1
وقفنا جميعا لاستقبال أديب نوبل الأستاذ نجيب محفوظ، وكان الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي أول المهللين فرحا بدخول "الأستاذ" القاعة في مركب "فرح بوت " بالعجوزة التي تشهد جلسته الأسبوعية كل يوم ثلاثاء مع مجموعة من مريديه، أبرزهم، الأبنودي، الكاتب الروائي جمال الغيطاني، الكاتب يوسف القعيد، الإعلامية فريدة الشوباشي وزوجها علي الشوباشي، والروائي نعيم صبري، الدكتور هشام السلاموني، وآخرين.
كنا في شهر نوفمبر 1999، وكان من حظي الطيب حضور هذه الجلسة للمرة الأولي في شهر يونيو 1999، والتي شهدت لقاء نادرا ووحيدا جمع بين نجيب محفوظ والدكتور خالد جمال عبد الناصر، وحدثت باقتراح مني إلي جمال الغيطاني، بعد حوار أجريته مع الدكتور خالد نشرته جريدة البيان الإماراتية علي ثلاث حلقات، وجاء الحوار علي أثر الضجة الكبيرة التي حدثت نتيجة هجوم "محفوظ" علي "عبد الناصر" في المذكرات التي حررها الكاتب والناقد رجاء النقاش، وقال خالد في الحوار:"حين يكتب نجيب محفوظ فى الأدب، له كل التعظيم، أما حين يتحدث فى السياسة بالشكل الذى تحدث به فى مذكراته، نقول له نحن نختلف معك يا أستاذ نجيب، وأنا كابن لجمال عبد الناصر أقول له إن كل ما قلته فى حق الوالد أنا أغفره لك، وأعتقد أن الكل تعامل معه على هذا النحو".
وأضاف خالد: «نجيب محفوظ أديب كبير ورثت أنا وإخوتى حب أدبه من الوالد الذى كان يحب قراءته كثيرا، بالإضافة إلى مشاهدة الأفلام السينمائية لرواياته، ولن أتحدث عن تدخله المباشر فى بعض الأحيان لصالح هذه الأعمال الروائية أو السينمائية لأن آخرين تحدثوا فيها".
كان "الغيطاني" يكتب مقالا أسبوعيا لجريدة البيان، ومن خلال موقعي كنائب لمدير مكتبها في القاهرة الأستاذ الكبير نقيب الصحفيين الأسبق جلال عارف، كنت استقبل المقال منه، ونتحدث تليفونيا بين الحين والآخر، غير أنه وبعد نشر حواري مع خالد طلبني، وقال لي أن الأستاذ نجيب قرأنا له كلام الدكتور خالد عنه في حوارك.
نقلت هذا الكلام إلي خالد فسر به، ومع تواصل الجدل لأسابيع أخري حول نفس القضية ،اقترحت علي خالد فكرة لقائه بمحفوظ، فرحب ثم نقلت هذا الاقتراح إلي الغيطاني، فرحب بشدة، وقال لي أنه وبمشاركة يوسف القعيد سينقلها إلي الأستاذ نجيب وهو متأكد أنه سيرحب ، ، ودارت العجلة وتم اللقاء في مركب "فرح بوت" ونشرت وقائعه كاملا علي صفحات جريدة البيان، وأحدث صدي طيبا.
2
بعد خمسة شهور من هذا اللقاء اختمرت في ذهني فكرة حوارا شاملا مع الأستاذ نجيب، ونقلت هذه الرغبة إلي الغيطاني، فطلب مني مهلة للرد، وبعد أيام أبلغني بموافقة الأستاذ وأن أحضر إلي مركب "فرح بوت" الذي، لكنه طلب مني أن أراعي ظروفه الصحية، ولا أرهقه بكثرة الأسئلة، وسألني إذا كان كتابه "نجيب محفوظ يتذكر" موجودا عندي أم لا؟.. فأكدت له أنه عندي، فقال :"يمكنك الاستعانة به في إجابات الأستاذ، وأنا أخبرته بذلك ووافق".
جهزت أسئلتي، وأصطحبت صديقي الكاتب الصحفي محمد سليمان فايد ليقوم بمهمة التصوير بالكاميرا الخاصة به وانتظرت مع الحاضرين من "شلة الثلاثاء"، وفي الساعة السادسة والنصف دخل الأستاذ نجيب يصطحبه الأديب والكاتب زكي سالم، فاندفعنا جميعا إليه للسلام عليه..قام الأبنودي بتقبيل رأسه ولما مددت يدي لمصافحته قال له الأبنودي :"ده يا أستاذنا الواد سعيد الشحات، الصحفي اللي شبكك مع خالد جمال عبد الناصر" فرد بسرعة بديهة :"آه..اللي شبكنا وخلصنا" فضحكنا، ثم أخذ الأستاذ مكانه في الجلسة.
كانت باحثة فرنسية ضمن الحاضرين تقوم بإعداد دراسة حول الأدب الشعبي في مصر، وحضرت وفقا لموعد أعطاه لها "الأبنودي"، كانت الجلسة دائرية، والأستاذ نجيب يجلس علي كنبة، وعلي يمنيه زكي سالم.. بعد دقائق أحضر الجرسون فنجان القهوة له، وأخرج من جيبه علبة سجاير نوع "كنت"، وأشعل له زكي سالم السيجارة.
3
بدأ الأستاذ الجلسة بسؤال الأبنودي عن صحته، فأخبره أنه أفضل، ومنتظم في رياضة المشي طبقا لأوامر الطبيب، وأنه كان في مشوار إلي العتبة وحضر من هناك إلي هنا سيرا، رد الأستاذ:" ماشاء الله، كويس ياعبد الرحمن" ثم سأل :"الصندوق الأسود أخباره إيه ؟..فأجابه الغيطاني:"لسه بيفحصوه"..كان الحديث يدور حول الطائرة التابعة لشركة مصر للطيران التي سقطت في مياه الأطلنطي يوم 31 أكتوبر 1999، وكانت قادمة من نيويورك إلي القاهرة، وتم إسقاطها بصواريخ أمريكية وقتل 289 مصريا كانوا علي متنها.
توزع الكلام بين الحاضرين حول رد فعل الحكومة المصرية، وهل هذا العمل مقصودا أم لا؟.. وكان زكي سالم قريبا من أذن الأستاذ نجيب ينقل له، وعلق الأستاذ قائلا :"نحن في عصر المعلومات ولاينفع إخفاء أي شيء".
نقل "الأستاذ" الكلام إلي قضية أخري متسائلا:"إيه موضوع أحداث الكويت؟".. كان السؤال حول مظاهرات غاضبة للمصريين في الكويت، وانفجرت بسبب مشادة بسيطة نشبت بين مصر وعامل بنجالي، وأدت إلي وقوع أحداث شغب واسعة النطاق في صفوف الجالية المصرية، واشتباكات مع قوات الأمن الكويتية، وأصيب ما يقرب من 100 شخص واعتقال ألف في منطقة خيطان.
4
بعد انتهاء "الأستاذ" من قهوته وسيجارته وسماعه إلي آخر أخبار "الصندوق الأسود" و" أحداث الكويت"، قال له الغيطاني:"الأخ سعيد الشحات يا أستاذنا جاهز بأسئلته زي ما أبلغتك وهو حيقوم يقعد جنبك".. رد الأستاذ:" أهلا، أهلا، بس مش كتير".. كنت بجوار الأبنودي فأشار إليِ بالإسراع: "قوم إلحق، بس خليك طيب مع الأستاذ".
انتقلت إلي جوار الأستاذ، وطرحت عليه أسئلتي وكان أولها: "في روايتك "الباقي من الزمن ساعة" عام 1982، نغمة تساؤلات حول، أنه لا أحد يعرف ما الذي يأتي به المستقبل، فهل كانت للحيرة التي تعيشها مصر وقتئذ بعد اغتيال السادات دور في ذلك؟..وأنت يا أستاذ عاصرت أحداث كثيرة، فهل هناك حدث معين تعتز بأنك تنبأت به؟.
صمت نجيب محفوظ للحظات ثم تحدث ولم تكن إجابته طويلة، وطرحت سؤالي الثاني:"دائما يا أستاذ تقول أن الإنسان حيوان سياسي، فماذا تقصد بذلك ؟..والثالث: متي دخلت السياسة عالم نجيب محفوظ؟ ..ضحك قائلا :"من البداية" ثم أكمل كلامه، والرابع :"بمناسبة حبك للوفد.. هل شاهدت سعد زغلول ؟.. والخامس: بصراحة هل توقعت رد الفعل الغاضب من هجومك ضد جمال عبد الناصر في مذكراتك الأخيرة مع الأستاذ رجاء النقاش".. ضحك قائلا :"هو خالد ابنه قال خلاص مسامحك، وهو زعيم وكلامي مش كل الناس توافق عليه....."..وسادس :"كنت من عشاق منيرة المهدية ثم أصبحت من عشاق أم كلثوم، فهل حدث ذلك نتيجة تذوق خاص منك للغناء، أم أنه كان تعبيرا عن الانتقال من عصر إلي عصر؟.. وسابع :"احتفظت بالثلاثية ثلاث سنوات في أدراجك قبل نشرها، فهل كان السبب سياسي؟".
كان هناك سؤالين آخرين، غير أن إجابات الأستاذ لم تكن مستفيضة، فانعدمت فرصة ولادة أسئلة جديدة من إجاباته كما يحدث عادة في الحوارات، وبعد حوالي 25 دقيقة فقط انتهت أسئلتي وانتهت إجاباته، فشكرته، وقبلت رأسه وقمت إلي مكاني، وجمال الغيطاني يشير إليِ قائلا :"زي ما اتفقنا".. كان يقصد أن استكمل ما أحتاج إليه من كتابه.
ومضت الأيام وأنا غير متحمس لاقتراح الغيطاني وعلي أمل أن تتكرر فرصة لقاء الأستاذ مرة ثانية، لكن مشاغل أخري حلت، وبقي شريط التسجيل عندي دون تفريغ حتي الآن، لأن جهاز الكاسيت والشرائط من نوعية قديمة تجاوزتهما الأيام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة