فى إحدى رواياته ذكر الروائى العالمى "جوزيه سراماجو" أن الأشياء العظيمة هى التى يكون لها ثلاثة أسباب، أما الكاتب التركى - العالمى أيضا - أورهان باموق فى روايته "اسمى أحمر" فيقول لك بأن "العالم تشكل من ثلاث حكايات".
حصل أورهان باموق على نوبل 2006 تتويجا لإبداعاته المتعددة التى بدأها بروايته الأولى "جودت بك وأولاده" 1982 والتى تركت صدى طيبا، ثم جاءت كتابته بعد ذلك "المنزل الهادئ" 1991، و"القلعة البيضاء" 1995، و"الكتاب الأسود" 1997، و"ورد فى دمشق" 2000، و"الحياة الجديدة" 2001، و"اسمى أحمر"، و"ثلج"، ولكن رواية "اسمى أحمر" احتلت قمة إنتاجه من حيث الفرادة والإبداع والكتابة المتميزة، حيث ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وكان من نصيب العربية أن ترجمها عبد القادر عبد اللى لدار المدى فى ترجمة رائعة بلغة متمكنة وانسيابية واضحة.
ورواية "اسمى أحمر" إطارها العام محير بعض الشىء، فلا تعرف هل هى إبراز لجمال زمن معين من حكم العثمانيين الذين كانوا يسيطرون على العالم، أم هى إدانة لهذا العصر الذى بدأت تنبت فيه طحالب وأعشاب التقليد للغرب الذى بدأ ينخر فى أصول الفن الإسلامى ويقسم العالم ويعيد استعماره من جديد، وذلك على مشارف العام الألف الهجرى.
لكن الملاحظ أن "عالم الرواية" المثير يقوم على الاختلاف والتباين والإدانة، فكل الشخصيات فى الرواية مشوهة ومأزومة فـ"شكورة" الجميلة الماكرة ضائعة بين أحلام كثيرة متناقضة، فقط هى تملك كابوسا مؤرقا يتكون من ولدين شقيين، وأب عجوز معتزل تقريبا، وزوج أخ طامع لا يتورع عن كسر بابها، وزوج غاب منذ أربع سنوات فى حرب لم نعرف اسمها كى نمجدها، وعاشق غاب اثنتى عشرة سنة لم يتمكن من روحها تماما، وفى النهاية سكنه جنى اسمه الحزن.
ومن ناحية أخرى "قرة" العاشق الذى قضى اثنى عشر عاما مثل درويش جوال يدفع ضريبة الحب، لم نعرف أين قضاها ولا كيف مرت عليه، كل الذى كان يؤرقه أنه لا يحمل فى جيبه طوال هذا الترحال رسما لحبيبته "شكورة" حتى نسى ملامحها تقريبا وتداخلت مع خيالاته عنها، وهو الآن بعد عودته لا يتورع عن التحايل وارتكاب الموبقات والتآمر بل والموت من أجل من يحب ، وأن يصير فى الوقت ذاته طيعا يأتمر بما تأمره به فى طاعة عمياء.
والنقاشون الثلاثة (زيتون وفراشة ولقلق) وأستاذهم "عثمان" نماذج للتناقض الذى يعيشه المجتمع فى تلك الفترة، حيث يتراوحون بين حدى الحب والعنف والقتل والصوفية والطمع والزهد والبخل والإسراف، بما يعكس طريقة تفكير نخبة مسئولة عن صناعة الجمال فى حياة الآخرين، لذا فالتشويه الذى اعتراهم كان طبيعيا أن ينتج جمالا مشوها ومتناقضا.
"اسمى أحمر" رواية فى نعومة الحرير ووخز سن خنجر مسموم، تتشكل من الثنائية القاتلة فى العالم؛ حيث الجريمة والحب، الوردة والسيف، العشق والكراهية، الألوان والدم، والإنسان يتشكل من كل هذه الثنائيات فهو واقع بينها متمثلة فى روحه، فكل شخصيات الرواية محصورة داخل دائرة من اللون الأحمر من الرومانسية والجرح، ربما لهذا التداخل نجد أن القاتل لم يكن يكره أيا ممن قتلهما، فلم تكن علاقته بـ"ظريف أفندى" أو "زوج الخالة" قائمة على موقف شخصى مادى، إنما كان لاختلاف وجهات نظر، بل الموضوع يصل حد التناقض فى دافع القتل، فقد قتل "زيتون" ظريف أفندى المذهب، لأنه قال إن النقاشين سيذهبون إلى الجحيم لأنهم يقلدون الغرب ويصورون الوجوه ويعلقونها كأصنام على حيطانهم، وقتل "زوج الخالة" لأنه يدافع عن الفن الغربى وقرر أن يرسم بهذه الطريقة الغربية التى يقوم بها البندقيون كتابه السرى الذى جاء بطلب من السلطان.
"اسمى أحمر" تخبرك بأن الله خلق العالم من ثلاث حكايات، وبالتالى الشىء الذى يملك ثلاث حكايات هو حقيقة، حدثت بشكل ما أو بطريقة معينة، لأنها تدخل فى إطار التواتر، فهى رواية تبحث عن فلسفة لوجود الإنسان وفهمه للأشياء وفهم جمالياته المتناقضة.
وإسطنبول فى هذه الرواية متفسخة تماما وضائعة فى ندف الثلج والظلام المحيط والبيوت المهجورة، جميعها يشبه بيت اليهودى المشنوق، لذا "اسمى أحمر" هى رواية مكان، وأورهان باموق عاشق إسطنبول كما صورها فى كتابه "إسطنبول"، وهو هنا يحولها إلى مسرح لمحاكمة الإنسان والعالم، حيث السلاطين فى قصورهم المتداخلة بخزاناتها التى تحوى العالم، وحيث "إستر" بـ"عدسها" الذى يكاد يلتصق بقاع إنائها و"صرتها" المهانة دائما على أيدى الصبية والنساء وبقدرتها الفائقة على قراءة رسائل العشق عندما تنظر فى وجه المحبين، و"المداح" بحكاياته التى تؤلب أكثر مما تسلى وتشرّح النفوس الخربة، والشيخ الأرضرومى بعبثه ورجاله المبثوثين كالعسس فى كل مكان، والنقاشين بتيههم العظيم وضياع نفوسهم بين المدارس المتعددة التى لا تحفظ لواحد منهم أسلوبا محددا ولا طريقة معينة وبحقدهم الذى توارثوه مع فرشاتهم وأقلامهم وألوانهم، وحيث الجريمة منتشرة فى سهولة الحياة وقسوتها، وإسطنبول شاهدة ممتدة على كل هذا العبث الإنسانى الأزلى.
"اسمى أحمر" حيث يتحمل كل واحد شهادته كأنما أؤتى كتابه الآن، فطريقة بناء الرواية المعتمدة فى كل فصل على اسم شخصية من الرواية والتى تبدأ بـ"أنا..." تعمل على بث اليقين فى الحكايات، لأنها بلغة المتكلم، لذا فالأفعال التى تمت لا سبيل إلى إنكارها لأنها بمثابة اعترافات، وبهذا تكون لحظات الضعف الإنسانى التى تشهدها الرواية مصحوبة بتبريرات واهنة أو قوية هى لحظات كاملة من الصدق الإنسانى.
وتظل "اسمى أحمر" تجمع بين صوفية الوجد ومادية الحياة، ويظل أورهان باموق يملك أسلوبا خاصا وصوتا مميزا فى تشكيل كتابته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة