كان الهدوء يخيم على المكان، رغم ازدحامه وكأن جميع المارة، قد اتفقوا على أن يقفوا على الحياد متذرعين بالصمت، تمر سيدة أربعينية تلتقط بعض الصور بهاتفها المحمول ليافطة كبيرة تحمل صور «شهداء 30 يونيو بالمنيل»، تتجه بعدها إلى أحد المحال، وتسأل صاحبها «أجيب منين صور الشهيد»، وبصوت متقطع «الله يرحمهم»، فيأتيها الرد: «هاتيها من على النت، أو استنى بالليل فيه شباب من المنطقة بيطبعوها»، تقف السيدة قليلا أمام محل الشاب ذى الـ29 عاما، تقرأ ما كتب على محله «استشهد عبدالله على يد الإخوان المجرمين دفاعا عن حى المنيل، اقرأ الفاتحة ونطلب الدعاء»، تمسح دموعا تساقطت من عينيها وتواصل السير.
هدوء حذر يسيطر على شوارع المنيل وبين السرايات وفيصل والكيت كات، لكنه لا يخفى ما تحمله أنفس الأهالى القاطنين بهذه المناطق من غضب شديد، اتهامات متبادلة بينهم وبين المعتصمين من مؤيدى المعزول فى ميدان النهضة أو أمام الحرس الجمهورى بأنهم السبب فى سقوط شهداء ومصابين من أهالى المنطقة أثناء «حمايتها»، بينما يرد المعتصمون من ناحية أخرى باستحالة تسببهم فى ذلك، وأن هناك من يفسد المشهد لإثارة العداء بين أهالى المناطق المحيطة بالاعتصام ليسهل فضه، وبين هذا وذاك يبقى «الدم» نارا تحرق صدور الأهالى الذين يشددون على تمسكهم بالثأر، وهو ما تجلى فى واقعة حرق محال «التوحيد والنور» بالمنيل وتحطيم أحد المحال المعروفة بانتماء صاحبها إلى تنظيم الإخوان المسلمين بالمنطقة، واستمرار المناوشات بين المواطنين وأحد الملتحين بمحيط الحرس الجمهورى، وكذلك اصطحاب ملتح حتى يخرج من منطقة بين السرايات آمنا حتى لا يتعرض له أحد الشباب الغاضب من وفاة صديق أو إصابة قريب.
كما اندلعت معركة بالأسلحة مع أحد المدافعين عن الإخوان، وتسببت فى غلق شارع فيصل بالجيزة وعشرات من الوقائع الأخرى التى تشير إلى أن الصراع أصبح يأخذ منحى ثأريا عنيفا.
يقول محمود صاحب أحد المحال بشارع المنيل: «عبدالله كان من أطيب شباب المنطقة، الجميع يعرفه ويشهد بجدعنته، أغلب الناس هنا معارضين لمرسى، يوم وفاة عبدالله سمعنا أن هناك مسيرة مؤيدة للمعزول متجهة إلى ميدان النهضة، هو يملك محل إكسسوارات بشارع المنيل، ومكنش ليه علاقة بالاشتباكات، جرى عليها أول ما سمع صوت ضرب نار»، صمت قليلا قبل أن يضيف: «عمر ما كان عندنا مشكلة مع الإخوان، ومش بنفرق بينهم وبينا، لكن الناس عندها حالة غضب شديدة ضد أى حد يبدى تعاطفا أو تأييدا لهم».
يحكى محمود ما حدث مع جاره «الجزار» والمعروف بتأييده للإخوان، الذى تعرض لاعتداءات الأهالى الغاضبين على محله لمحاولة تكسيره، ويضيف: «لولا أننا خرجنا للناس وقلنا لهم إنه ابن المنطقة وعمره ما يكون مؤيد للى يأذيها فتركته الناس».
رواية أخرى يحكيها مصطفى، صاحب أحد المحال بشارع المنيل، قائلا: «الناس مولعة عشان الحال اللى واقف، وإحنا فى موسم، وكل اللى كان بييجى المنيل عشان يشترى احتياجاته دلوقتى بقى يخاف ييجى بسبب الخوف من تجدد الاشتباكات، وإحنا ملناش علاقة بالاعتصام، وغضب الناس إنهم ييجو علينا».
يؤمن مصطفى أن اشتباكات المنيل وفيصل وبين السرايات يفتعلها أنصار مرسى لإسقاط شهداء ومصابين، وهو ما يمثل نوعا من الضغط على الفريق أول عبدالفتاح السيسى لتسوية مطالبهم، ويضيف «على جثتنا إن مرسى يرجع بعد ما أعطى الإشارة لمؤيديه بقتل اللى يقف أمامهم».
تعبر اتهامات مصطفى لمؤيدى مرسى، عن حالة التأهب التى تنتاب الأهالى ضد الآخرين، الأمر الذى جعل القوات المسلحة تتمركز أمام كوبرى الجامعة لتمنع احتكاك الطرفين، كما توقفت أية مسيرات عن التحرك عبر المنيل أو شوارعه خوفا من الاشتباك من جديد، الأمر نفسه الذى يسيطر على شارع فيصل بالجيزة، الذى وقعت اشتباكاته بنفس السيناريو، حيث تناوش أصحاب المحال مع إحدى المسيرات المتجهة إلى اعتصام النهضة ليتراشق الطرفان بالطوب والزجاج، والتى تشير تحقيقات النيابة إلى رد المظاهرات المؤيدة باستخدام خرطوش، ما أدى إلى سقوط المصابين.
عودة الحياة الطبيعية فى شارع فيصل، تشابهت إلى حد كبير مع منطقة المنيل، بعدما فصل شهر رمضان الكريم بين الجانبين، المؤيد والرافض لعودة المعزول، حيث ألهى المواطنين بشراء احتياجاتهم والانشغال بالاستعداد له، إلا أنك بمجرد أن تتحدث مع أحدهم حول الموضوع تجد أن التربص لم يعد خفيا، فيتردد على مسامعك استحالة أن تسير مسيرة تأييد أخرى فى الشارع من جديد، يقول أحدهم «مش هنسيبهم ييجوا يذبحوا فينا تانى»، فالرواية الشائعة بين المواطنين حتى وإن لم يشهدوا واقعة الاشتباكات أن «الإخوان كانوا يذبحون الناس فى الشارع»، رغم أن ذلك لم تكشفه تحقيقات النيابة والتى أوضحت أن المستخدم «طلق خرطوش».
أمين عبدالله، صاحب أحد المحال بمنطقة الطالبية، أوضح أن ما حدث فى الشارع نقل حالة الشحن من الجانب السياسى كاختلاف بين مؤيدين ومعارضين حول رئيس إلى معركة بين الأهالى نفسهم قائلا: «الناس هنا شايفة أنها لازم تاخد بتارها ومش بتفرق بين الأنصار أو القيادات اللى أدت بنا إلى هذا الوضع، وبين الناس العادية فى الشارع».
الأكثر سوءا كان فى منطقة بين السرايات، والتى تحولت إلى منطقة شبه مهجورة، أصحاب المحال بها إما مجبرون على إغلاقها بعد تضررها وتحطمها، أو أغلقوها فعلا خوفا من تكرار الاشتباكات، مع توقف حركة السير تماما فى شارع الجامعة الذى يغلقه الاعتصام من ناحية كلية الفنون التطبيقية، وتغلقه قوات الجيش والشرطة من ناحية كوبرى ثروت من جانب آخر، لتموت الحياة فى هذه المنطقة التى كانت تعج بآلاف الطلاب على مدار العام.
وفى شوارع المنطقة الداخلية، يختلف المشهد، بين أصوات القرآن الكريم التى تبثها سماعات سرادقات العزاء المنصوبة باستمرار وصور الشهداء التى ملأت المنطقة، حيث افترش الأهالى طرقات الشوارع وجلس الشباب فى مقاهيها، فأغلبهم أصبح عاطلا بسبب توقف مصدر رزقه الأساسى من مكتبات والمحال أمام الجامعة، حيث تربعت منطقة بين السرايات على قائمة المناطق الأكثر عنفا بين المعتصمين من مؤيدى المعزول وأهالى المنطقة، بعد مصرع العشرات، وإصابة المئات الأسبوع الماضى، بينما يظل عدد آخر من أهالى المنطقة مختفين يتهمون معتصمى الجامعة باحتجازهم فى حديقة الأورمان.
«الدم» هى الكلمة التى أطلقتها والدة عبدالعزيز، قتيل الاشتباكات، للقصاص من دم ابنها، قائلة: «أنا مش عايز غير دم اللى موت ابنى، الحكومة تجيبهولى، إحنا ناس غلابة رزقنا على الله، مش هنعرف نجيب سلاح زيهم ونضربهم، بس بينى وبينهم دم ابنى ليوم الدين»، تقول والدة عبدالعزيز إن ابنها لديه مشكلة فى «السمع والكلام»، وخرج فى هذا اليوم عقب بدء الضرب فجاءته طلقتان فى جنبه وظهره اضطر المستشفى على أثرها لاستئصال الطحال قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فى مستشفى بولاق العام.
وتضيف: «قالوا فيه واحد مات من عندنا اسمه محمد، فالناس جريت عشان تشوف اللى حصل، لقينا ناس كتير ملثمة وشايلين سلاح داخلين الشوارع وطلعوا البيوت عشان يضربوا على اللى تحت من فوق»، تستكمل «إحنا عمر ما كان عندنا مشكلة مع اللى بيأيد الإخوان أو يعارض، إحنا غلابة وملناش فى السياسة، والكل حاله واقف بسبب الاعتصام وساكتين، لكن ميدخلوش علينا ويموتونا».
الأهالى فى «بين السرايات» على قناعة بأن الاشتباكات تسبب فيها الاعتصام المنعقد فى ميدان النهضة، لتسمع روايات بأن اللجان الشعبية التى قاموا بعملها عند كوبرى ثروت لتفتيش السيارات القادمة بعد سماعهم بأن المعتصمين يقومون بتخزين أسلحة هى السبب فى أنهم خرجوا عليهم لكى يخيفوهم، يقول شقيق أحد المصابين «مسكنا عربية فيها سلاح وعربية تانية كانت بتحمل ناس قادمة من الأقاليم ولما توجهنا إليهم لتفتيشهم فتحوا علينا النار والعربية جريت بسرعة على مكان الاعتصام، وبعدها عدد من الملثمين جاء وهاجم المنطقة، إحنا مكنش قدامنا حاجة غير إننا ندافع عن أهلنا، كانوا بيدخلوا البيوت، كنا بنرميهم بالطوب وهما يردوا بالجرينوف».
إحدى السيدات تدخلت قائلة: «إحنا مش بطلجية، طول الاعتصامات اللى فاتت كانوا بييجو عندنا نفتحلهم بيوتنا يتوضوا ويصلوا ونجيبلهم مياه، بالعكس ولادنا كانوا بيسترزقوا منهم، بيدخلو الاعتصام ويبيعوا أى حاجة، لكن دلوقتى أى ملتح بقينا نمشى معاه لغاية ما يخرج عشان لو مشى لوحده الشباب من غضبهم ممكن يموتوه». آثار الحطام فى بين السرايات ما زالت موجودة فى كل مكان، بينما انطبعت على الحيطان آثار الرصاص سواء حيطان المحال أو أبواب المنازل، ورغم عدم قدوم أى جهة للتحقيق فيما حدث، فإن عشرات الشباب من أهالى المنطقة يتجمعون فى حالة تأهب، ظنا منهم أن الهجمات سيتم استئنافها مرة أخرى.
إمام ابراهيم، أحد المصابين بطلق نارى فى قدمه، يقول: «كنت أعمل سائقا، دلوقتى مركب مسامير وشرايح فى رجلى ومش عارف هشتغل تانى إزاى، لكن أنا بينى وبينهم تار، ضيعوا مستقبلى، اللى مسكنى قعد يقولى تعرف إيه عن الشريعة ووالدى كان يبعد عنى بـ2 متر، لكنه مكنش قادر يقولهم إنه والدى حتى لا يضربوه».
محمد جمال المتحدث الإعلامى لاعتصام الجامعة أكد أنه كالأهالى سمع أصوات إطلاق النار، فجرى على البوابات لاستقدام أى شىء للتحصين فجاءت سيارة مسرعة تجاه أفراد تأمين الاعتصام يستتر خلفها عدد من الملثمين الذين كانوا يطلقون وابلا من الطلقات الحية «الميرى» على حد قوله، مشيرا إلى أن المعتصمين ليس فى صالحهم استعداء أهالى المنطقة، وأن هناك من يندس ليخلق حالة من الكراهية بين الجانبين لفض الاعتصام.
الاتهامات المتبادلة بين الجانبين فى مختلف المناطق تنبئ بواقع خطير قد يأخذ منحنى عنيفا فى الفترة المقبلة، وتحتاج إلى أن تكون المصالحة السياسية التى يتحدث عنها النخبة أكثر تأثيرا فى أحياء القاهرة والجيزة، التى شهدت حروب الشوارع الأخيرة.
شهود بين السرايات
أدلى 12 مصاباً فى أحداث ميدان النهضة بأقوالهم لنيابة قسم الجيزة برئاسة المستشار حاتم فضل، والذين تم الاعتداء عليهم من قبل الجماعات المسلحة التى يرجح انتماؤها إلى الإخوان المسلمين عقب إعلان عزل محمد مرسى.
ضم فريق التحقيق كلا من أسامة ندا مدير النيابة ومصطفى عمر وأحمد مصطفى وكريم على وأحمد طلعت وكلاء أول نيابة قسم الجيزة.
وقال الشهود إن الأحداث بدأت بسبب محاولة عدد من الإخوان المسلمين المرور من المنطقة بسيارة مليئة بالأسلحة فمنعهم الأهالى مما دفع الإخوان لإطلاق النار على سكان المنطقة واحتجاز أحدهم وعندما حاول الأهالى تحريره قاموا بقتله ونشبت اشتباكات عنيفة.
ووجه المصابون خلال التحقيقات التى تمت بإشراف المستشار ياسر التلاوى المحامى العام الأول لنيابات جنوب الجيزة الكلية اتهامات لكل من الرئيس المعزول محمد مرسى وقيادات الإخوان المسلمين بإحداث إصابتهم والتحريض على قتل المجنى عليهم فى الأحداث وطالبوا النيابة العامة بضبط كل من له يد فى الأحداث وحرض عليها ومحاسبته.
اشتباكات أنصار المعزول تهدد بانفجار قنبلة «الثأر» فى أحياء القاهرة والجيزة.. أهالى «المنيل» يتحينون فرصة للانتقام من الإخوان.. و«فيصل» تتأهب ضد أى مسيرة للجماعة وتهدد بالانتقام من مؤيديها
الأحد، 14 يوليو 2013 03:00 م
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري
حسبنا الله و نعم الوكيل
كاذبون كاذبون كاذبون كاذبون