- رسالة تكشف غليان الرئيس الراحل من أحداث فبراير 1942
- شهادة للكلية الحربية تطلب من ولى الأمر حينها ترقيته لملازم ثانٍ بعد عام من الالتحاق بها لجهوده وإخلاصه فى العمل
- هواية القراءة تواصل سيطرتها على الزعيم الراحل ويجد ضالته فى مكتبة الكلية ونابليون والإسكندر الأكبر وتشرشل وفوش
مثلما كانت حياة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى مرحلة الطفولة والدراسة حافلة بالنشاط الثورى، كانت كذلك بعد قراره بالانضمام إلى الكلية الحربية، وكان قرار الانضمام للكلية نابعا من إيمانه بضرورة تحرير مصر من الاحتلال الإنجليزى، وأن تحرر مصر لن يأتى من خلال المظاهرات فقط، إلا أنه واجه صعوبات كبيرة فى الانضمام للكلية الحربية، وأحد أبرز أسباب تلك الصعوبات هو نشاطه الثورى وقيادته للمظاهرات الطلابية ضد الإنجليز.
دعم عبدالناصر للقضية الفلسطينية
قبل شهور من انضمامه إلى الكلية الحربية، وخلال نهاية المرحلة الثانوية، ظهرت مواقف الزعيم الراحل فى دعمه للقضية الفلسطينية ورفضه لوعد بلفور، فعندما كان فى نهاية المرحلة الثانوية فى مدرسة النهضة، كان يقود المظاهرات الطلابية فى شهر نوفمبر من كل عام ضد وعد بلفور الذى كان يستهدف إقامة دولة لليهود فى فلسطين، وكان دائما يطالب الرئيس الراحل برفض وعد بلفور البريطانى.
لعل هذا ما يفسر مشاركة الرئيس الراحل فى حرب فلسطين 48 والدور البطولى الذى لعبه خلال تلك الحرب، كما أنه بعد 30 عاما وبالتحديد فى ستينيات القرن الماضى، فى إحدى حواراته مع الإعلام الأجنبى تحدث الرئيس الراحل عن القضية الفلسطينية، باللغة الإنجليزية قال فيها: ماذا عن حقوق عرب فلسطين الذين طردوا من بلادهم، فهناك مليون ونصف المليون لاجئ تقريبا هجروا كليا، والإسرائيليون يتكلمون عن معاملة النازيين السيئة لهم فى ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، لقد عاملوا العرب بنفس الطريقة طردوهم وقتلوهم وقتلوا أولادهم ودمروا قراهم، فكان النزوح من فلسطين إلى الدول العربية.. أنا كنت هناك عام 1948، وانتظروا قرارات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن ولم ينفذ شيئا، ثم استولت إسرائيل على كل شىء، أخذت أملاك هؤلاء الناس وأراضيهم وكل شىء فماذا عن حقوقهم!
إيمان الرئيس الراحل بالقضية الفلسطينية ورفضه منذ بداية مشروع توطين اليهود فى الأراضى الفلسطينية، جعل الفلسطينيين أنفسهم لا ينسون دور جمال عبدالناصر فى دعم قضيتهم، حيث تحدث الدكتور زاهر محمد الجوهر، أستاذ مساعد فى الأدب الفلسطينى الحديث بجامعة القدس المفتوحة، عن عبد الناصر قائلا فى دراسة له: إن جمال عبدالناصر واحد من القادة العرب الذين حاولوا النهوض بالحالة العربية من العجز والهوان إلى مصاف الأمم المتحررة، فوقفت كل قوى الشر أمام تطلعاته التى ظل يرنو لتحقيقها حتى وفاته، واختلفت الآراء حول مدى صدقه فى ما كان يقوله ويفعله من أجل الأمة وتحررها وفلسطين وأهلها، فذهب بعضهم إلى أنه كان دكتاتوريا ظالما لم يعمل إلا من أجل تحقيق مصالح شخصية وتطلعات فردية وآمال العظمة الذاتية، وذهب آخرون إلى أنه كان صادقا فى كل ما يقوله ويفعله من أجل الأمة وقضاياها المصيرية.
وفى حواره مع الصحفى الإنجليزى ديفيد مورجان بصحيفة «صنداى تايمز» البريطانية، فى 18 يونيو 1962، قال له الصحفى الإنجليزى: لقد ذكر عدد كبير من الذين تعرضوا لكتابة قصة حياتكم أن مشاعركم الأولى المعادية لليهود تكونت خلال فترة الثانوية، فلقد كانت فى نفس البيت الذى يسكنه عمكم بعض الأسر اليهودية؟، ليرد الرئيس الراحل قائلا: هذا رأى أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فأنا لم أكن فى أى يوم من الأيام معادياً للسامية على المستوى الشخصى، ومن العسير على أى مصرى متعلم أن يكون كذلك، لقد كانت بيننا وبين اليهود «كشعب» روابط عديدة؛ فموسى نفسه كان مصرياً، وشعورى المعادى لإسرائيل وأعمالى الموجهة ضدها؛ إنما تولدت فيما بعد من شىء واحد لا سواه؛ وهو الحركة الصهيونية التى اغتصبت جزءاً من الأرض العربية».
ويضيف أستاذ مساعد فى الأدب الفلسطينى الحديث بجامعة القدس المفتوحة، أن جمال عبدالناصر حلق فى ضمائر الشعراء الفلسطينيين إلى مكانة غير مسبوقة فى عصرنا هذا، قائدا فوق الشعر كله، يتواصل الشعراء معه على الرغم من انتقاله من عالمنا إلى عالم آخر، فارس الأمل شهريار الباحث عن شهر زاد الوطن والأمة الذى قضى عليه الموت، وهو حق على كل البشر، وترك لنا عملا كثيرا علينا أن ننجزه، وهو شهيد الفداء، الذى لم يحتمل الناس ومنهم الشعراء فراقه، لأنه الرجل المضحى الذى توقف لون تضحياته بقضائه، ففى حضرته وغيابه صلاة أخرى من نوع آخر، وفى موته غياب أخير عن هموم هذا العالم؛ عالم الحياة الدنيا.
الكلية الحربية ترفض التحاقه بها
بعد أن انتهى جمال عبدالناصر من المرحلة الثانوية وحصل على شهادة البكالوريا فى القسم الأدبى، فضل الرئيس الراحل أن يعتزل السياسية قليلا ويتجه إلى العمل العسكرى، ولكن ظل محتفظا بإيمانه بضرورة أن تتحرر مصر من الاحتلال الإنجليزى، وأنهى عبدالناصر مشوار عمله السياسى وانضمامه لعدد من الأحزاب التى وجد فيها أنها غير قادرة على تحقيق طموحه الذى يسعى إليه، وهو تحرير مصر من الإنجليز، لذلك قرر أن ينضم للكلية الحربية إلا أنه فى البداية تم رفضه فى اختبارات الكلية بسبب نشاطه السابق فى المظاهرات، رغم نجاحه فى الكشف الطبى بالكلية، إلا أن نشاطه السياسى السابق واشتراكه فى المظاهرات الطلابية وقف عائقا فى البداية أمام التحاقه بالحربية.
رغم ضياع حلم الانضمام للكلية الحربية فى البداية لم ييأس جمال عبدالناصر، واختار مجالا آخر فى الدراسة، وهو دراسة الحقوق لينضم إلى كلية الحقوق فى عام 1936 ولكن لم يستمر سوى 6 أشهر، ليستغل المعاهدة البريطانية المصرية 1936 التى كانت من بين بنودها انتقال القوات العسكرية من المدن المصرية إلى منطقة قناة السويس وبقاء الجنود البريطانيين فى السودان بلا قيد أو شرط، وأنه بعد مرور 20 عاما من التنفيذ للمعاهدة يبحث الطرفان فيما إذا كان وجود القوات البريطانية ضروريا، لأن الجيش المصرى أصبح قادرا على حرية الملاحة فى قناة السويس وسلامتها فإذا قام خلاف بينهما فيجوز عرضه على عصبة الأمم، وبعد المعاهدة تمت زيادة عدد أفراد الجيش المصرى، ليستغل جمال عبدالناصر هذه المعاهدة، ويقرر التقديم مرة أخرى فى الكلية الحربية، خاصة بعد أن وزارة الحربية المصرية حينها عن احتياجها لدفعات جديدة ليتقدم حينها جمال عبد الناصر ويلتقى وكيل وزارة الحربية اللواء إبراهيم خيرى الذى أعجب بصراحته ووطنيته وإصراره على أن يصبح ضابطاً؛ فوافق على دخوله فى تلك الدفعة، وكان عمره حينها 19 عاما.
إنجازات عبدالناصر فى الجيش
بعد شهور معدودة من التحاق جمال عبدالناصر أثبت تميزه فى الكلية بمجرد التحاقه بها، ففى شهادة نادرة للكلية الحربية خلال ترقيته لرتبة ملازم ثانٍ، الذى قالت فيه، إنه نظرا لما أبداه التلميذ جمال عبد الناصر حسين المترقى فى الكلية الحربية الملكية من الغيرة والشهامة فى القيام بواجباته، وما اتصف به من الأخلاق المرضية تجاسرنا بتقديم هذا الرجاء للسدة العملية الملكية، ملتمسين منح هذا التلميذ ربتة الملازم الثانى جاء حسنة لإخلاصه فى العمل وتشجيعا لأقرانه فى ساحته والأمر لولى الأمر.
كانت هذه الشهادة فى عام 1938، كما هو واضح فى شهادة الكلية الحربية التى حصلت عليها «اليوم السابع»، أى بعد عام واحد فقط من التحاقه فى الكلية الحربية، كما أنه من بين إنجازاته كما كشفتها نجلته الدكتورة هدى جمال عبد الناصر خلال حديثها عن حياة والدها فى كتاب «أوراق خاصة»، أنه أصبح رئيس فريق، كما أسندت إليه منذ أوائل 1938 مهمة تأهيل الطلبة المستجدين، وطوال فترة الكلية لم يوقع على جمال أى جزاء، كما تم ترقيته رتبة أومباشى طالب، وتمكن من التخرج من الكلية الحربية بعد مرور 17 شهراً، أى فى يوليو 1938 ، فقد جرى استعجال تخريج دفعات الضباط فى ذلك الوقت، لتوفير عدد كافٍ من الضباط المصريين؛ لسد الفراغ الذى تركه انتقال القوات البريطانية إلى منطقة قناة السويس.
هواية القراءة داخل الكلية الحربية
لم ينسَ الرئيس الراحل هوايته فى قراءة الكتب حتى عندما التحق بالكلية الحربية، ليجد من مكتبة الكلية مكانا لإشباع هوايته ورغباته فى قراءة الكتب، وركز عبدالناصر فى قراءة الكتب على التاريخ العسكرى لمصر، وقضايا الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الشخصيات التاريخية، مثل قائد الثورة الفرنسية نابليون بونابرت والإسكندر وبسمارك ومصطفى كمال أتاتورك وهندنبرج وتشرشل وفوش.
جمال عبد الناصر فى الحربية
انتقال جمال عبدالناصر للسودان
فى حوار نادر له مع الصحفى الإنجليزى ديفيد مورجان أيضا يتحدث الرئيس الراحل عن هذه المرحلة، ليقول: تخرجت بعد سنتين فى ١٩٣٨ من الكلية الحربية بالعباسية برتبة ملازم ثانٍ، وفى نفس السنة تخرج اثنان من الضباط هما: زكريا محيى الدين، ومحمد أنور السادات اللذان اقترن اسماهما فيما بعد اقتراناً وثيقاً بقصة الثورة، وكان الجيش المصرى، حتى ذلك الوقت، جيشاً غير مقاتل، وكان من مصلحة البريطانيين أن يبقوه على حاله، أما بعد ذلك فقد بدأت تدخل طبقة جديدة من الضباط الذين كانوا ينظرون إلى مستقبلهم فى الجيش بوصفه مجرد جزء من جهاد أكبر لتحرير شعبهم، وعُينا ثلاثتنا فى حامية منقباد، وهى حامية بعيدة بالقرب من أسيوط فى الصعيد.
وذهبنا إلى منقباد تملؤنا المثل العليا، ولكن سرعان ما أصبنا بخيبة الأمل، فقد كان أكثر الضباط عديمى الكفاءة وفاسدين، وقد دفعت الصدمة بعض زملائى من الضباط إلى حد الاستقالة، أما أنا فلم أرَ جدوى من الاستقالة؛ رغم أن سخطى كان لا يقل عن سخط الآخرين، واتجه تفكيرى بدلاً من ذلك إلى إصلاح الجيش وتطهيره من الفساد.
ويضيف الرئيس الراحل فى الحوار: فى عام 1939 نقلت إلى الإسكندرية، وهناك التقيت بعبدالحكيم عامر، وكان يشاركنى ذلك الاعتقاد الراسخ فى الأعماق بضرورة الثورة والتغيير، وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية بزمن وجيز نقلت إلى كتيبة بريطانية تعسكر خلف خطوط القتال بالقرب من العلمين، وكان ذلك بقصد التدريب لمدة شهر، وكانت هذه أول مرة أحتك فيها احتكاكاً حقيقياً بالبريطانيين كجنود وكأشخاص، فتركوا فى نفسى أثراً طيباً، ولم يكن هناك أى تعارض بين استطاعتى أن أشعر بشعور ودى نحو عدد منهم على المستوى الشخصى، وأن أحترمهم أيضاً كجنود، وبين شعورى العميق بضرورة التخلص من السيطرة البريطانية، ومن النفوذ البريطانى بأى ثمن، فالأول كان شعوراً شخصياً، والآخر كان مسألة مبدأ، وليست هناك علاقة بين الشعوريين.
ويستطرد الرئيس الراحل متحدثا عن شعوره فى هذه المرحلة: فى هذه المرحلة رسخت فكرة الثورة فى ذهنى رسوخاً تاماً، أما السبيل إلى تحقيقها فكانت لا تزال بحاجة إلى دراسة، وكنت يومئذ ما أزال أتحسس طريقى إلى ذلك، وكان معظم جهدى «فى ذلك الوقت» يتجه إلى تجميع عدد كبير من الضباط الشبان الذين أشعر أنهم يؤمنون فى قراراتهم بصالح الوطن؛ فبهذا وحده كنا نستطيع أن نتحرك حول محور واحد؛ هو خدمة هذه القضية المشتركة.
بعد تخرجه من الكلية الحربية كان انتقال الرئيس الراحل إلى السودان بطلب شخصى منه، وتم تلبية طلبه فى نهايات عام 1939، وظل حتى تم ترقيته لملازم أول، وظل حتى نشوب الحربى العالمية الثانية التى كانت بريطانيا التى تتواجد قواتها فى مصر جزءا من تلك الحرب.
وفى خطاب من جمال عبدالناصر لأحد أصدقائه «على» بخط يده، حمل فى نهاية الخطاب اسم «ناصر»، وهو ما يؤكد أن الرئيس الراحل كان يتم مناداته من قبل أصدقائه بمسمى «ناصر»، ويؤكد اعتزازه بوالده لدرجة أنه يطلب على نفسه فى الخطابات مع أصدقائه «ناصر» وليس جمال، الخطاب تضمن كيف وقع الجيش المصرى أصبح يحمى قوات الإنجليز، ويؤكد فيه ضرورة مواجهة هذا الأمر، وإعادة الجيش لحماية البلاد، وليس التعاون مع الإنجليز.
خطاب عبدالناصر لحسن النشار يبرز فيه موقفه من أحداث 4 فبراير 1942، وذلك بخط يده، يوضح فيه حجم الجرح الكبير الذى تسببت فيه تلك الأحداث على قلبه، ويؤكد هذا الخطاب مدى وطنية الرئيس الراحل وخوفه على بلاده، ورفضه لسياسات الإنجليز وإجبارهم لملك مصر حينها على تعديل قراره، حيث يقول لصديقه نصا: «وصلنى جوابك، والحقيقة أن ما به جعلنى أغلى غلياناً مراً، وكنت على وشك الانفجار من الغيظ، ولكن ما العمل بعد أن وقعت الواقعة وقبلناها مستسلمين خاضعين خائفين، والحقيقة أننى أعتقد أن الإنجليز كانوا يلعبون بورقة واحدة فى يدهم بغرض التهديد فقط، ولكن لو كانوا أحسوا أن بعض المصريين ينوون التضحية بدمائهم ويقابلوا القوة بالقوة لانسحبوا كأى امرأة من العاهرات، أما نحن، أما الجيش فقد كان لهذا الحادث تأثير جديد على الوضع والإحساس فيه، فبعد أن كنت ترى الضباط لا يتكلمون إلا عن النساء واللهو، أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس فى سبيل الكرامة، وأصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا، مع ضعفهم الظاهر، ويردوا للبلاد كرامتها ويغسلوها بالدماء، ولكن إن غداً لقريب، حاول البعض بعد الحادث أن يعملوا شيئا بغرض الانتقام، لكن كان الوقت قد فات أما القلوب فكلها نار وأسى. عموماً فإن هذه الحركة أو هذه الطعنة ردت الروح إلى بعض الأجساد وعرفتهم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها، وكان هذا درساً ولكنه كان درساً قاسياً».
بداية فكرة تشكيل الضباط الأحرار
كانت بداية الأربعينيات هى تصاعد فكرة تشكيل مجموعة من الضباط الأحرار فى ذهن الرئيس الراحل، خاصة ما شهده من أحداث داخل الجيش خلال تلك الفترة، خاصة بعد انتقاله للخدمة إلى منطقة العلمين، كانت هذه الفترة تشهد حربا ضروس بين بريطانيا وألمانيا، فى تلك المنطقة فى إطار الحرب العالمية الثانية والتى اندلعت منذ عام 1939 وانتهت عام 1945، حيث حدثت عدة وقائع من جانب قوات الإنجليز دفعت جمال عبدالناصر إلى ضرورة تشكيل مجموعة من الضباط الذين يحررون مصر من هذا الاحتلال الإنجليزى.
وفى حواره لإحدى الصحف الأجنبية يتحدث جمال عبدالناصر بالتفصيل على تلك الفترة ليقول: «فى نهاية عام 1941 بينما كان «روميل» يتقدم نحو الحدود المصرية الغربية، عاد جمال عبدالناصر الى مصر، ونقل الى كتيبة بريطانية تعسكر خلف خطوط القتال بالقرب من العلمين، وكنا بحاجة إلى شىء يجعلنا جميعاً ندرك الضرورة الملحة والحتمية فى حركتنا الثورية، فأعطانا الإنجليز ما نحتاج إليه، ففى 1942 كانت بريطانيا تقاتل وظهرها للحائط، وكانت فى الصحراء الغربية الحرب تمر فى مرحلة حيوية، وكان البريطانيون مصممين على أن تقوم فى مصر حكومة تؤازرهم مؤازرة إيجابية وذهب السفير البريطانى «السير مايلز لامبسون»، ليقابل الملك فاروق بسراى عابدين فى القاهرة؛ بعد أن حاصر القصر بالدبابات البريطانية، وسلم الملك إنذاراً يخيره بين إسناد رئاسة الوزراء إلى مصطفى النحاس، مع إعطائه الحق فى تشكيل مجلس وزراء متعاون مع بريطانيا، وبين الخلع، وقد سلم الملك بلا قيد ولا شرط».
ويتحدث جمال عبدالناصر عن شعوره بعد تلك الواقعة ليقول: «كان ذلك فى 4 فبراير سنة 1942، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد شىء كما كان أبداً، وكنت يومئذ فى العلمين حين جاءنى هذا النبأ، وما زلت أذكر انفعالى الشديد؛ وقد كتبت فى تلك الليلة إلى صديق أقول: ترى ماذا نحن فاعلون بعد هذا الحادث التعيس الذى تقبلناه بتسليم قوامه الخنوع والمهانة، فالحقيقة هى أن الاستعمار ليس لديه إلا وسيلة واحدة يرهبنا بها، لكن يوم يدرك الاستعمار أن المصريين مستعدون للتضحية بأنفسهم، فإنه سيتراجع كالجعجاع الجبان، فحوادث ٤ فبراير قد ألحقت العار بمصر، لكنها رغم ذلك ألهمتنا بروح جديدة؛ فقد أيقظت هذه الحوادث أناساً كثيرين من سلبيتهم، وعلمتهم أن هناك كرامة تستحق أن يدافع عنها الإنسان بأى ثمن».
ويواصل الرئيس جمال عبدالناصر الحديث عن بداية ظهور فكرة الضباط الأحرار فى حديثه للصحيفة الأجنبية ليقول: «بالنسبة لى كان عام ١٩٤٥ أكثر من مجرد عام انتهاء الحرب؛ فقد شهد العام بداية حركة الضباط الأحرار؛ تلك الحركة التى أشعلت فيما بعد شعلة الحرية فى مصر، ومع ذلك فقد كان ينتظرنا حادث آخر؛ ليتحول استياؤنا وسخطنا المتزايد إلى خطة ملموسة للثورة، وقد ركزت حتى سنة ١٩٤٨ على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور فى مصر مبلغ استيائى، والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافى للإقدام على التغيير اللازم. وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين؛ نحاول أن نخرج مثلنا العليا العامة فى هدف مشترك وفى خطة مشتركة، وكانت بى رغبة عارمة للمعرفة؛ فأقبلت على الاطلاع بنهم، والتهمت كتب المفكرين من أمثال: لاسكى و«نهرو» بل وأنيورين بيفان، وبدأت أفكار الاشتراكية تتكون شيئاً فشيئاً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة