دخل إلى منزله، وبسرعة التقطت «منة» زوجته لفافة اللحم لطهيها، دقائق تمر على الأطفال الذين يتجمعون حول الإناء ينظرون بشغف إلى قطعة اللحم الصغيرة، وهى تعلو وتهبط مع ارتفاع درجة حرارة الماء، إيذانًا بقرب طهيها، وفجأة تتحول ابتسامات الصغار إلى صراخ من جانب الصغير، وعويل من جانب والدته، بعد أن سقط الإناء عليه.. يهرول به والده إلى مستشفى قصر العينى، ويتم توجيهه إلى قسم الحروق.. أخبره الأطباء بأن حالته تستلزم البقاء فى المستشفى، وضرورة إحضار بعض الأدوية، وقال له الطبيب: «خللى بالك المرهم ده لازم تجيبه، متجيش من غيره، اعمل حسابك هايستخدمه فترة طويلة»، مشددًا: اسمه «سباكترا»، قالها له الطبيب وهو يقوم بإعطائه «الروشتة» التى احتوت عددًا من الأدوية.. بعد انصراف الطبيب يخبره أحد المصابين بأن المرهم المذكور سعره لا يزيد على 25 جنيهًا «بس هاتتعب شوية علشان تلاقيه».
كانت الكلمة السابقة بمثابة الإرشاد له لكى يقوم بالبحث فى الصيدليات الكبرى التى يكون لها أكثر من فرع، أو ما يعرف «بالسلاسل»، داخل إحداها يخبره الصيدلى بأن سعر المرهم المذكور يتراوح بين 170 للعبوة الصغيرة، و330 للعبوة الأكبر.. ظن أن الصيدلى قد وقع فى خطأ حسابى، أو لم يسمعه جيدًا، فأعاد عليه اسم الدواء، وذكر له السعر الذى أخبره به أحد المرافقين فى عنبر الحروق، لكنه يرد عليه: «اسمع كلامى خليك فى المستورد فاعليته أحسن وكمان المحلى مش هتلاقيه».
وبعد بحث مضنٍ استطاع الحصول على الدواء المحلى، ويخبره هناك أحد الأطباء بأن ذلك النوع أفضل بكثير من المستورد.
الدواء المستورد، وهو الوصف الخادع الذى يطلقه الصيادلة على الأدوية المهربة التى لا يتم إرسالها إلى وزارة الصحة لتحليلها وتسجيلها وتسعيرها، يُعرض بالصيدليات فى غياب تام من وزارة الصحة، وبالتحديد إدارة التفتيش بالصيدليات.
وبحسب الدكتور هانى سامح، مقرر ملف الدواء بمركز الحق فى الدواء، فإن الأدوية المهربة لم تقتصر على مرهم بعينه، أو صنف دوائى وحيد، بل هى قائمة طويلة تشمل عددًا من الأدوية المهمة التى لا غنى عنها، ومنها أدوية لعلاج الضغط والسكر والقلب والغدة الدرقية، إلى جانب عدد من الفيتامينات التى تباع بأسعار مضاعفة عن مثيلاتها من المنتج المحلى الذى يحتوى على نفس المادة الفعالة، ومنها «إلتروكسين» لعلاج ضعف الغدة الدرقية، ويتراوح ثمنه بين 60 جنيهًا تركيز 50 و75 جنيهًا تركيز 100، فى حين أن المحلى منه يباع بسعر يتراوح بين 7 و9 جنيهات، و«جلوكوزمينتاب» لعلاج خشونة المفاصل، ويصل سعر المهرب منه بين 70 و100 جنيه، فى حين أن المماثل له محليًا لا يزيد سعره على 14 جنيهًا.
ويسرد العديد من الأصناف منها «بنادول» و«ادفيل» و«سولبادين» أدوية مسكنات، و«اماريل» بتركيزاته المختلفة، و«دوانيل»، و«بيتولفكس» حقن، و«دى» حقن فيتامين «ب»، وأدوية لمرضى السكر، و«لازكس»، و«لازكس 500» أدوية ضغط، و«نوفادوكسين» أقراص للقىء، و«أرمادكس» أقراص للأورام، و«زولام» أقراص، و«بانادول» أقراص، و«تاينام» فيال مضاد حيوى، و«كونترلوك» أقراص وأمبولات، و«زانيكال» أقراص، و«لاكسوتنيل» أقراص، و«نولفادكس» أقراص للأورام، و«ميرونام فيال» مضاد حيوى، قائلًا: الأصناف السابقة بمختلف أنواعها تمثل جزءًا من قائمة طويلة تضم العشرات من الأصناف والأدوية المهربة، كاشفًا أن خطورة تداول تلك الأدوية دفع مركز الحق فى الدواء إلى التقدم ببلاغ إلى النيابة العامة حمل رقم 5240، متضمنًا أسماء 220 دواء غير مسجل بالوزارة، ويتم التعامل بها فى الصيدليات.
الحصول على تلك الأدوية المهربة وغير المعروفة المصدر أمر غاية فى السهولة، إذ يكفى الذهاب إلى الصيدلية للسؤال عن مستحضر الدواء، أو أن يقوم الصيدلى نفسه بعرض الدواء المهرب، أو من خلال خدمة التوصيل المنزلى، وما يطلق عليه الـ«هوم ديلفرى».
وخلال جولة فى عدد من الصيدليات الكبرى فى منطقة وسط البلد، وشبرا تبين انتشار بيع هذه المستحضرات، ففى صيدلية «م» تم السؤال عن مستحضر Glucosamine المخصص لعلاج المفاصل، والذى يصل سعره المحلى 14 جنيهًا، فأفاد الصيدلى بوجود ذلك المستحضر، ونصحنا بالحصول على المستورد الذى يتراوح ثمنه بين 70 و100 جنيه بزعم أن المادة الفعالة به أقوى من مثيله المصرى.
ورغم انتشار تلك التجارة التى لم تقتصر على الصيدليات الكبرى فقط، إنما تمتد لتشمل الصغرى منها، فإن العقوبات على تلك التجاوزات وفقًا للدكتور محيى الدين حافظ، رئيس شعبة صناعة الدواء باتحاد الصناعات، تندرج تحت عقوبة الغش فى الدواء، والتى تندرج تحت مسمى الغش التجارى، وعقوبته لا تتعدى الغرامة 10 آلاف جنيه والحبس شهرًا، وهى من وجهة نظره لا تمثل عقوبة قوية بشكل يمنع هذة التجارة بسبب الأرباح الهائلة التى يحققها المهربون.
ويضيف «حافظ»: رغم أن قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 الصادر سنة 1955 فى المادة 59 ينص على أنه «يحظر تداول المستحضرات الصيدلية الخاصة، سواء أكانت محضرة محليًا أو مستوردة، إلا بعد تسجيلها بوزارة الصحة العمومية»، فإن تلك النصوص تظل حبرًا على ورق، ولا يتم تفعيلها، لأنه لا توجد تحركات قوية من جانب الدولة تضع حلولًا فعالة لمواجهة هذة الظاهرة، وتقضى على العشوائية فى مجال الدواء.
انتشار هذه الظاهرة لا يرجع إلى ضعف التشريعات المعاقبة لها فحسب، إنما هناك أسباب أخرى، منها تواطؤ بعض الأطباء مع عدد من الصيدليات بتسويق تلك الأدوية، وكتابتها فى الروشتة المقدمة للمريض، وهو ما أقدم عليه أحد المستشفيات التابعة لأحد الأطباء المشهورين فى مجال النساء والتوليد فى منطقة المهندسين، والذى قام بكتابة روشتة كاملة من الأدوية المهربة، والتى حصلنا على نسخة منها.
ومن أسباب انتشار هذه الظاهرة العدد الكبير للصيدليات، والذى يصل إلى 170 ألف صيدلية بحسب مصدر بوزارة الصحة «رفض ذكر اسمه،» مقارنة بعدد المفتشين الذين يصل عددهم إلى 1000 مفتش لهم حق الضبطية القضائية.
«السم القاتل».. هو الوصف الذى أطلقة الدكتور هيثم عبدالعزيز، رئيس شعبة الصيدليات بنقابة الصيادلة، على الأدوية المهربة، مضيفًا: «كفاية إنك بتاخد دوا مش عارف مصدره»، مؤكدًا أن الصيدليات، والكبرى منها تحديدًا التى من المفترض وجود الثقة بها، تعمل على خداع البسطاء وإيهامهم بجودة الدواء المهرب، وزيادة فاعليته من أجل زيادة أرباحها، موضحًا أن هذة السلاسل تعمل فى حرية تامة رغم عدم قانونيتها، حيث إن القانون يحظر تملك الشخص أكثر من صيدليتين، مضيفًا «دلوقتى فيه أكتر من 40 فرع مملوكة لواحد بس».
من جانبها، قالت الدكتور هدى عبدالخالق، رئيس قطاع الصيدليات بمكتب وزير الصحة، إن ملف الدواء يأخذ اهتمامًا كبيرًا من جانب قيادات الوزارة، مؤكدة أن الاجتماعات لا تنقطع لوضع مقترحات وآليات للحفاظ على صحة المريض المصرى.
المريض المصرى ضحية الأدوية المغشوشة والمهربة..الأدوية المستوردة المهربة لا يتم إرسالها إلى وزارة الصحة لتحليلها وتسجيلها وتسعيرها
الأحد، 14 سبتمبر 2014 10:26 ص
مستشفى «نساء وتوليد» مملوك لأحد الأطباء المشهورين يعمل على تسويق تلك الأدوية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة