عرف «الحمار» فى مختلف العصور على أنه «صديق الفلاح»، نظرًا للدور الكبير الذى يلعبه فى مساعدته فى أعمال الحقل والزراعة، ولكن اختلفت وظيفته فى الفترة الأخيرة، ولم يعد صديقًا للفلاح فحسب، بل أصبح طريح مائدة طعامه، فقد شجعت الأرباح الطائلة التى تجنى من وراء الاتجار فى «لحوم الحمير»، بعض ضعاف النفوس على المضى قدما فى ذبحها وتقديمها للمطاعم وعربات الباعة الجائلين، ولعل أشهر القضايا التى ضبطت فى الفترة الأخيرة وفتحت المجال للحديث عن تلك القضية المثيرة، هو سقوط أشهر «كبابجى» بمنطقة حدائق الأهرام، بعد ثبوت خلطة اللحوم الحمراء بلحوم الحمير، وتقديمها للمواطنين فى شكل أطعمة مختلفة، وهو ما أثبته تقرير «الطب البيطرى» الذى تسلمته النيابة العامة وأصدرت بناء عليه قرارا بتشميع المحل.
على بعد نصف ساعة بالسيارة من ميدان الجيزة، تقع مدينة البراجيل التابعة لمركز أوسيم بشمال الجيزة، والتى تشتهر بإقامة «سوق الحمير» أو «المواشى»، كما يحلو للبعض أن يطلق عليه، أسبوعيا، وتحديدا يوم الجمعة، حيث يبدأ العمل فى الساعة الثامنة صباحا وينتهى قرابة الساعة الثانية ظهرا.
انتقلت «اليوم السابع»، إلى هناك وفوجئنا فور دخولنا السوق، بحالة الركود التى يعانى منها واختفاء الحمير بشكل واضح، اقتربنا من أحد التجار وفور أن علم بهويتنا الصحفية، أقبل علينا مستنجدا بنا، وراغبا فى إيصال صوته للمسؤولين، نتيجة ما تعانيه تجارته من ارتفاع جنونى فى الأسعار. «كامل عيد» رجل فى الأربعينات من عمره، يعمل سمسارا بالسوق منذ ما يزيد على 25 عاما، يقول: «إن حالة البيع والشراء قلت بشكل كبير بسبب انخفاض عدد الحمير المعروضة للبيع»، مشيرًا إلى أن سبب ذلك يرجع إلى لجوء بعض الأشخاص لذبح الحمير وليس لاستخدامها فى أغراض الزراعة أو البيع، فضلا عن اتجاه البعض لتصدير جلودها للخارج، وهو ما ينذر بكارثة قد تؤدى إلى انقراض الحمير.
وعلى بعد أمتار قليلة من المكان الذى اتخذه عم «كامل» موضعا لترويج تجارته، تقابلنا مع عم «جمال» تاجر آخر، عانى كسابقه من كساد السوق وضعف حركة البيع والشراء، تجاذبنا معه أطراف الحديث، وقال لنا، إنه يعمل بتجارة الحمير منذ زمن طويل، وأخذ يستعرض مهاراته، وكيفية اكتشاف كل المعلومات عن الحمار بنظرة واحدة، فعمر الحمار يتحدد من خلال أسنانه، ومدة حمل أنثاه تبلغ 9 أشهر، وعن أسعارها يقول إنها تتراوح ما بين 400 جنيه و5 آلاف جنيه، حسب حالة الحمار، أما وزنه فيتراوح ما بين 150 و300 كجم.
وخلال حديثه أبدى عم «جمال» غضبه الشديد من اتجاه العصابات إلى استخدام الحمير لذبحها وبيع لحومها للمواطنين على أنها لحوم بقرية أو ماشية، مشيرا إلى أن الله خلق الحمير لتعمل فى الزراعة وتساعد الفلاح فى أعمال الحقل، أو أعمال البيع والشراء، وليس للذبح وبيع لحومها لتقدم على موائد الأطعمة، فهذا مخالف للفطرة، مشيرا إلى أنه لاحظ خلال الفترة الأخيرة انخفاضا شديدا فى قلة المعروض منها، واتجاه البعض لشرائها بأعداد كبيرة، بعدها عرفنا أن بعضها يتم ذبحه وبيعه للجزارين.
واشتكى تاجر آخر قابلناه فى السوق الذى تبلغ مساحته ما يزيد على 1000 متر مربع، ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه خلال فترة قصيرة، مشيرا إلى أن الحمار الذى كان يبلغ سعره 500 جنيه وصل سعره لنحو 1000 جنيه، مؤكدا أن تلك الزيادة هى نتيجة طبيعية لتغير الأغراض التى خلق الحمار من أجلها واستخدامه فى تحويله إلى لحوم تقدم كأطعمة للمواطنين، أو استخدام جلوده لتصديرها للخارج.
وأشار عم جمال إلى أن الفترة الأخيرة لوحظ قلة عدد الحمير بسبب بعض الأشخاص الذين اشتروا حميرا بأعداد كبيرة من السوق، واكتشفنا بعد ذلك أنهم قاموا بذبحها وبيعها للجزارين معدومى الضمير الذين يبيعون لحوم الحمير للمواطنين.
بينما يقول «شعبان إبراهيم» 36 سنة تاجر بالسوق، إن اتجاه عدد من الأشخاص إلى الاتجار فى لحوم الحمير، يعود بالأساس إلى رغبتهم الملحة فى تحقيق مكاسب سريعة من وراء تجارتهم غير المشروعة، خاصة فى ظل الارتفاع الجنونى فى أسعار اللحوم، حتى وصل سعر الكيلو الواحد لنحو 120 جنيها، وبحسبة بسيطة، فإن وزن الحمار يتراوح ما بين 150 و300 كجم، وسعره يتراوح من 400 جنيه و5000 جنيه، على حسب حالته الصحية، وإذا افترضنا أن الحمار يزن 300 كجم فإن صافى وزنه من اللحوم بعد ذبحه يبلغ ما يقرب من 200 كجم، وإذا تم بيعها للمواطنين على أنها لحوم بقرية فإن الأرباح التى يحققها العصابات تصل لنحو 24000 جنيه، مقارنة بـسعر الحمار البالغ على أقصى تقدير 5000 جنيه،.
انتقلت أزمة «لحوم الحمير» إلى مواقع «السوشال ميديا» وتداول عدد من نشطاء الـ«فيس بوك» مقطع فيديو يظهر مئات من الهياكل العظمية الخاصة بالحمير ملقاة، فى منطقة صحراوية واسعة، وادعى مصور الفيديو أنه تم التقاطه بصحراء طهما بمركز العياط، تتبع «اليوم السابع» مصدر الفيديو، ووصلنا إلى صحراء «طهما» التى تبعد 50 كيلو متر أقصى جنوب محافظة الجيزة، التقينا على مدخل المنطقة الصحراوية بعدد من العمال والسائقين وحدثناهم عن الفيديو.
يقول «محمود عثمان» 27 عاما، سائق سيارة نصف نقل، قابلناه على الطريق الصحراوى بطهما، إنه شاهد كميات ضخمة من الهياكل العظمية الخاصة بالحمير، ملقاة على أطراف الطريق الصحراوى بطهما، ولكنه أرجع تلك الواقعة لأكثر من عام مضى، مرجحا أن أجهزة الأمن تخلصت بالتعاون مع جهاز المدينة من تلك الهياكل وأزالتها بشكل كامل.
يوسف عبدالحميد، 15 عاما، يعمل مع والده فى نقل مخلفات البناء، ويقطن على أطراف صحراء «طهما»، يؤكد أنه شاهد منذ ما يزيد على أربعة أشهر، أرجل ورؤوس هياكل حيوانية، يشتبه فى كونها حميرا، منتشرة فى الصحراء أثناء إلقائهم شحنة مخلفات بناء فى المنطقة الصحراوية.
النائب البرلمانى عن مركز العياط بجنوب الجيزة محمود الحفنى، يقول، إنه تم الإيقاع بعدد من عصابات الاتجار فى لحوم الحمير، خلال الفترة الأخيرة بالعياط، وأحيلوا إلى النيابة للتحقيق معهم، وصدرت قرارات ضدهم بالحبس، مشيرا إلى أن هناك تنسيقا كاملا بين الأجهزة الأمنية بمركز قسم شرطة العياط، وبين جهاز مركز المدينة، وبينهم كنواب برلمانيين، وأنهم يحرصون على تتبع البلاغات التى ترد إليهم من المواطنين.
وعن اتخاذ صحراء طهما مركزا للتخلص من الهياكل العظمية الخاصة بالحمير، يقول «الحفنى»، إن أى عنصر إجرامى يسعى دائما لإخفاء جريمته فى مكان بعيد عن أعين الناس، والأجهزة الأمنية، وصحراء طهما وفرت لهم ذلك، حيث أنها تتميز باتساعها، وبعدها عن الرقابة الأمنية مما يسهل عليهم التحرك بسهولة وإخفاء جريمتهم دون الخوف من الملاحقات الأمنية.
خلال أقل من شهر واحد تمكنت الأجهزة الأمنية من ضبط 3 أطنان من جلود الحمير، وما يزيد على 350 حمارا مذبوحا بالقاهرة الكبرى والمحافظات، وذلك وفقا للبيانات الصادرة من مديريات الأمن المختلفة بشأن الضبطيات التى حققتها خلال شهر واحد.
ونشطت الأجهزة الأمنية فى المحافظات ولم تدخر جهدا فى سبيل الإيقاع بتلك العصابات، حيث تمكنت مباحث القليوبية من ضبط عربة نقل محمل عليها 19 حمارا مذبوحا، وتمكنت قوة من مركز شرطة كفر الزيات من ضبط مسجل خطر أثناء شروعه فى ذبح 16 حمارا، وضبطت الأجهزة الأمنية بمحافظة المنوفية سيارة نقل محملة بـ25 حمارًا مذبوحًا وحيًّا، قبل بيعها بالأسواق.
وكان لمديرية الطب البيطرى دور كبير فى سقوط عصابات الاتجار بلحوم الحمير، حيث تمكن قطاع الجيزة من ضبط لحوم حمير محملة على سيارة ربع نقل بأوسيم بداخلها حماران مذبوحان وجاهزان للتوريد، وكان للمجالس المحلية دور أيضا، حيث تمكن مجلس مدينة كفر الشيخ، بالتعاون مع مديريتى شؤون البيئة والطب البيطرى بالمحافظة، ومديريتى الرى بالغربية وكفر الشيخ، من العثور على 200 حمار نافق مسلوخ.
وعثر الأهالى بمحافظة بنى سويف على 7 حمير مذبوحة ومسلوخة، على طريق طراد النيل، وعثر أهالى قرية دنشال بدمنهور على 9 حمير مذبوحة بجوار ترعة القرية، وفى العاشر من رمضان عثر الأهالى على شكائر بيضاء بداخلها رؤوس حمير مذبوحة، وعثر الأهالى بشبين القناطر على بقايا حمير مذبوحة تم تشفيتها ورمى هياكلها العظمية، وأخرى مازالت حية بمنطقة الرشاح الكبير.
مصدر سابق بقطاع الثروة الحيوانية والداجنة، طلب عدم ذكر اسمه، كشف أن عصابات الاتجار فى لحوم الحمير، تعد تلك اللحوم لاستخدامها فى صناعة المنتجات المختلفة بعد فرمها، سواء الحواوشى، أو السجق والسوسيس والهامبورجر، لعدم قدرة المواطنين على تمييز اللحوم المستخدمة فى صناعة تلك المنتجات، ولا يمكن لهم بيعها على حالتها الطبيعية عن طريق الجزارين لسهولة اكتشافها.
وأضاف المصدر، فى تصريحات لـ«اليوم السابع»، أن عصابات الاتجار فى لحوم الحمير وضعت عربات الباعة الجائلين المنتشرة فى مناطق متفرقة بمحافظتى القاهرة والجيزة، هدفًا أول لها لعدم وجود رقابة على تلك العربات وسهولة التواصل معها وانخفاض الأسعار التى تبيع بها منتجاتها للمستهلكين، فضلاً عن سهولة تحركها بحرية تامة بعيد عن أعين الأمن، ويأتى بعدها المطاعم المنتشرة فى المناطق النائية وغير المعروفة، والتى تعمل تحت «بير السلم» دون غطاء قانونى أو شهادة صحية تقنن نشاطها.
وكشف المصدر عن وجود حمير يتم ذبحها تحت إشراف الهيئة العامة للخدمات البيطرية، وتذهب إلى الحيوانات المفترسة بحديقة الحيوانات، أما جلودها فتصدر إلى الخارج خاصة إلى الصين التى تستخدمها فى صناعة العقاقير الطبية، الخاصة بتقوية جهاز المناعة ومقاومة السرطان، أو صناعة المقويات الجنسية، وبعض منها يستخدم فى إنتاج المشغولات الجلدية لارتفاع ثمنها.
وأكد المصدر فى ختام حديثه، أن تحويل لحوم الحمير إلى منتجات غذائية لتقديمها للمواطنين فى المطاعم والعربات الجائلة، لم يأخذ شكل ظاهرة حتى الآن، والجهات التابعة لوزارة الصحة والطب البيطرى، تعمل بشكل جيد على مراقبة الأسواق، وضبط أى محاولات من شأنها التأثير على سلامة منتجات اللحوم التى يتم طرحها فى الأسواق.
شعبان سعيد المحامى بالنقض يؤكد أنه لا يوجد فى قانون العقوبات المصرى مادة صريحة تعاقب على الاتجار فى لحوم الحمير، ولكن جريمة الاتجار فى لحوم الحمير تقع تحت طائلة جريمة الغش التجارى والشروع فى بيع سلع غير صالحة للاستهلاك الآدمى على المواطنين بقصد التربح السريع.
وكشف «سعيد» عن أن الغش التجارى وبيع سلع غير صالحة للاستهلاك الآدمى يعد جنحة تصل عقوبتها، وفقا لقانون العقوبات المصرى، ما بين سنة و3 سنوات وغرامة مالية قد تصل لـ10 آلالف جنيه، وهى تقديرية للقاضى حسب عقيدته وحسب وقائع الدعوة المنظورة أمامه.
وأضاف، أنه قد يحصل المتاجر فى السلع غير الصالحة للاستهلاك على البراءة، إذا ما ثبت عدم نيته بيع تلك السلع أو أنها فسدت نتيجة عوامل طبيعية وليس له دخل فيها، واستقر فى ذهن المحكمة أن المتهم لم يكن على دراية بفساد تلك السلع، وهذا غير جائز مع المتاجرين فى لحوم الحمير، لأن الاتجار فى تلك اللحوم يكون بمحض إرادة المتهم.
البرلمان يتحرك لتغليظ عقوبة الاتجار فى لحوم «الحمير»
أزمة الاتجار بلحوم الحمير ألقت بحملها على مجلس النواب، وفى أول تحرك سريع لمواجهة الأزمة وتغليظ عقوبة المتهمين بالاشتراك فى تلك الجريمة، تقدم النائب اللواء بدوى عبداللطيف، عضو مجلس النواب عن حزب الوفد بدائرة ميت غمر بمحافظة الدقهلية، بمشروع قانون بشأن تعديل بعض أحكام القانون 48 لسنة 1941 بقمع الغش والتدليس، يجرم بيع لحوم الحمير والكلاب والقطط والبغال والتجارة فيها.
وتضمن مشروع القانون الذى أحاله الدكتور على عبدالعال، رئيس مجلس النواب، إلى لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية لمناقشته مادتين، تنص المادة الأولى منه على حظر وتجريم بيع وترويج لحوم الحمير والكلاب والقطط والبغال للاستهلاك الآدمى، وتحدد عقوبة مغلظة بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 7 سنوات، وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على 500 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، باعتبارها جريمة غش تجارى وتدليس.
يقول النائب «بدوى عبداللطيف»، إن ما دفعه للتفكير فى ضرورة وضع تعديل تشريعى؛ لتغليظ العقوبة على المتهمين بالاتجار فى لحوم الحمير أو الحيوانات الضالة الأخرى، هو انتشار ظاهرة الاتجار فى تلك اللحوم بشكل أصبح يمثل خطرا على الصحة العامة، والأكثر خطراً من ذلك أن هناك مطاعم كبرى أصبحت تلجأ إلى تلك اللحوم ضاربة بسمعتها وصحة عملائها عرض الحائط.
وأضاف «عبداللطيف» فى تصريحات لـ«اليوم السابع»، أن فى السنة الحالية كان هناك ما يقرب من 80 ألف حمار معدة للذبح لتصدير جلودها للخارج، وتقديمها كأطعمة للحيوانات المفترسة فى حديقة الحيوانات والمزارع الحيوانية المنتشرة بالقاهرة والمحافظات، إلا أن فى حقيقة الأمر ما تم تقديمه للحيوانات المفترسة بالفعل لا يزيد عن 12 ألف رأس حمير، أما باقى الكمية فتم بيعها لمحلات الأطعمة الفاخرة.
العدد اليومى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة