لا أخفيكم سرا فقد كانت علاقتى بشوبان تشبه علاقتى بالرياضيات والكيمياء فى الثانوية العامة، لم أهتم بحياة هذا الموسيقى البارع ولا بتفاصيل كبيرة أو صغيرة عنه، حتى جاءت دعوة مهرجان أبوظبى 2010 والذى أعلن عن احتفاله بالمئوية الثانية لميلاد شوبان (1809 ـ 1849)، وبحكم المهنة والعمل قلتُ لابد من التعرف إلى هذا الرجل، ولم أكن أعلم أننى سأقع فى غرامه بعد أن قضيت سنوات عمرى الأربعين سكراناً بموسيقى عبد الوهاب والقصبجى والسنباطى، ومغرما بالشيخ ياسين التهامى وعباقرة الغناء الشعبى محمد طه وشوقى القناوى وخضرة محمد خضر، ها أنا مع شوبان أو شاعر الموسيقى، ها أنا اكتشف كائناً خفيفاً يعبر الحياة بسرعة ويظل خالداً كل هذه السنوات والحقب !، أخذتنى قصة حياته، غروره رغم هزال المرض المبكر، عشقه لبولندا، مرارة الحب وقسوته، الموت المباغت، وتعلمتُ درساً مهماً: فلن تحب الموسيقى أو تتعاطاها إلا إذا عرفت كيف ولدت تلك النغمات، كيف بكى البيانو وهو ينثر دموع عاشق للحياة يعرف أن الموت يقف على الباب !.
وصلتُ مطار أبو ظبى قبل الافتتاح بساعة ونصف الساعة، وفى الفندق تهيأت تماماً لمقابلة روح شوبان، كنتً أتعثر فى ربط الكرافت وأنا سارح مع شاعر الموسيقى فريديريك فرانسوا شوبان، أراه طفلاً معتل الصحة يسمع نصائح الأطباء وتحذيرات الأسرة فيعزف مقطوعة الألم، وأراه شاباً فى العشرين يواجه مرض السل بصدر ضعيف وواهن، بينما تواجه بولندا كلها الاستعمار الروسى بثوار لا يملكون السلاح فتدهسهم الدبابات، ورأيته يرحل إلى باريس ليكتب مجد بولندا الموسيقى، ويصبح ذلك الفتى الحزين صديقاً للكبار فى فن الرواية والشعر "فكتور هوجو، بلزاك، بودلير..".
وصلت مسرح قصر الإمارات فى الموعد، واصطفت الأوركسترا السيفونى للإذاعة الوطنية البولندية فى مهابة لتقدم أعمالاً مستوحاة من تراث"شوبان" الموسيقى، وسمعتُ صوت بولندا ينساب هادئاً، بينما مرارة المرض والضعف تصنع خلفية موسيقية، كانت المقطوعات تسجل نصفا من حياة قصيرة، ففى باريس اكتمل النصف الثانى الأكثر دراما، فما أن أصبح شوبان نجما كبيرا، حتى كان قلبه الواهن على موعد مع المتعة حين التقى الكاتبة المتمردة المسكونة بالعنفوان والجنون والعشق "أورور دوبان"و كان العالم يعرفها باسم "جورج صاند"، أماً لطفلين وعشيقة سابقة لدو موسيه، تشرب الخمر وتدخن السيجار وتتحدى مجتمعا كاملاً، وقبل كل ذلك هى سيدة قصر" نوهان" الذى تحول إلى أشهر صالون أدبى استقطب أعظم الأدباء والموسيقين.
وتذوق شوبان شهد المتعة فى حين كان شبح الموت يطارده، وقضيا سويا أجمل أيامهما فى جزيرة مايوركا الساحرة، جعلته ملكاً على عرشها وهتفت بموهبته فى كل مكان، وكتبتْ:" إنه لمن الممتع حقا أن يرى الإنسان يدى شوبان الصغيرتين وهما تمتدان لتسيطرا على مفاتيح البيانو.. ولكل أصبع من أصابعه الرقيقة صوت مميز، يجلس إلى البيانو ويحوله إلى حياة.. حياة حزينة كنفسه ومثل بلاده". لكنها فجأة ومثل كل الخائنات الجميلات أطفأت الأنوار وسحبت نفسها من حياته وتحولت إلى أفعى تلدغ بقسوة قلباً واهناً وضعيفاً، وأحرقت رسائله وأخفت كل أغراضه وكل ما يذكرها به، حتى قيل أنها وهبت البيانو الذى كان يستخدمه إلى أحد الرجال المجهولين.
عاش سنتين فقط بعد رحيلها.. تحرك جسده كالظل فى قاعات الكونسير بباريس.. ولم يكن يحيا منه سوى عقله وأصابعه، وكانت كلماته الأخيرة: "وعدتنى أن أموت يوماً بين ذراعيها فلماذا أخلت بوعدها"؟.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة