أكرم القصاص - علا الشافعي

محمود قرنى يكتب: "اتجاه المرج" رواية الاختصارات الزمنية أم رواية المحنة الشخصية؟

الثلاثاء، 04 أبريل 2017 06:00 م
محمود قرنى يكتب: "اتجاه المرج" رواية الاختصارات الزمنية أم رواية المحنة الشخصية؟  اتجاه المرج

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ستتعدد البدايات كما تتعدد النهايات لمصائر مضطربة ومجهولة وقريبة المنال فى الوقت نفسه، عندما نكون بإزاء سردية على هذا النحو من البساطة المؤلمة، سواء كان ذلك على مستويات اللغة والمعالجة والأبنية أو على مستوى إدراك كاتبها لمفهوم الزمنية، البساطة هنا معادل لمفهوم الرواية الجديدة ربما على إطلاق الصفة، باعتبارها ترجمة غير أمينة لموقف ما بعد الحداثة، لاسيما فيما يتعلق باستهدافها فكرة جوهرية تستقصى نزع صفة الثبات عن الأشياء. من هنا لا أظن أن "على سيد على" فى روايته "اتجاه المرج" يفاجئنا وهو يتحول بأحداث شديدة المأساوية إلى مساحات من السخرية لا تمتهن معنى الألم فحسب، بل تحوله إلى مادة للتندر.

 

اتجاه المرج
اتجاه المرج
 

إن فكرة التهكمية فى الرواية الجديدة جزء من تفتيت المعنى بقصد إدراجه ضمن الأعمال التكرارية أو ضمن الأعمال ذات الصبغة الاعتيادية، ربما لذلك سنجد الكاتب، عبر النصف الأول من روايته ينقل لنا، بحماس شديد، قاموس الباعة الجائلين على ما فيه من شعبوية وإثارة وخفة، ليتحول من كونه نموذجًا للتعبير عن فئة مسحوقة اجتماعيًا إلى كونه تعبيرًا جماليًا عن شكل من أشكال الاستعراض والفرجة. يحدث ذلك وسط حركة محمومة للراوى فى أزمته مع إحدى الصحف التى يعمل بها، حيث تم ابتعاثه إلى تركيا لعمل عدة تحقيقات صحفية عن حياة جماعة الإخوان المسلمين هناك، لاسيما برلمانهم الموازى.

 

محمود قرنى
محمود قرنى
 
على سيد
على سيد
 

المضامين التى لم يفصح عنها الراوى هنا تبدو أشد بأسًا من تلك الأسباب التى أفصح عنها. والأحداث التى تبدو مشاهد منفصلة بين الرحلة إلى تركيا والحياة داخل مصر تبدو كذلك غير مفهومة، ليس بمعنى غموضها، بل بسبب عدم التماسها لمنطق ما. فلا نكاد نفهم سببا مباشرا لعدم كتابة الراوى تقريره الصحفى الذى كان عليه أن يقدمه عقب عودته من تلك الرحلة الصحفية. غير أن الصراع البؤرى لما وراء المشهد الروائى يتبدى فى الموقف المستبطن الذى يقبع خلف الصوت الضاج لحركة الشخوص، وعلى رأسهم الراوى الذى ينطوى حراكه على الكثير من رفض واقعه بما فى ذلك واقع الجريدة التى يعمل بها، والتى تبدو كل أجوائها حقلاً لبيئة معادية. من ثم تتعاظم الرغبة الدفينة داخله فى عدم إنجاز التكليف المنوط به، ثم تتواصل الأزمة إلى أن يحال للتحقيق، ثم يتوقف التحقيق بعد تعهده بتقديم التقرير المطلوب. غير أن الرواية تنتهى دون أن يقدم الراوى شيئًا.

الملاحظة التى ربما تكون جديرة بالنظر هنا، أن الحدث المركزى فى الرواية يستغرق يومًا واحدًا على التقريب، منذ اللحظة التى يغادر فيها الراوى بيته فى الصباح للذهاب إلى مكتب المحقق وسط المدينة، ثم عودته إلى جريدته ولقائه متولى مدير التحرير وكذلك العديد من زملاء العمل. وتبدو التكثيفات الزمنية للحدث الروائى هنا معادل لذلك الوعى الضدى للزمن المفتوح المرتبط عادة بمساحات حركة الشخوص على ما هى عليه من تقلبات وسرعة ترتبط بزمن الحدث نفسه، وهو لاشك غير منفصل عن حراك مجتمعى ونخبوى لا يزال يحتفظ بصفة الثورية، لتتعزز فكرة الزمن كمكافئ لمفهوم الحقيقة أو كبديل لها فى بعض الأحيان، باعتبار أن الواقعية المفرطة لأبطال تلك السردية تسعى بطبيعتها للحلول محل أية تفسيرات ميتافيزيقية للحقيقة الإنسانية، لتجعل إنسانها، فى النهاية، هو الحقيقة الجازمة.


من ناحية أخرى، لا ينفصل مفهوم الزمنية هنا، فى تقديري، عن قاموس اللغة الشعبية فى الرواية باعتباره المعادل الوحيد لفكرة التهكم كواحدة من تجليات ما بعد الحداثة فى الفن، وإن شئنا الدقة فثمة لغة أخرى تتخلق فى الرواية تخلط بين النسق الشعبى والنسق التعيينى. النسق الشعبى يرتبط هنا بنقل المفردات الحية لحوارات لم تنحتها ذاكرة الراوى بل نقلتها نقلاً من أفواه صناعها من عامة الناس، مستهدفة صناعة نسق جمالى يتقصى العالم من أقرب مدركاته وهى اللغة المجردة فى أبسط تجلياتها، وكذلك اللغة التعيينية التى تبدو متجاوزة فى حسيتها أحيانا لحدود الحاجة، ومع ذلك تظل محتفظة بنبرتها الحادة وتعبيريتها الجامحة. على سبيل المثال: يقول الراوى وهو يحدث أصدقاءه عن الدعارة فى تركيا: «أنا شخصيا كنت هنام مع جثة آسيوية هناك بس مرضيتش تيجى معايا الفندق لما عرفت إن أنا صحفي». وفى موضع تال: «كنت هنام مع صاروخ أوكرانى بـ 150 ليرة». ثم نتابع مع الراوى وهو يوجه كلاما فى سره لزميله الإخوانى فتحى زميل العمل: «لخص يابن الوسخة»، وكذلك رسالة الرواى للمحققة الإخوانية التى حققت معه فى مكتب الاستشارات القانونية: «الإخوان ولاد وسخة وانتى عيلة تافهة ومجنونة».

وفى النهاية ترسم تلك اللغة بجانبيها الشعبوى والحسى نسقا معرفيا يعزز انحيازات الكاتب الجمالية المتعددة، تعزيزا لما تحدث عنه ميلان كونديرا من أن الرواية الجديدة وجه جارح لما بعد الحداثة فى نزعها صفة القداسة عن الأشياء.

موضوع الرواية يبدو نفسه بلا موضوع. وإبطال المعنى هنا جزء لا ينفصل عن تعزيز ما قاله كونديرا، وعلى نحو أدق غياب الحدث المركزى عن الرواية لا يعنى غياب القيم الفنية بل يعنى غياب الاعتقاد بقداسة الموضوع الروائى نفسه، لذلك سنجد أن ما يرصده الكاتب من ملاحظات مفصلية فى روايته فى مصر وتركيا، رغم محوريته، يبدو خارج الصراع المركزى للحدث الروائي.

سيتوقف الكاتب أمام التناقضات الرهيبة فى المجتمع التركى المنقسم بين خيارين أولهما الدولة العلمانية المدعومة من نصف الشعب بالإضافة للمؤسسات وعلى رأسها الجيش، وثانيهما الدولة الدينية ذات المرجعية الإمبراطورية المنتمية للدولة العثمانية والتى يدعهما النصف الآخر من الشعب دون دعم مؤسسي.

وبرغم ما يشير إليه الراوى من انتشار لصورة كمال أتاتورك فى الميادين العامة والشوارع الجانية والبيوت والنوافذ إلا أن تركيا النقيضة تبدو تجلياتها مختلفة أشد الاختلاف حيث أصبحت ملاذا للتيارات الدينية الفارة من أوطانها على ما قدمه الراوى لشباب من قوات فجر ليبيا الإخوانية الذين يعالجون ويعيشون فى تركيا، وكذلك إخوان مصر ومئات السوريين الذين فروا إلى هناك هربا من الحرب. ولا ينسى الراوى وسط ذلك أن يتوقف أمام مفردات يومية تكشف عن انحيازاته الفكرية مثل عنايته بزيارة بيت ناظم حكمت وعزيز ناسين واعتداده بالروائية التركية إليف شافاق، وكذلك حرصه على إقامة حوارات حميمة مع عازفى الموسيقى فى الميادين العامة، ثم تصويره للنساء الأرمن معلقات عاريات مشنوقات فى ما عرف بمذابح الأرمن فى تركيا، كذلك نقله الكثير من تفاصيل حى إكسراى التركى المخصص للدعارة. ثم توقفه أمام قصص تعكس تاريخا من الخسة لممارسات الإخوان فى تركيا عبر نموذجين دالين أولهما أحمد الحنفى المحكوم عليه بالإعدام فى أحداث المنيا والمسئول عن استخراج الإقامات فى تركيا للإخوان القادمين إليها. وشخص آخر يقوم بتأسيس موقع إخوانى بتمويل من أمير سعودي.

فى النهاية أستطيع القول إن رواية «اتجاه المرج» للروائى على سيد على تبدو نموذجا ضافيا للكتابة الجديدة بغض النظر عن وعيها الوظيفى بالتكوينات المعرفية والجمالية لرواية ما بعد الحداثة على ما أشرت فى تلك القراءة. وهى من هنا تحقق قدرا هائلا من المتعة لقارئها عبر لغتها الشفيفة والبسيطة وعبر سرودها التى تقف عادة فى حدود مدركاتنا وعبر استعادة حكاياتنا وأحلامنا التى تبدو مع بساطة السرد وكأنها أحلام قريبة المنال. ومع ذلك تبدو امتيازات السرد الجديد هى نفسها مزالقه، لاسيما إذا ما تأكد لكثيرين منا أن معظم تلك الأعمال مكتوبة على حافة المحنة الشخصية وتبدو المسافات بينها وبين التسجيلية شديدة التقارب. قناعتى أن الفنون عموما عليها أن تنتبه جيدا لمواقع أقدامها كلما اقتربت من كونها انعكاسا مباشرا لحدث يتم فى الواقع بنفس آليات رصده فى العمل الإبداعي. فثمة مسافة ستظل قائمة ما عاش الإنسان بين الفن كبنية جمالية وبين الواقع باعتباره المادة الغفل التى تحتاج إلى الكثير من التهذيب، هذا ما كان وما يجب أن يكون.









الموضوعات المتعلقة


مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة