كان مشهد الجنازة مهيبا بصاحبها ومكانها.. كانت «جامعة القاهرة» هى المكان، وكان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين هو صاحب الجنازة، وكان «31 أكتوبر - مثل هذا اليوم - 1973» هو زمن الحدث، أى بعد الوفاة بثلاثة أيام «28 أكتوبر»، وكانت الحالة بوصف الدكتور يوسف إدريس: «كنت أسير وحولى ومن حولى الآلاف يسيرون، نشيع طه حسين، نشيع عصرا بأكمله، عصرا بدأ مع بداية فجر الفكر العربى، وانتهى بإشراقة صباحه، بالنور، بكثير من النور، كنا نشيع فردا احتوى بين ضلوعه طموح أمة، ومن ظلامه الخاص وظلامها الخاص قادها إلى النور، إلى هذا القرن».. «مقال - تشييع عصر - الأهرام -3 نوفمبر 1973».
كان خروج الجنازة من جامعة القاهرة تعبيرا عن اقتران تاريخها بتاريخ هذا الرجل العظيم، فهو صاحب أول رسالة دكتوراة فى تاريخها عام 1914، وهو أول عميد مصرى لكلية الآداب، وصاحب أكبر معارك التنوير التى أطلقها من بين جدرانها، وأعنفها معركة «الشعر الجاهلى» عام 1926، ومعركة فصله منها، واستقالة مديرها أحمد لطفى السيد تضامنا معه يوم 9 مارس عام 1932، وفيها تعرض لاستجواب برلمانى فى 7 مارس 1932 يتهمه بنشر الفحشاء، والسبب حسبما يذكر الدكتور محمد حسن الزيات زوج ابنته ووزير خارجية مصر «8 سبتمبر 1972-30 أكتوبر 1973» فى كتابه «ما بعد الأيام»: «أن جريدة الأهرام نشرت «عدد 16959» صورة لطلبة كلية الآداب حول عميدهم الدكتور طه حسين، وجلست كل شابة إلى جانب شاب»، وفيها أيضا اقتحم طلاب مدرج كلية الآداب أثناء محاضرة، وتدفق شباب يهتفون بسقوط الكلية، وحياة الإسلام، ووفقا للزيات: «اقتحم المهاجمون المدرجات وقاعات البحث، وصعدوا سلم الكلية متجهين إلى غرفة» طه حسين «يهتفون بسقوط» العميد الأعمى»، وحاولوا اقتحام حجرته وهو فيها وحده، فيوقفهم السعاة والموظفون وطلاب خرجوا من محاضراتهم وأسرعوا يحمون غرفة»العميد».. والسبب، أن قسم اللغة الإنجليزية بالكلية قرر لطلابه قراءة كتاب «جان دارك» للمؤلف البريطانى الشهير برنارد شو، وكتاب «أحادث خيالية للاندرو»، واتهام البعص للكتابين بأنهما يمسان الإسلام.. كان طلاب الإخوان هم من قاموا بالمظاهرة حسبما يؤكد محمد أحمد عبد الحميد أحد رواد الجماعة، والطالب بقسم اللغة الإنجليزية وقتئذ فى مذكراته «ذكرياتى»، مؤكدا أنه هو من تقدم بالاحتجاج إلى طه حسين، ويقول: «لم يكن معنا فى الواقع إلا شباب الإخوان فقط من جميع الأقسام».
هذا الماضى بآلامه وآماله حضر عند «العميد» فى ساعاته الأخيرة، فحسب زوجته «سوزان» فى مذكراتها «معك» ترجمة: بدر الدين عروكى: فى يوم السبت 27 أكتوبر، كان يريد منى أن أجعله يستلقى على ظهره، وكان ذلك مستحيلا بسبب ظهره المسلخ، وأصغى - وما أكثر ما يؤلمنى ذلك - إلى صوته يتوسل إلى كصوت طفل صغير قائلا: ألا تريدين؟.ألا تريدين؟. بعد قليل، قال: «إنهم يريدون بى شرا، هناك أناس أشرار».قلت: «من الذى يريد بك شرا يا صغيرى؟.من هو الشرير؟. قال: «كل الناس».سألته: «حتى أنا». أجاب: «لا.. ليس أنت. إية حماقة. هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟».. تتوقع سوزان: «من المؤكد أنه كان يستعيد فى تلك اللحظة العقبات التى كان يواجهها والرفض الذى جوبه به، والهزاء بل والشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك».
حضر هذا التاريخ أثناء المناقشة لتحديد مكان تشييع الجنازة..يذكر «الزيات»: «فى رامتان..فى الدار التى خلت من صاحبها، استقبلت الأستاذ يوسف السباعى، وزير الثقافة، والدكتور صوفى أبو طالب وكيل جامعة القاهرة. .كان السباعى يرى أن تبدأ الجنازة من جامع عمر مكرم، ولكن كنت أفضل بيته الذى أحبه.جامعة القاهرة».
كانت الساعة العاشرة صباح الأربعاء 31 أكتوبر، حين وصل الجثمان من مستشفى العجوزة إلى الجامعة، وحسب جريدة الأخبار 1 نوفمبر 1973: وضع فى مدخل قاعة الاحتفالات الكبرى التى توافد عليها المشيعون حتى امتلأت عن آخرها.. فى الشرفة الرئيسية جلست قرينته، وبجانبها ابنته والدكتور سهير القلماوى «تلميذته»، وسيدات هيئة التدريس والسلك الدبلوماسى وقرينات الوزراء.. خرج الجثمان يحيط به أكثر من خمسين ألفا، حوله مئات من باقات الزهور تتوسطها- على كسوة من القطيفة -الدرجات والأوسمة والقلادات والنياشين التى حملها عميد الأدب العربى من مصر والعالم، ثم تحركت الجنازة مارة بحرم الجامعة إلى ميدان الشهداء، ثم اخترقت كوبرى الجامعة حتى مسجد صلاح الدين بالمنيل، حيث أقيمت صلاة الجنازة، واستغرق الموكب من الجامعة حتى المسجد ساعة كاملة، واصطف آلاف الطلبة على جانبى الطريق، وفى المقدمة كان نائب رئيس الجمهورية حسين الشافعى، ومحمود فوزى مساعد رئيس الجمهورية، والوزراء يتقدمهم نائب رئيس الوزراء ممدوح سالم، والسفراء ورجال الدين والمحافظون، وأساتذة وعمداء الجامعات، ومئات المفكرين والأدباء يتقدمهم توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف وهبى، يوسف إدريس».
تتذكر الدكتورة لطيفة الزيات فى مذكراتها «أوراق شخصية» ما طاف بها أثناء الجنازة: «شعرت أنى أشيع عصرا لا رجلا، عصر العلمانيين الذين جرأوا على مساءلة كل شىء، عصر المفكرين الذين عاشوا ما يقولون وأملوا إرادة الإنسان حرة، على إرادة كل ألوان القهر.. علانى الوجوم وعذبنى الشعور بنهائية الأشياء، وارتفع صوت الطلبة على كوبرى الجامعة أثناء مرور الجنازة يتردد نشيد «بلادى بلادى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة