كانت الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر حين تلقى الدكتور مصطفى الحفناوى مكالمة تليفونية لم يتوقعها.. وحسب تأكيده فى الجزء الثالث من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»، فإنه كان فى عزبة تقع على النيل فى شمال قناطر أدفينا يملكها أولاده القصر، ويشرف هو على الزراعة فيها منقطعا عن الاتصال بالناس.
يكشف: «فى مساء 23 يوليو، مثل هذا اليوم سنة 1956، فوجئت فى منتصف الساعة الرابعة بعد الظهر بمكالمة تليفونية فى عزبة مقابلة، وكان المتكلم هو صديقى اللواء صديق عبداللطيف حكمدار الإسكندرية الذى طلب منى أن أعود إلى الإسكندرية على الفور، قائلا، إن طائرة فى انتظارى لتحملنى إلى القاهرة لأتشرف بمقابلة سيادة الرئيس جمال عبدالناصر، وإن هذا الأمر صدر من سيادته، وبعد البحث الطويل عنى والاهتداء إلى مكانى، لم يعد فى الوقت متسع للسفر بالطرق العادية فالطائرة فى الانتظار».
يؤكد الحفناوى: «لا أخفى أن المفاجأة أقلقتنى، وعدت إلى الإسكندرية ومررت ببيتى لحظة خاطفة، ثم حملتنى الطائرة وفى أقل من ساعة كنت قد وصلت إلى القاهرة، وما لبثت أن ألفيت نفسى بدار سيادة الرئيس جالسا بين يديه وبجواره سيادة الأستاذ على صبرى، وأفضى لى الرئيس بخبر قراره التاريخى الخاص بتأميم شركة قناة السويس، وكان القرار يومئذ سرا من أسرار الدولة الخطيرة، وسجدت لله شكرا على هذه الثقة الغالية التى غمرنى بها، وعلى تلك الخطوة غير المسبوقة فى تاريخ مصر القديم والحديث».
كانت قناة السويس بوصف أحمد حمروش فى كتابه «ثورة 23 يوليو»: «مأساة فى حياة الشعب المصرى، مات من أبنائه 120 ألفا وهم مسخرون فى حفرها، ولم تكن مصر تملك شيئا من أموال شركة القناة، وكانت هناك اتفاقية عقدت عام 1949 بين الشركة والحكومة المصرية حصلت بموجبها على 7% من الأرباح، وتعيين خمسة مصريين فى مجلس الإدارة الذى يضم 25 إنجليزيا وفرنسيا، وعندما حاولت حركة الجيش الحصول على شروط أفضل، تمسكت الشركة بمد مدة الامتياز وكان مفروضا أن تنتهى عام 1968 فى مقابل زيادة نسبة الأرباح وزيادة عدد المصريين، ورفضت زيادة عدد المرشدين المصريين رغم وجود عجز 20%، وظل الموقف كما هو 40 مرشدا مصريا فقط من 205 تستخدمهم الشركة».
يقفز السؤال: «لماذا كان الحفناوى من الدائرة الضيقة جدا التى أطلعها عبدالناصر على قراره التاريخى؟».. يجيب هو فى كتابه بأجزائه الأربعة عن القناة وصفحاته التى تقترب من 3500 صفحة، موضحا فيها قصة غرامه بهذه القضية التى تعد القلب النابض لنضاله من خلال صفوف الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل، واعتقاله سبع مرات فى عامى 1936 و1937، وهو طالب فى كلية الحقوق، وفى 5 يونيو 1951 حصل من باريس على الدكتوراه فى القانون الدولى وكانت القناة موضوع رسالته، وعاد إلى مصر مسلحا بعمله العلمى الفذ ليبدأ نضالا فرديا من نوع خاص، فأصدر صحيفة «جريدة قناة السويس»، وترافع عن عمال الشركة أمام المحاكم، ورفض كل إغراءات الشركة له، ولم يخضع للتهديدات والمطاردات والتشهير بالسمعة فى عمله كمحام لشركات دولية.
يؤكد الحفناوى، أنه بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، ألقى محاضرة عن موضوع القناة فى نادى القوات المسلحة بالزمالك فى 17 نوفمبر 1952، وكان لها دوى شديد، ويكشف: «فى 21 يوليو 1955، تشرفنا بالتحدث مع الرئيس جمال عبدالناصر فى بيت صديق فى موضوع قناة السويس ساعات، وفهمنا أنه أعد للأمر ولكنه لم يفصح عن الخطة ولا الوقت الذى اختاره للتنفيذ.. وعلمنا من سيادته أن شارل رود، رئيس الشركة، دائم الشكوى منا، ويستعدى السلطات علينا».
هكذا كانت قضية القناة هى حياة هذا الرجل ولهذا: «سجد لله شكرا حين أبلغه عبدالناصر أثناء لقائهما بقرار التأميم»، ويؤكد: «امتدت الجلسة بعض الوقت، وانصرفت متوجها إلى حى المقابر بالإمام الشافعى، وهنالك فى ظلام الليل الرهيب، فتحت باب الحوش الذى يوجد فيه قبر ولدى بداخله «قتلته طفلة كانت تتدرب على قيادة سيارة وهو واقف أمام المنزل يوم 8 ديسمبر 1952».. مكثت إلى جواره أكثر من ساعتين، غير مقدر خطرا قد يصيبنى فى ذلك المكان الموحش، استسلمت لعواطفى ورحت أسكب الدموع حارة، وأنا لا أعلم لذلك سببا، إلا أن تكون أمنية باطنية كنت أتمناها، وحرمت منها وهو أن يكون الابن معى فى تلك اللحظات الحاسمة فى تاريخ الوطن وهو الذى كان جليسى وأنيسى وأنا أكتب رسالتى باللغة الفرنسية».
وامتدت دراما القصة إلى اليوم التالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة