربعة عشر طفلا .
وفى عام 1628 اعتلى الأمير خرم عرش الامبراطورية بعد وفاة والده، وأصبح يعرف باسم السلطان شاه جيهان، أى ملك العالم. وقد ترافقت سنوات حكمه الأولى ببعض القلاقل والثورات وشهدت تمرد بعض الولاة.
السلطان توجه بنفسه عام 1631 لإخضاع والى إحدى المقاطعات الأفغانية المتمردة، وكالعادة اصطحب معه زوجته الحبيبة، لكن يبدو أن الرحلة الطويلة والشاقة أرهقت ممتاز محل التى كانت حاملا آنذاك فتعسرت ولادتها وشارفت على الموت، فهرع اليها السلطان وجلس عند رأسها يذرف الدموع، ويقال بأن ممتاز محل نظرت اليه قبيل موتها وطلبت منه أمرين، الأول أن لا يتزوج بعدها أبدا لئلا ينجب أولادا آخرين ينازعون أبناءها، والثانى أن يشيد لها ضريحا فريدا من نوعه ليخلد ذكراها الى الأبد. وقد وافق السلطان على الطلبين، وبقى مرابطا عند رأسها على أمل أن تستعيد عافيتها لكنها ما لبثت أن لفظت أنفاسها وانتقلت الى بارئها، ويقال بأن السلطان اعتكف بعد موتها لسنة كاملة، وحين خرج الى الناس مرة أخرى كان شعره قد ابيضّ بالكامل وتقوّس ظهره.
شاه جيهان كان أول ما فكر به عندما رحلت حبيبته وزوجته، هو بناء صرح يليق بحبه لها فكان ذلك تاج محل، وقد تم جلب المعماريين والحرفيين الى أكرا من بغداد ومن القصور العثمانية فى تركيا وقدم مصممو الحدائق من كشمير والخطاطون من شيراز والحجارون والنحاتون وحرفيو الجص ومصممو القباب والبناؤون من بخارى والقسطنطينية وسمرقند، بُنى تاج محل من الرخام الأبيض النقى (marble) الذى تم استخراجه من محجر جبل «ماكراتا» والذى يبعد 563 كلم (فى اقليم راجستان)، تم استحضار الحجر الرملى الأحمر من دلهى كما أحضرت الحجارة الكريمة بالقوافل من كل أنحاء الأرض: اليشب من البنجاب والعقيق الأحمر من بغداد والفيروز من التيبت والملكيت واليشم والكريستال من تركستان وغيرها من اللؤلؤ والماس والزمرد والصفير… أكثر من أربعين نوعا من الأحجار الكريمة.
وقد كان بناء هذه التحفة المعمارية مشروطا بتنفيذ أربعة طلبات طلبتها ممتاز من زوجها قبل موتها، وتعكس جميعها مدى الحب وعمق الشعور التى كانت تكنه له.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة