يناير
من بين أكوام الرمل والزلط لاح معطفك الرمادى الشهير، ألم تكن القطيعة نهائية وتامة؟ فلماذا تعود الآن إلينا؟ صحا الميت، على نفخة الصور الثانية على الفور، كمن يصحو فى غرفة نومه الخاصة على ضجيج ساعته المنبهة، لملمت عظامك وارتديت لحمك ولحقت بساعة الحشر، لم نصدق أعيننا، لكن الحارس العجوز أكد لنا أنه يراك كما نراك، وهمّ بوضع براد الشاى على النار، واصلنا نحن التحديق فى النار، متجاهلين اقترابك، تعرف أن هذه عادتنا الأثيرة حين تعلو الدماغ ويصير لها أجنحة، ونعرف نحن أن التحديق فى النار أمتع من الذهاب إلى السينما ومن قراءة الروايات، لأننا نختلق بأنفسنا الصور التى نشاهدها، ونرتجل لحظة بلحظة النص الذى نقرؤه، بالطبع كان النص المرتجل، شأنه شأن مشاهد الفيلم المتخيل، يتبدد ما أن يظهر، وهذا نفسه سر روعة هذه العادة.
لماذا تعود وقد سببتنا وهجرتنا قبل شهور؟ فكيف نغفر لك الإهانة، ونحن على يقين من أنك ستتكررها، بعد ساعات أو أيام أو أسابيع؟ ما هى إلا مسألة وقت ويعود إليك خوفك منا، هذا إذا كان قد غادرك أساساً، يعود خوفك إليك لا كما تعود إلينا الآن متوجساً ومتعثراً فى خجلك ومتلعثماً بالاعتذار، بل يعود خوفك إليك عفياً، مكتمل النمو، متلهفاً على الحياة.
ها أنت تبتسم ابتسامة عانس غطت البثور وجهها، تحتك بمراهق فى أتوبيس نقل عام، ليس شديد الازدحام مع هذا، لم تستجب لنافخ الصور إذن، بل خرجت من شرنقتك تحت إلحاح وسوسة شيطانية استمرت مقاومتك لها ما يقرب من العام، نحن مازلنا هنا كما كنا على الدوام، نحدق فى النار، قالت لك الوسوسة: قم، ابحث عن العيال، اذهب إلى المبنى الحكومى الخرب، فهم يسهرون هناك طوال الليل مع الحارس الصعيدى الذى يقاسمهم خبز يومهم من المخدرات، قم، فتش عن الصعاليك، كلاب الشوارع، لكى تتسلى وتوسع من فضاء روحك، على حسابهم. قم، العق من تجاربهم المجنونة ما يضخ الدماء فى شحوب أيامك ولياليك، دعهم هم يخاطرون بالجسم والروح، واستمتع أنت بمشاهدة طيبة، ابق آمناً مطمئناً.
اسمع، فى لقائنا الأخير قلت كلاماً جارحا جداً، سنحاول أن ننساه وستساعدنا النار على ذلك، أسميتنا الملاعين مدعى التمرد والثقافة، وقلت إننا حفنة لصوص مدمنون وألمحت إلى اختفاء أشياء ثمينة من منزلك. اسمع؛ لا تقاطعنا، هكذا قلت، وهذا الرجل الطيب كان حاضراً ويشهد والنار تشهد، طبعاً لنا حق عليك، لقد كنا نجلب لك الحشيش حتى غرفة نومك وأنت مسترخ مثل الباشا تقرأ عن معنى الموت والوجود، اعترفت بنفسك أننا نجحنا فى رفعك لحالة أقرب إلى النيرفانا حين جربت معنا دواء التوسيفان بعد المخدرات، ومع هذا لم تسمح لنا باصطحاب امرأة لمنزلك، لم يقل أحد منا أنك مخصى، ولكن هذا ما دافعت أنت ضده باستماتة، أمرك غريب، غريب حقاً.
اسمع، لقد خططنا للانتقام منك عشرات المرات، ولم تهن علينا، لأنك بصراحة لحمك طرى وتصعب على الكافر، فكرنا أن نحرق مكتبتك الضخمة، الأعز عليك من نور عينيك اللتين تقرأ بهما الموسوعات فى ليالى الشتاء، عينيك اللتين لم تجرؤا على التحديق فى النار معنا ولو مرة واحدة، تتعالى علينا بلا داع، لديك رهاب من النساء، ماشى، ومن جيرانك، ربما، ومن الشباب صغار السن، نفهم هذا، ومن الناس جميعاً، كيف تعيش أنت أصلاً؟ فكرنا أيضاً أن نلتقط لك صوراً فاضحة، بعد أن نعريك تماماً، ونعمل مجموعة بديعة نوزعها على الجيران والأصدقاء، فكرنا، نقول فكرنا، لأننا لم نتحرك من مكاننا هذا تقريباً منذ أن هجرتنا وأهنتنا، نحن نتأمل النار ونفكر، لكن – كيف – أنت – فى هذا كله؟.
وحتى قبل أن تهجرنا فنحن نعرف رأيك فينا، نعرف ونسكت. لقد قرأنا يومياتك كلها ذات ليلة، هل تخافنا إلى هذا الحد؟ لماذا تصر على معرفتنا إذن؟ هل كنت حقاً تخاف أن نغتصبك ذات ليلة أم تتمنى هذا ولا تدرى كيف تصرح به لنفسك؟ نحن لا نؤذى أحداً، الواحد يؤذى نفسه بيديه، لكن لنا عليك ألف حق، واسأل هذا الرجل الطيب الذى يعاملنا مثل أولاده، أو اسأل النار تقول لك إننا لم نتخذ ضدك أى قرارات، حتى الآن على الأقل.
مايو
يا الله! من يتخيل شيئا كهذا؟ مها؟ مها؟ هذه هى لعبة التحولات والمصائر، ومن النقيض إلى النقيض، استمتعوا يا شباب بدهشتكم قدر استطاعتكم، فبعد حين ستفقدون القدرة عليها، هل أنتم واثقون مما سمعتم؟ مها وضعت حقا الخمار والنقاب، وأدارت ظهرها للفن والحياة؟ زارتها بعض الصديقات من مدة قصيرة، وتأكدن، بل إنها دعتهن لما ألزمت به نفسها، لو وافقن لصار موقف البعض منا عسيرا، العزاب على الأقل، لكن أيتغير الناس هكذا فى طرفة عين، لا شىء يحدث فى طرفة عين، لكل شىء جذور ولكننا نغفل عن العلامات فى حينها، صحيح، فلم أنس بعد كلامها عن الأحلام العجيبة والشفافية وروح الوجود، وما علاقة أوهامها تلك بالسجن المؤبد؟ كأنك واثق من أنها أوهام، ثم أن مها لا سجنت ولا شنقت ولا نفت نفسها اختياريا، لقد استبدلت بحياتها حياة أخرى، صادف أنها لا تروق لنا وهذا بالتحديد هو سر استيائنا وذهولنا، ربنا يهدينا كما هداها، باب الهداية مفتوح أمامك على مصراعيه، فادخل بقدمك اليمنى، كل شىء بأوان، صارت أشباح الماضى تتلاعب حتى بالفنانين، أتقى عشاق للحياة والمباهج. يا جماعة المسألة مسألة وعى، الوعى ثم الوعى، ومها لم تبذل أى جهد لتبحث وتطلع، كانت مجرد بنت صوتها جميل،
بل أكثر من جميل، لم أنس بعد أحلامها العجيبة التى كانت تسردها على كلما التقيت بها هنا أو هناك، قالت إنها رأت السيدة العذراء ذات منام تقترب من فراشها وتنهال عليها بالقبل الحارة.
ما هذا؟ ميول سحاق مكبوتة؟ مها سحاقية؟ غير ممكن، فمغامراتها معروفة بالأوضاع، ولم نتشبث بأقرب الحلول دوما، لم لا تكون البنية تشتاق للعذرية والنقاء؟ ربما يضطر المرء للرجوع عن مشوار حياته كله، لكن هذا يتطلب شجاعة نادرة، صار من العسير على امرأة أن تجمع حاليا بين حريتها ونقائها، فهى إما شبح تابع بلا هوية أو تعتبر ساقطة، النقاء، النقاء، وكأننا صرنا فجأة كوم زبالة! لو أنها وجدت الحب لكفاها. لقد دامت علاقتها بإسماعيل ثلاث سنوات، لكنه كفر سيئاتها وابتزها، لم تر معه غير البهدلة وعمليات الإجهاض. إسماعيل الولد الذى كان يلعب جيتار؟ ألم يسافر إلى كندا؟ وقع على بنت كندية أخذته معها وأنقذته من هذا الجحيم، وقال لمها نحن لن نتفق أبدا. من يومها ولها كل يوم حكاية مع واحد جديد. كنت أراها طفلة حرمت الحنان، تصرخ فى صمت طلبا للحب والرعاية. ومع ذلك فقد كانت أنوثتها افتراضية، هذا لأنك تقدس أكياس اللحم البلدى شأن كل جياع هذا البلد، يا عم والله أنا لا أكره النحافة، ولكن ليس إلى هذا الحد، فمها يعنى لا تؤاخذونى قوامها قرودى، لا أرداف ولا نهود ولا يحزنون، فى رأيى، كان سر جاذبيتها الأول هو وجهها الغريب، وكأنه لتمثال مصرى قديم منحوت من جرانيت وردى صلب. ماشي، وسبحان من ركب هذا الوجه على ذلك الجسد. سرعان ما عدتم رجالا يتحدثون عن امرأة. وما كنا غير هذا من الأول، وأكثر ما يعجبنى فى وجهها عينيها الرماديتين، أهى صعيدية فعلا؟ يا سلام ! والرموش الكثيفة المقوسة، وعندى ضعف طبيعى أمام الحواجب المقرونة الشعثاء، بما يوحى بنفسٍ غجرية شريدة، لا تميل للفتلة والحنتفة، كله كوم وصوتها وحده كوم ثان، ما أن كانت تغنى حتى تتحول لمخلوق مدهش له أجنحة يرفرف بها لكنه لا يطير، سمعتها أول مرة بصحبة إحدى الفرق التى تقدم مزيجا من الألحان الشرقية والغربية، ولم تغن إلا الآهات والليالى مع الموسيقى، إنما بتنويعات بلا نهاية، وليلتها فُتنت بها، وأنا سمعتها تؤدى الموشحات الأندلسية بسهرة رمضانية، كان أداؤها سهلا وشجاعا، غير مبال بمن حولها وما حولها، كمن يغنى لحبيب ضائع بين النجوم التى فنيت من ملايين الأعوام. ما كل هذا الشعر والهيام؟ الحقيقة أنها خسارة. لكنها لم تأخذ الغناء مأخذ الجد أبدا، وكم أفسدت صوتها بالسهر والتدخين والشرب، أنت تعرف ماذا كان عليها أن تغنى لو سارت فى الطريق الطبيعى إلى الفضائيات والانتشار، ومن قال إنها لم تسع إلى هذا وفشلت؟ مازلت أراها طفلة حائرة بفنها وتفتقد الحب والأمان، لا تنسوا أنها حرة فى نفسها، هذا هو الأساس. لعلها الآن تنتظر عريسا ملتزما بلحية عظيمة وثوب أبيض قصير، ولد يكون بخيره لا تدخين ولا كحول ولا نسوان. من المنزل للجامع ومن الجامع للعمل. لا أظن، ضع فى اعتبارك أهلها وأفكارهم وظروفهم، ما هى إلا شهور ويصطادون لها شابا من أسرة طيبة، له وظيفة محترمة وبلا لحية، وإن كان يحافظ على الصلاة، ليتحول النقاب مع الوقت إلى حجاب عصرى بسيط على آخر صيحة. لكن مها ستضطر عندئذ أن تستعد قبل الزفاف الميمون بإجراء عملية بسيطة، تجنبا للفضائح. آخ، كيف فاتنا هذا الأمر؟ إياكم والخوض فى أعراض الناس يا شباب! نحن ننشد الوضوح والصراحة، وملعون أبو المظهر الكاذب. وكيف صارت مها بين يوم وليلة من هؤلاء الناس، وليست واحدة منا؟ ولو افترضنا أن دافعها لهذا السبيل كان سرا ربانيا بداخلها، ولو افترضنا أن طموحها الروحى ليس اكسسوارا زائفا لزوم حب الظهور، فكيف يتحول البحر الهائج فى نفسها إلى نبع ضحل، يسير محكوما بقيد العادة وكتب إرشادات الاستخدام التى لا يجب الخروج عليها؟ وما كان يمكن لها أن تفعل، وكل ما يحيط بها يدفعها لاتجاه واحد وحيد يعد بالخلاص من الهم والغم والخونة والمزيفين؟ أتسمون قراءة الكف والوجوه طموحا روحيا؟ لا تنس صوتها حين كانت تغيب فى نشوة الغناء، ففى تلك الأحيان أوشكنا أن نعترف لها بالقداسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة