مازال التاريخ، وسوف يبقى، معينًا لا ينضب من الدروس والعِبَر، يقدم لنا كل يوم خبرات جديدة، ويُفصح عن أجوبة لأسئلة معلقة، ويكشف حقائق تبدو أحيانا غامضة، وفى أحيان أخرى تظهر مشوشة، ويقدم لنا مبكرًا نتائج لم تزل فى رحم الاحتمالات بين ما قد يكون أو لا يكون، فالتاريخ الذى لا يعيد نفسه تتشابه أحداثه أحيانًا، فتلقى بضوء كاشف عما يجرى اليوم، وكأنه امتداد لما كان يحدث بالأمس.
وعندما تتلاحق جرائم الإرهاب خلال الشهور الستة الماضية، ومنذ ما قبل تفجير مديرية أمن الدقهلية إلى ما بعد تفجير مديرية أمن القاهرة، فتحصد عشرات المصريين ما بين قتيل وجريح، تقفز إلى الذاكرة وقائع مشابهة شهدتها مصر، وعايشها المصريون منذ ستين عاما بالتمام والكمال، فيما اصطلح على تسميته إعلاميا «فضيحة لافون» أو «عملية سوزانا» كما هى مسجلة فى السجلات الرسمية للموساد الصهيونى.
جرت وقائع «فضيحة لافون» المنسوبة إلى وزير الدفاع الصهيونى- آنئذ- بنحاس لافون، فى صيف عام 1954، عندما كانت مصر وإنجلترا تضعان اللمسات الأخيرة على اتفاقية الجلاء عن الأراضى المصرية، بعد احتلال دام لأكثر من 75 سنة، فوضعت المخابرات الصهيونية «الموساد» خطة العملية «سوزانا» متضمنة تفجير عدد من المنشآت المصرية، فيها بعض دور سينما ومؤسسات حكومية، وبينها مؤسسات أمريكية وبريطانية فى مصر، والهدف الذى سعى لافون لتحقيقه هو إظهار السلطة المصرية «بعد ثورة 1952» بمظهر العاجز عن السيطرة على الأوضاع فى البلاد وضبط الأمن فيها، ثم تعكير صفو العلاقات المصرية البريطانية - الأمريكية، وبما يمكن أن يدفع لندن لإعادة النظر فى الجلاء على مصر من جانب، ثم يلقى من جانب آخر ظلالا قاتمة على العلاقات بين القاهرة وكل من واشنطن ولندن، أو هذا ما أراده واضعو تفاصيل العملية «سوزانا».
ومن باب إنعاش الذاكرة، فقد بدأت وقائع العملية الصهيونية بإرسال رجل المخابرات الإسرائيلى الشهير أفرى إلعاد إلى مصر، وقد دخلها بجواز سفر لرجل أعمال بريطانى يحمل اسم «جون دارلنج» بهدف تجنيد عدد من الشباب اليهودى الذين ينتمون إلى الوكالة الصهيونية والتى كانت قد كرست جهودها آنئذ لنقل اليهود لإسرائيل، ونجح «جون دارلنج» فى الخطوة الأولى من مهمته، حيث شكل خلية برئاسة صمويل عازار ومعه الطبيب اليهودى المصرى موشيه مرزوق الذى كان يعمل فى المستشفى الإسرائيلى بالعباسية، وفيكتور ليفى وروبير داسا وفيليب ناتاسون ومارسيل فيكتورين نينو ومائير زعفران ومائير ميوحاس وإيلى جاكوب وتسزار كوهين وإيلى كوهين، ثم انضم إليهم الضابط الإسرائيلى ماكس بنيت الذى كان موجودا بالفعل فى مصر وقتها، وهو نفس الجاسوس الذى دبر تفجيرات بغداد عام 1951، ضد الجالية اليهودية فى العراق لزرع العداوة والكراهية بينهم وبين باقى العراقيين لحثهم على الهجرة إلى إسرائيل، وكان الاتصال بين الموساد فى تل أبيب وخليته فى مصر يجرى عبر راديو إسرائيل فى السابعة صباحا من خلال برنامج منزلى موجه إلى ربات البيوت، وكلمة السر، لبدء التفجيرات، هى «طريقة إعداد الكيك الإنجليزى».
كان مبنى البريد الرئيسى فى مدينة الإسكندرية هو أول أهداف الموساد، وقد انفجرت فيه يوم الأربعاء 2 يوليو 1954، ثلاثة صناديق «بريدية» وأحدثت أضرارا طفيفة، ثم انفجرت- مساء اليوم نفسه- قنبلة أخرى فى المركز الثقافى الأمريكى بالقاهرة، وكانت مفردات الخطة تقضى أن يشهد الاحتفال بعيد الثورة «23 يوليو 1952» سلسلة انفجارات متلاحقة تمتد من دارى سينما ريو ومترو بالإسكندرية إلى محطة مصر وسينما ريفولى بالقاهرة، لكن مصادفات القدر شاءت أن تكشف أوراق الفضيحة قبل التنفيذ، فقد اشتعلت إحدى المتفجرات فى جيب العميل «فليب ناتاسون» المكلف بوضع المتفجرات بدار سينما ريو فأنقذه المارة لكن رجل شرطة تصادف وجوده فى المكان شك فى تصرفاته فاصطحبه إلى المستشفى بدعوى إسعافه، وهناك قال الأطباء إن جسم الشاب ملطخ بمسحوق فضى لامع وأن ثمة مسحوقا مشابها فى «جراب» نظارة يحمله بيده، ورجح الأطباء أن يكون الاشتعال ناتجا عن تفاعل كيميائى، وبتفتيش الشاب عثر معه على قنبلة أخرى عليها اسم مارون أياك صاحب محل النظارات، وجرى اعتقاله، فاعترف بأنه عضو فى منظمة هى المسؤولة عن الحرائق والتفجيرات، وعثر فى منزله على مصنع صغير للمفرقعات ومواد كيميائية سريعة الاشتعال وقنابل حارقة جاهزة للاستخدام وأوراق تشرح طريقة صنع القنابل، وهكذا تساقط عناصر الخلية الصهيونية واحدًا بعد الآخر.
كان الموساد الصهيونى ينتشى بإسالة دماء المصريين، ويراها وسيلة مناسبة لإرباك السلطة المصرية وإنهاكها، وإظهارها فى صورة العاجز عن حماية الوطن والشعب، ويمهد عبر مسلسل التفجيرات لإبقاء الاحتلال البريطانى، وتحريض واشنطن ضد سلطة 23 يوليو، وقد كان هذا مفهوما عندما يتعلق الأمر بالعدو الصهيونى فى مواجهة مصر، شعبا ووطنا، وهو ما يضع الجماعة الإرهابية التى لا تخفى نشوتها بإسالة دماء المصريين فى الشوارع، على قدم المساواة مع العدو الصهيونى.
وعندما يعبر بنا الزمن نصف قرن، ونقرأ وقائع ما يجرى فى مصر وخطاب جماعة الإخوان الإرهابية المرافق للوقائع، فلن نجد ثمة اختلافا يذكر بين ما كان يريده الموساد الإسرائيلى فى مطلع الخمسينيات، وما يدبره تلاميذ حسن البنا فى مطلع العقد الثانى من الألفية الثالثة.
كانت «منصة رابعة» بعد 30 يونيو 2013 تردد «سوف يتوقف الإرهاب عندما يعود مرسى للرئاسة» فيما بدا وكأنه رجع الصدى لما كان يدور من همس صاخب فى أروقة الموساد مطلع خمسينيات القرن الماضى «سوف تتوقف تفجيرات سوزانا عندما تسقط اتفاقية الجلاء»، وكان «الهدف واحدا» فى الحالتين، إسقاط سلطة انقلاب يوليو 1952 وتحريض القوى العظمى على مصر، ثم إسقاط سلطة انقلاب يوليو 2013 واستعداء العالم على مصر، وكانت دماء المصريين هى دائما الوسيلة، لا فارق يذكر بين الموساد الصهيونى والإخوان المسلمين.
يستعيد التاريخ وقائع متشابهة، فتتسع دوائر التماثل متجاوزة حدود تشابه الوقائع والأهداف والوسائل، لتشمل من يرسم تفاصيل الإرهاب، ويخطط لقتل المصريين، حيث كان جهاز الموساد يقف وراء فضيحة لافون، وبعد نصف قرن يجرى التخطيط لفضيحة الجماعة فى واشنطن وأنقرة والدوحة وتونس العاصمة.
ورغم الدماء التى سالت صبيحة يوم الاستفتاء «محكمة إمبابة» وعشية ذكرى الثورة، فإن ملايين المصريين تدفقوا على صناديق الاستفتاء يومى 14 و15 يناير، ثم إلى شوارع مصر وميادينها من أقصاها إلى أقصاها، يوم 25 يناير، فى ترجمة عملية لهتاف «عمر عصابة ما هزمت شعب» الذى اهتزت له أرجاء مصر منذ تبدت واضحة مخططات العصابة الإخوانية ونواياها فى أعقاب إعلان العار الدستورى «نوفمبر 2012»، وبما يؤكد أن الشعب المصرى هو الرقم الأصعب فى المعادلة، والذى لم تضعه أجهزة الأمن «من واشنطن وحتى الدوحة» فى حساباتها.
ومن قراءة الوقائع يتبدى لنا أن تشابه المعالم والتفاصيل لا يقف عند حدود الجريمة- الفضيحة، إنما يتجاوزها وصولا لنتائجها وتداعياتها، حيث فقد بنحاس لافون منصبه فى أعقاب اكتشاف الفضيحة، واهتزت أركان الكيان الصهيونى، وظنى أن تداعيات «فضيحة لافون الإخوانية» لن تختلف إلا من حيث اتساعها لتشمل كل من خطط ودبر ونفذ دون أن يضع فى اعتباره قدرة الشعب المصرى على تحدى الإرهاب وهزيمة مخطط تفتيت مصر وإعادة رسم خريطة المنطقة فى سايكس بيكو جديدة.
وما بين عامى 1954 و2013 كان الشعب المصرى دائما هو المنتصر.
للمزيد من التحقيقات..
مساعد وزير الخارجية: لا توجد أى صفقة لتبادل أعضاء السفارة بـ"أبو عبيدة".. تم إخلاء السفارة من الدبلوماسيين لحين توفير الحماية المناسبة.. الملحق المالى: تم اختطافى بـ10 سيارات واصطحبونى لمكان مجهول
وزير التعليم يكشف: دار الهيئة الهندسية للقوات المسلحة قدمت أقل عروض لبناء المدارس الجديدة.. وخفّضت تكلفة الفصل من 300 ألف إلى 180 ألف جنيه.. ويؤكد: حريصون على خفض النفقات دون النظر لمن سيبنى
حملة دعم القوات المسلحة تدعو للاحتشاد بالآلاف بميدان النصر.. وطرح أول استمارة لدعم الجيش.. وأهالى كفر الشيخ: المشير لبى نداء الواجب.. و10ملايين صياد يؤيدون السيسى.. والفلاحون صوتنا واجب وطنى
هانى عياد الجماعة الإرهابية تُعيد إنتاج فضيحة لافون قراءة الوقائع تؤكد أن تشابه المعالم والتفاصيل لا يقف عند حدود الفضيحة وإنما يتجاوزها وصولا لنتائجها وتداعياتها
الثلاثاء، 28 يناير 2014 07:33 ص
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة