طلب الجنرال «أكسهام» قائد القوات البريطانية فى منطقة الإسماعيلية البكباشى شريف العبد «اللواء فيما بعد»، وكان ضابطا للاتصال المصرى مع القوات البريطانية، فتوجه إليه فى مبنى لشركة القناة، فكان سطرا فى المعركة البطولية للشرطة المصرية ضد القوات الإنجليزية يوم 25 يناير - مثل هذا اليوم - 1952.
يتذكر «العبد» فى شهادته للكاتب الصحفى جمال الشرقاوى فى كتابه «حريق القاهرة - قرار اتهام جديد» عن «دار الثقافة الجديدة»: «كان أكسهام بملابس الميدان.. أخرج من جيب سترته خطابا تلاه على: «أمرت بإبعاد كل البوليس الاحتياطى عن المنطقة، ويجرى الآن حصار ثكنات البوليس الرئيسية، وأطلب كل قوات البوليس النظامية والاحتياطية أن تتجمع فورا بدون أسلحتها أمام ثكناتها على أن يتقدم أكبر الضباط رتبة فى كل ثكنة إلى المدخل لتلقى التعليمات فى الساعة السادسة وخمسة وعشرين دقيقة صباحا، وإذا لم يتم ذلك أو فى حالة إطلاق النار على قواتى سأستخدم القوة لتنفيذ أوامرى».
يضيف العبد: «قلت إن هذا الأمر لا يمكن تنفيذه، عندئذ أعطانى الإنذار، وحملنى مسؤولية ونتائج رفضه.. توجهت إلى منزل وكيل المحافظة وأطلعته على الإنذار فعلمت منه أن عساكر البوليس فى المحافظة، وبلوك النظام أخذوا سلاحهم وذخيرتهم المحدودة، ومصممون على القتال».. يؤكد، أنه فى السادسة والنصف صباحا، حدث اتصال تليفونى بين منزل وكيل المحافظة ومدير الأمن العام بالقاهرة، واستطعنا أن نوقظه من النوم وأبلغناه وانتظرنا الرد، لكن أحدا لم يرد، وفى السابعة صباحا بدأت المذبحة الأولى، وسمعنا صوت أول طلقة مدفع أطلقتها الدبابات البريطانية، ورد عليها رجال البوليس، ودكت المدافع البريطانية مبنى المحافظة القديم.. استمر الضرب 10 دقائق ثم عادت القوات البريطانية تطلب التسليم، وأعطت مهلة 15 دقيقة.. لكن مصطفى رفعت صاح: «لن تتسلمونا إلا جثثا هامدة».
مصطفى رفعت «اليوزباشى» وقتئذ «اللواء فيما بعد» بطل ورمز هذه المعركة، واستلهم الكاتب أسامة أنور عكاشة قصة قيادته للعمل الفدائى فى القناة قبل ثورة 1952 فى مسلسله «ليالى الحلمية».. يكشف فى شهادته بكتاب «حريق القاهرة»: «قررت أنا وصلاح الدسوقى التطوع للسفر للقتال لتنظيم صفوف المقاومة وتنظيم قوات البوليس المبعثرة هناك، قدمنا طلبا لمدير الكلية، انضم إلينا صلاح ذوالفقار «الفنان»، وصلنا إلى الإسماعيلية، اتصل بنا بعض الضباط الأحرار ومدونا بالقنابل والذخائر، واتصلنا بمجموعات الفدائيين، توسعنا فى نشاطنا، كنا نهرب للفدائيين عندما نعلم أن الإنجليز سيقومون بحملات تفتيشية، وندرب ونمد الفدائيين بالذخيرة، وتحولت المنطقة إلى جحيم للبريطانيين».
يتذكر «رفعت»: «يوم 25 يناير كانت قوات البوليس حوالى 700 أو 1000 عسكرى موزعة على معسكرى المحافظة والمستوصف، وكنا الضباط فى لوكاندة قريبة، والتسليح للعساكر كان بندقية «لى انفيلد»، ونصف العساكر بالخيرزان فقط.. أيقظنى فراش اللوكاندة وكان متعاونا، يغطينا عندما نغيب أثناء القيام بالعملية.. كان معى اليوزباشى عبدالمسيح مرقص واليوزباشى مصطفى كمال عشوب والبكباشى حسان أبوالسعود، قال الرجل: الحقوا المدينة احتلها الإنجليز.. نزلنا على الفور مع عساكرنا، قرأنا الفاتحة، حتى الأخ عبدالمسيح قرأ معنا».
ذهبوا إلى المحافظة، يتذكر: «تحمس العساكر عندما رأونا، قالوا: «لا تسليم، نخلص كلنا ولا نخرج من هنا، وزعنا أنفسنا وذخيرتنا، بدأ الضرب بالأسلحة الثقيلة بوحشية، تساقط القتلى والجرحى، جاء عامل التليفون يبلغنى أن وزارة الداخلية تطلبك، لأنهم لم يجدوا أحد الضباط الكبار.. كان المتحدث وزير الداخلية فؤاد سراج الدين.. قال: فيه إيه عندك؟، وجهت سماعة التليفون ناحية الضرب، وقلت: هذا هو الموجود.. قال عندك قتلى.. قلت: نعم. قال: أين الضباط الكبار؟ قلت: لا أعرف، قال: ماذا ستفعلون؟.. قلت: لن نسلم، وفى هذه اللحظة سقطت قنبلة على السويتش فقطعت المكالمة، وآخر كلمة قالها الوزير: «شدوا حيلكم».
يتذكر «رفعت»: «طار ذراع جندى.. توجهت لرعايته، فقال: اذهب أنت لواجبك، شد حيلك، ولع لى سيجارة، اضطررت للخروج، رفعت راية، توقف الضرب، جاء أكسهام وسأل: ستسلمون؟.. قلت: «لا، أطلب الإسعاف للجرحى»، صرخ: «سلم أولا»، فقلت له: «استمر، واستمر»، اتخذت العملية طابع المذبحة، كانت طائرة تطوف بالميكروفون تطلب تسليمنا.. استمر الضرب حتى الرابعة بعد الظهر.. قررت حسم الموقف بالخروج والالتحام مع أكسهام. خرجت ففوجئت بضابط آخر أكبر، خبط رجليه وحيانى تحية عسكرية قوية، اتضح أنه الجنرال ماتيوس قائد المنطقة، جاء لما طالت المعركة، قال: «أنت ورجالك قمتم بأكثر من الواجب وموقفكم مشرف، ومستعد لتلبية مطالبكم».. تذكرت أننى تحدثت فى مقابلة سابقة مع أكسهام، فقال بازدراء: «انزل هذا الشىء الرث من مكانه مشيرا إلى علم مصر»، فقلت لـ«ماتيوس»: أول طلب لنا أن يبقى علمنا، وسنخرج فى طابور منظم، ولن نرفع أيدينا، فوافق.. حاولت إقناع الجنود، وبعد جهد وافقوا، وقفنا فى طابور منظم، وخرجنا، وكانت المفاجأة أن أصدر القائد الإنجليزى أمره بتحية طابور العساكر المصريين».
انتقل جنود الشرطة إلى المعتقل، كان العدد نحو ألف، يتذكر«رفعت»: «بعد يومين جاء من يدعونى لدفن الضحايا «50 شهيدا» و80 جريحا»، وجدت أكتافهم فى أكتاف بعض، يملأون حجرتين كبيرتين فى المستشفى، جاء يوم الإفراج عنا من الأسر، دخلنا مكتب الوزير مرتضى المراغى، نظر إلى: «أنت مصطفى، على العموم أنا كفيل بالأفكار اللى فى دماغك دى أشيلها.. خرجت من عند الوزير، وورائى قرار بإجازة مفتوحة.. طبعا هم متخيلين إن إحنا ناس شيوعيين أو سياسيين».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة