حلقت طائرتان مصريتان من طراز «ميج 21» بسرعة فوق منطقة «النقب» من جنوبها إلى شمالها فى فلسطين المحتلة، ومع أن وسائل الدفاع الإسرائيلية تصدت لهما، لكن لم يلحق بهما أذى، حسبما يذكر محمد حسنين هيكل فى كتاب «عام من الأزمات» عن «دار الشروق - القاهرة»، والذى يعتمد فى الفصل الخاص بنكسة 5 يونيو 1967 على قراءة الوثائق الإسرائيلية التى ظهرت بعد الحرب بنحو ثلاثين عامًا.
يؤكد هيكل أن هذا الأمر أحدث هزة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، لكن لم تبد له نفس الأهمية فى دائرة صنع القرار فى مصر، ويذكر هيكل ما سمعه من الرئيس جمال عبدالناصر مباشرة حول هذا الموضوع فى لقائهما صباح 18 مايو «مثل هذا اليوم 1967» فى غرفة مكتبه فى بيته، ويؤكد هيكل أنه سجل ما سمعه فى أوراقه بعد اللقاء ضمن حديث طويل.
يذكر هيكل: قال الرئيس إنه انشغل بشىء جرى عصر الأمس «17 مايو» يظهر أن حكيم «عبدالحكيم عامر» وصدقى «صدقى محمود»، قائد الطيران، أرادا اختبار قوة الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ولذلك أرسلا طائرتى استطلاع لاختراق المجال الجوى الإسرائيلى من «إيلات» إلى «بير سبع» إلى «الخالصة» إلى «سد بوكر»، ثم عادت الطائرتان بسلام.. لم تتعرض لهما الدفاعات الإسرائيلية بالكفاءة التى كنا نتصورها، كما أن طلقات المدفعية الإسرائيلية المضادة كان بينها وبين طائراتنا مسافة كبيرة، وخرجت المقاتلات الإسرائيلية بعد ذلك للمطاردة، لكنها خرجت متأخرة 14 دقيقة بعد لحظة الاختراق، وأكملت الطائرتان مهمتهما وعادتا، وجاءتنى قبل قليل مجموعة من الصور، يؤكد هيكل أن الرئيس أطلعه على ثلاث منها.
استطرد عبدالناصر: «إننى أستغرب ما حدث، ولا أصدق أن الدفاعات الإسرائيلية ليس عندها المدى الذى يسمح لها بالوصول إلى الارتفاع الذى كانت عليه الطائرتان، وفى نفس الوقت فإننى لا أتصور أن هناك تقصيرًا فى الدفاعات الإسرائيلية يسمح لطائراتنا أن تخترق النقب للاستطلاع وتعود.. حكيم وصدقى كانا سعيدين، ولكنى لم أتحمس كما توقع الاثنان، الحكاية دعتنى إلى الشك والتساؤل عما إذا كان الإسرائيليون يريدون إقناعنا بأنهم ليسوا مستعدين أو ماذا؟»، يضيف هيكل: «استطرد عبدالناصر: اتصلت بعد ساعة بصدقى، أبديت له شكوكى، وبدا أنه مازال مأخوذًا سعيدًا بما فعله أولاده الطيارون، لكننى فى الحقيقة أفضل أن أتحفظ»، يشير هيكل إلى أن نفس الأمر تكرر يوم 26 مايو، ويقول: «من المفارقات أنه بعد أيام قليلة- يوم 26 مايو- وربما بقصد إقناع جمال عبدالناصر، فإن عامر وصدقى رتبا لغارة استطلاع ثانية عبرت نفس المنطقة واستطلعت وصورت، ورصدت قذائف مضادة للطائرات تنفجر فى الأجواء تحتها، ولكن المدى لا يطالها».
كان مفاعل «ديمونة» هو الأصل فى النظرة الإسرائيلية للغارتين.. وتؤكد ذلك ثلاث وثائق هى طبقًا لهيكل: تقرير من الجنرال إسرائيل ليور بأن عمليات الاستطلاع الجوى المصرى أثناء اختراقها منطقة النقب الجنوبى مرت فوق منطقة «ديمونة»، وذلك فى تقديره «ليور» يكشف أن التسهيلات النووية الإسرائيلية قد وضعت كأولوية أولى فى خطط مصرية للحرب. وأكد «ليور» أن مجلس الوزراء المصغر سيبحث هذا الأمر الخطير، ولدينا مذكرة من رئاسة الأركان، وقد طلبنا تقريرًا جديدًا من المخابرات العسكرية عن حسابها للاحتمالات بعدما حدث.
أما الوثيقة الثانية حسب هيكل فهى: «مذكرة كتبها الجنرال ييجال آللون، وهو عضو رئيسى فى لجنة الأمن والدفاع فى مجلس الوزراء، تقول: من الواضح الآن أن مفاعل ديمونة على رأس قائمة الأهداف المصرية، وهذا فى حد ذاته يفرض على إسرائيل أن تقوم بشن حرب وقائية ضد مصر، لأن أى تهديد لديمونة تهديد للرادع النهائى الضامن للأمن الإسرائيلى».
والوثيقة الثالثة هى: «تقرير قامت به هيئة المخابرات العسكرية «آمان» بتوقيع الجنرال أهارون ياريف جاء فيه: يبدو الآن أن النوايا المصرية لا يمكن اعتبارها مظاهرة سياسية، وإنما عملية عدوانية، وطبقا لأوراق الجنرال إسحاق رابين، فإنه حين قرأ رئيس الوزراء الإسرائيلى ليفى أشكول هذا التقرير بالمراجعة لهيئة المخابرات العسكرية الإسرائيلية التفت إلى ناحيته، وقال له إنها الحرب.. أقول لك إنها الحرب سواء أردنا أو ترددنا».
يؤكد هيكل: «عندما صدر فى مصر قرار إغلاق خليج العقبة مساء 21-22 مايو كان رئيس وزراء إسرائيل يرجح أن هذا القرار ذريعة لضرب مفاعل ديمونة، وطبقًا لمحضر اجتماع للجنة الأمن والدفاع فى مجلس الوزراء فإن أول تعليق لأشكول على القرار كان قوله: أظن أن نواياهم الحقيقية ليست فى خليج العقبة، فهم يعرفون أن بواخرنا العابرة من مضايق تيران تكاد لا تظهر هناك، ولذلك فإن الحصار الذى ضربوه على المضايق غير مفيد فى الواقع العملى، والتفسير المقنع فى رأيى هو أن هذه الخطوة «إغلاق الخليج» تصاعد مقصود يريد خلق الأعذار لعمل من جانبنا- يردون عليه بضرب ديمونة- والغالب أن ذلك هدفهم من التصعيد».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة