التنمر والعنصرية، أفعال سيئة تحاول الحكومات والدول والمنظمات العالمية مكافحتها والحد منها، وهذان الفعلان إضافة إلى ما قد يحملاه من عنف، فإنهما يسببان آلامًا نفسية عميقة لكل من يتعرض لهما سواء فى عمله أو مدرسته أو فى المنزل، وأحيانًا يترتب على استمرار التأذى من التنمر والعنصرية أن يندفع بعض الأشخاص للانتحار للتخلص من هذا الأذى البالغ الذى يصيبهم من قبل المحيطين بهم.
وفى مثال واضح لا يقبل الشك أو التأويل، تعرض طالب سورى لاجئ فى بريطانيا، للاعتداء والعنف العنصرى من قبل زميله، فى ملاعب مدرسة ألموندبرى، فى هيدرسفيلد، وذلك رغم التصريحات المتعددة للحكومة البريطانية عن كون وطنهم يقبل الآخر ويرحب به، إلا أن صرخة اللاجئون للنجاة من ويلات الحرب السورية، لم تلق استجابة من المسئولين لوقف الإساءات التى يتعرضون لها.
وتتضمن رحلة الطالب السورى جمال، للخروج من وطنه هربًا من الحرب، وصولًا إلى بريطانيا، ألوانًا عديدة من العذاب، ولكن قبل التطرق لتفاصيل تلك الرحلة، يجب الإشارة هنا إلى تفاصيل أكثر حول واقعة الاعتداء، فقبل أكثر من شهر، تلقى نائب هيدرسفيلد، بارى شيرمان، رسالة إلكترونية من أحد ناخبيه - كان من فتى يبلغ من العمر 15 عامًا - بعنوان "شكوى.. من فضلك ساعدنى"، وتحت هذا العنوان روى الطفل الاعتداء الجسدى الذى تعرض له من قبل المتنمرين فى مدرسته، الذى أوضح أنهم ألقوا عليه الماء وضربوا بالبيض، وكسروا ذراعه، وما غير ذلك من أنواع العذاب، موضحًا فى شكواه أنه اكتشف فى عدة مناسبات أن المسيئين له يضحكون عليه ويصوروه بكاميرات هواتفهم المحمولة.
وبالفعل فى مقطع الفيديو الذى انتشر، تظهر اللقطات أنه يتم دق رأسه وجره على الأرض، قبل أن يغرق زميله فى المدرسة بزجاجة ماء، الأمر الذى دفع، تيريزا ماى، أمس، إلى التأكيد على أن بريطانيا تظل "بلدًا ترحيبيًا" على الرغم من التنمر المرير الذى تعرض له الطفل اللاجىء، وأضافت رئيسة الوزراء البريطانية، أنها كانت مفزوعة من لقطات الهجوم على الطفل – وذلك حسب تقرير لصحيفة "ديلى ميل" البريطانية.
ورغم أن المشهد الذى ظهر فيه الطالب السورى جمال، أثناء الاعتداء عليه فى المدرسة، مؤسف ويمزق القلب، إلا أن التعرف على تفاصيل أكثر من قصته، تجعل الرواية أكثر حزنًا وتأثيرًا فى النفوس، خاصة وأن طفولته أصبحت مرهونة بمشاعر الخوف وعدم الاستقرار.
ويروى أحد أقارب الطالب السورى، لـ"الديلى ميل"، أن جمال، ولد فى مدينة حمص السورية القديمة، وهى مدينة سميت "عاصمة الثورة" بعد أن اعتنق سكانها دعوة للإطاحة بنظام بشار الأسد، فى عام 2011، وكان الطفل السورى بطل هذه القصة يبلغ حينذاك 8 سنوات من عمره، وقد فرت عائلته إلى لبنان، هربًا من المخاطر التى تحيط بهم بسبب الحرب، وهناك قضى مع والديه وشقيقته الصغرى – التى تبلغ من العمر الآن 13 عامًا – 6 سنوات فى ظروف معيشية سيئة، حيث كانوا يعيشون مع أكثر من مليون لاجئ سورى فى خيام مؤقتة وينامون على أرضيات متسخة.
وأخيرًا، فى عام 2016، منحت أسرة الطالب السورى جمال، ممر آمن إلى بريطانيا من قبل الأمم المتحدة، ووعدت الحكومة البريطانية بإعادة توطين ما يصل إلى 20 ألف شخص من اللاجئين السوريين، وكان جمال وأسرته من بين المحظوظين الذين تم الترحيب بهم هناك، وتم وضعهم فى ألموندبرى، فى هارسفيلد، وهى مدينة لديها أعلى متوسط عدد سكان من الأقليات العرقية، بينهم أكثر من 16% من سكان المدينة آسيويين، وقد استقر 100 لاجئ سورى بينهم أسرة جمال، فى تلك المنطقة، وأعطيت أسرة الطالب السورى منزلًا من ثلاث غرف للنوم، بالقرب من مدرسة Almondbury Community School.
بدوره، وصف جمال، التفاؤل الذى شعر به فى البداية عند وصوله إلى يوركشاير، فى مقابلته التلفزيونية الوحيدة منذ بضعة أيام، وقال: "كنت أفكر بأن حياتى ستكون جيدة، وأن مستقبلى سيتكون حقًا إذا درست فى المدرسة"، ولكن فى الحقيقة، يقول جمال، إنه وأخته الأطفال السوريان الوحيدان فى فصولهم، وقد أصبحا هدفًا للتخويف خلال شهر من بدء الدراسة، مشيرًا إلى أنه لا يتحدث أى من والديه اللغة الإنجليزية، الأمر الذى جعلهم غير قادرين على طرح قضية أطفالهم، أما جمال، فقد تعلم اللغة الإنجليزية فى العامين الأولين له فى بريطانيا، لذا قرر أنه لم يكن لديه خيار سوى مساعدة نفسه، لأنه شعر أنه لم يتم فعل أى شىء لحمايته فى المدرسة.
ولم يكن لديه فقط القدرة على إرسال بريد إلكترونى إلى السلطة المحلية "مجلس كيركليز"، ولكن أيضًا إلى أعضاء المجالس الفردية، وزارة التعليم، والشرطة، ووجدت هذه الرسالة الإلكترونية طريقها إلى النائب المخضرم بارى شيرمان، الذى قال لـ"ديلى ميل"، "لقد فعلت كل ما بوسعى لدعمه"، مؤكدًا على أنه مقتنع بأن السلطات استجابت بشكل إيجابى، لكنه قال إنه كان لديه تعاطف كبير مع جمال، خاصة وأن هيدرسفيلد هى مدينة جامعية عالمية، ومكان رائع للعيش فيه.
ويتضح من البريد الإلكترونى المرسل من الطالب السورى، أن الاعتداء الأخير عليه وإغراقه بالماء، كان قد حدث فى 25 أكتوبر فى ملاعب المدرسة، إلا أن المفاجأة هنا، فى تأكيد الشرطة، أنها تحقق فى اعتداء على شقيقة جمال، بعدما انتشر مقطع فيديو آخر، يظهر فتيات تحاولن خلع حجابها ودفعها إلى الأرض، وفى هذا الإطار أكد محامى أسرة الطالب السورى، أن شقيقة جمال، تعرضت للتخويف من قبل مجموعة أخرى من التلاميذ، وفى الأسبوع الماضى، قام شخص ما بإزالة حجابها بالقوة، وأنه قد تم استبعاد فتاة من المدرسة بسبب هذا الحادث، يوم الثلاثاء.
وكل هذا جعل جمال يشعر بالاستياء والاضطهاد، حيث قال "كنت أشعر وكأننى لا أستطيع أن أدرس"، مضيفًا "استيقظت فى الليل وبدأت فى البكاء، يعتقدون أننى مختلف عنهم، وكان هذا سيئًا حقا، فلا أشعر بالأمان فى المدرسة، وكنت أشعر بعدم الأمان فى كل مكان - حتى للذهاب إلى المتجر، وأحيانًا أقول لوالدى، لا أريد الذهاب إلى المدرسة بعد الآن".
ويقول تقرير "ديلى ميل"، إن محنة جمال، منذ إعلانها، أبرزت أفضل وأسوأ ما فى المجتمع البريطانى، فرغم العنصرية والعنف الواضحين فى الواقعة، إلا أن الجانب الإيجابى تمثل فى جمع تبرعات وصلت إلى 150.000 جنيه إسترلينى لعائلته، وذلك بمساهمة حوالى 10.000 شخص عبر موقع "GoFundMe"، وفى المقابل دافع تومى روبنسون، القائد السابق لرابطة الدفاع الإنجليزية، عن المتهم البالغ من العمر 16 عامًا بتهمة الاعتداء على جمال، مدعيًا فى دفاعه أن جمال لم يكن بريئًا، كما اتهمه بالانضمام إلى اعتداء على فتاة بيضاء فى المدرسة.
وأشارت الصحيفة الإنجليزية، إلى أنه وفى وقت لاحق، نشرت والدة الفتاة - الضحية المزعومة - رسالة على موقع روبنسون، ينكر فيها أن جمال هو المسئول، وذلك بعدما زعم روبنسون أيضًا أن القضية قد ذهبت إلى المحكمة، لكن متحدثًا باسم شرطة غرب يوركشاير، قال إنهم "ليسوا على دراية بأية قضية من هذا القبيل"، ومنذ ذلك الحين تراجع روبنسون عن ادعاءاته، إلا أن محامى جمال، أكد أن الأسرة تخطط لاتخاذ إجراءات قانونية ضد روبنسون.
وفى جانب آخر من جوانب الدعم والمساندة، تجمع حوالى 30 متظاهرًا، من مجموعة تطلق على نفسها اسم "البريطانيين الآسيويين"، خارج مدرسة ألموندبيرى المحلية، يوم الخميس، لإظهار دعمهم لجمال، وكانت فكرة الاحتجاج هى توليد تغطية إعلامية وطنية للقضايا، لكى يتقدم آخرون من ضحايا التسلط والعنصرية ويخرجون الحقيقة عن هذه المسألة من المدرسة.
وفى تصريحات لعائلة جمال، أكدت أسرة الطالب السورى، أنهم سيستخدمون الأموال التى جمعت لهم لمغادرة هيدرسفيلد، فيما قال محاميهما تسنيم اكونجى، "لا يريدون العيش هنا بعد الآن، لقد أصبح مستوى الإساءة التى تلقاها الأطفال أكثر من اللازم، وإنه من المبكر الحديث عن المكان الذى سينتقلون إليه بالضبط، ولكنى أقوم بتقديم النصيحة لهم وهم بحاجة إلى التفكير فى ذلك الآن، فإنهم بحاجة إلى أن يتغلبوا على الصدمة من كل شىء، ويجب أن ينتقل الأطفال ويواصلون حياتهم".
ورغم الإساءات الفظيعة التى تعرض لها الطالب السورى، إلا أنه أكد أنه لا يريد أن يستهدف العنف المتنمرين بعد الحادث الذى وقع فى المدرسة فى هيدرسفيلد، خاصة وأنه قد وجهت إساءات كثيرة عبر الإنترنت إلى الطفل الجانى، بينها تهديدات باستخدام العنف ضده، إلا أن جمال، قال: "أنا قلق جدًا من التعليقات العنيفة التى تخرج على وسائل التواصل الاجتماعى عن الجانى، ولا أريد أن يحدث أى شىء رهيب له على الإطلاق، أنا فقط لا أريد أن يحدث أى شىء سىء لأحد"، كما قال محاميه تسنيم أكونجى، إن جمال أصبح قلقاً من تعرض الأطفال الآخرين للأذى.
وفى ظل هذه التداعيات، قالت صحيفة "ديلى ميل" إن المراهق الإنجليزى، الذى اعتدى على الطالب السورى، غادر المملكة المتحدة مع أمه، كما نقلت الصحيفة عن شقيق المراهق البريطانى – بحسب ما نشرته شبكة "سكاى نيوز" الإخبارية، إن أخاه وأمه غادرا هادرسفيلد والمملكة المتحدة، ليبقى المعتدى مع أقاربه بعد التهديدات التى طالته، فيما تباهى شقيق المعتدى، بأن لدى أخيه "جيش من المدافعين عنه"، وبرر فى ذات الوقت الاعتداء، قائلا إن صداما سابقا حدث بين شقيقه والطالب السورى جمال.
وكانت الشرطة البريطانية، قد قالت إنها اعتقلت المراهق وشرعت فى التحقيق بتعرض الطفل لاعتداء بالضرب والخنق على أيدى بعض الطلاب، لكن الأنباء عن مغادرة بريطانيا تثير صدمة ومخاوف من عدم محاسبته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة