ترصد "نيوزويك" فى عددها الجديد حالة الشك والتحلل التى تجتاح دولة الملالى فى إيران، وكيف يدفعها ذلك إلى التنكيل بالخصوم السياسيين من كل الأطياف، واعتقال وإيذاء غير المسبحين بأفكار النظام من الشعراء والفنانين والصحفيين والمفكرين، الأمر الذى دفع الكثيرين منهم للمنافى الأرحم من معتقلات خامنئى.. من بين هؤلاء بطل قصة نيوزويك المراسل مازيار باهارى، الذى اتهمه رجال خامنئى بالتجسس لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والاستخبارات البريطانية والموساد، دفعة واحدة على خلفية تغطيته الموضوعية للانتخابات الإيرانية الأخيرة،وقضى تحت الاعتقال والتعذيب 118 يوما يسرد تفاصيلها فى التقرير التالى..
سجن إيفين، 21 يونيو 2009
(نحو الساعة العاشرة صباحا)
أجلسنى المحقق على كرسى خشبي، وكان مزودا بذراع يمكن الكتابة عليها، على غرار الكرسى الذى كنت أجلس عليه فى المدرسة الابتدائية. طلب منى أن أطأطئ عينى مع أنهما كانتا معصوبتين: "لا تنظر أبدا نحو الأعلى سيد باهارى خلال وجودك هنا ــ ولا نعرف كم سيدوم ــ لا تنظر أبدا نحو الأعلى". كل ما استطعت رؤيته من تحت عصابة العينين كان خفَّى المحقق الجلديين والأسودين، وقد أثارا قلقي. لقد قرر إجراء جلسة طويلة.
بادرنى بالقول: "سيد باهاري، أنت عميل لدى منظمات استخباراتية أجنبية". كنت قد لمحته عندما اقتادنى مع رجاله من السرير وأوقفونى قبل ساعات قليلة، كان ممتلئ الجسم ــ علمت لاحقا أن الحراس ينادونه "الرجل الضخم" ــ وكان أطول وأعرض مني، ورأسه كبير. كان لون بشرته داكنا مثل المتحدرين من جنوب إيران، ويضع نظارة سميكة. لكن الآن لا أعرفه إلا من صوته ونفَسه وعطر ماء الورد الذى يستعمله الرجال الذين يتوضأون بتقوى مرات عدة فى اليوم قبل أداء الصلاة إنما نادرا ما يستحمون.
استطعت أن أرى خفَّى «السيد ماء الورد» مباشرة أمام قدمي، كان منتصبا فوقي.
تمتمت: "هل تقول لى أى منظمة".
فصرخ: "تكلم بصوت أعلى". وانحنى نحوي، فأصبح وجهه على بعد إنش واحد من وجهي. وشعرت بنفَسه على بشرتي: "ماذا قلت؟".
كررت: "كنت أتساءل إذا كان بإمكانك أن تتلطف وتخبرنى ما هى هذه المنظمات".
فعدد أسماء المنظمات واحدة تلو الأخرى فى صوت منخفض إنما واثق "سى آى أيه، الاستخبارات البريطانية، الموساد، ونيوزويك".
صعقتنى ثقة السيد ماء الورد بنفسه. لم أكن أعرف آنذاك بالضبط لحساب أى فرع يعمل فى الحكومة الإيرانية المنقسمة. عند اعتقالي، كان مئات الآلاف من المتظاهرين يملأون شوارع طهران منذ أسبوع مدفوعين بالغضب من إعادة انتخاب الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد التى أثارت خلافا حولها. وقعت أعمال عنف. وقد مارست المليشيات المعروفة بالباسيج التى تستخدم الهراوات جزءا كبيرا من هذا العنف على المحتجين، نساء ورجالا على السواء. غير أن بعض المتظاهرين ردوا أيضا على العنف. وقد دعا المرشد الأعلى الإيراني، آية الله على خامنئي، إلى وقف الاحتجاجات، لكن لم يكن أحد واثقا فى تلك المرحلة من أنها ستتوقف. على الأقل، لا أحد خارج سجن إيفين كان واثقا من ذلك. أما السيد ماء الورد فكان حاله مختلفة.
اكتشفت لاحقا أننى اعتُقًلت على يد فرع الاستخبارات فى حرس الثورة الإسلامية. قبل الانتخابات فى يونيو، لم تكن هذه الفرقة فى الحرس الثورى معروفة كثيرا» فعندما كان الصحافيون والمثقفون يتصادمون مع السلطات، كانت وزارة الاستخبارات الرسمية هى التى تستجوبهم عادة. غير أن الحرس الثورى المسؤول مباشرة أمام خامنئي، كان يزداد قوة إلى حد كبير. شك كثر فى أن الحرس الثورى قام بتزوير الانتخابات، المؤكد هو أنه قاد حملة القمع التى أعقبت الانتخابات.
فرع الاستخبارات فى الحرس الثورى مسؤول الآن عن الأمن الداخلى فى إيران، مما يعنى أن جنون الارتياب التى تجتاحه باتت تغمر النظام بكامله. لايزال هناك لاعبون داخل النظام قادرين على اتخاذ قرارات عقلانية بشأن المصالح الدولية لإيران، فلو لم يكونوا موجودين، لكنت ما زلت فى السجن. غير أن الحرس الثورى يساهم فى تفاقم أسوأ الغرائز فى الجمهورية الإسلامية وانعدام الأمن فيها وشكوكها العميقة. بينما تحاول القوى العالمية إشراك طهران للتخفيف من التهديد الذى يشكله برنامجها النووي، من الضرورى أن تفهم هذه الذهنية والدور الذى يؤديه الحرس الثورى الآن داخل النظام الإيراني. لقد تعلمت الكثير عن الأمرين عندما كنت فى قبضة الحرس الثوري.
تعلمت من كل شيء داخل سجن إيفين، من الأسئلة التى طرحها السيد ماء الورد مرورا بالأجوبة التى كانت تدفعه إلى ضربى وصولا إلى التفاصيل الحسية. فعلى سبيل المثال، تفحصت خفيه وجاربيه الرماديين الفاتحين. فى إيران، غالبا ما ينتعل الموظفون الحكوميون متدنو الرتبة صنادل بلاستيكية رثة، وتكون جواربهم مثقوبة. فى ذاك اليوم الأول، أملت أن يكون السيد ماء الورد مجرد عميل صغير، مأجور يحاول أن يبدو مهما، أملت أن أجد ثقبا فى جوربيه، لكن لم يكن هناك ثقب وبدا خفاه وكأنه تم تلميعهما.
كان السيد ماء الورد لعنتى طوال 118 يوما و12 ساعة و54 دقيقة، لم يخبرنى قط باسمه ولم أر وجهه سوى مرتين. المرة الأولى كانت عندما قاد الفريق الذى اعتقلني، وقد رحب بى بالجملة الآتية "يمكن أن يكون هذا السجن نهاية الطريق بالنسبة إليك إذا لم تتعاون". وكانت المرة الثانية والأخيرة بعد الإفراج عني، والتحذير الذى وجهه إلى بألا أتكلم مطلقا عما حدث معى فى السجن، وقال إننى إذا لم أذعن، فسوف أُطارَد. قال مهددا: "نستطيع وضع الناس فى كيس أينما كانوا فى العالم، لا يستطيع أحد الهروب منا".
لم أصدقه. لا أصدقه. لكن الشك يظل قائما، وهذا ما أراده، هذا فى الواقع ما يريده النظام الذى يخدمه منا جميعا. إنهم أسياد الالتباس الذى يبثونه فى أوساط أعدائهم ومرؤوسيهم وأصدقائهم، وربما فى أوساطهم أيضا.
لو استطاع السيد ماء الورد، لهددنى طوال حياتي، لكن 118 يوما كانت كافية، لا أريد أن أكون أسيره بعد الآن.
تقاطع " عصر الولى " 21 يونيو 2009
(قبل الثامنة صباحا بدقائق قليلة)
جاء أربعة منهم بحثا عني. قالوا لوالدتى إنهم يحملون إلى رسالة، ثم أروها شيئا يشبه المذكرة وتبعوها إلى الداخل. أيقظتنى بهدوء: "عزيزي، جاء أربعة رجال من... مكتب المدعى العام؟ لا أعرف. يقولون إنهم يريدون أن يأخذوك معهم"، كانت نبرة صوتها هادئة. اقتيد والدى مرارا إلى السجن فى الخمسينات من القرن الماضى لأنه ناضل ضد نظام الشاه، فكانت تعرف ما يجب قوله.
التزم الرجال مدونة غريبة فى آداب اللياقة. خلعوا أحذيتهم عند دخول الشقة، ولاحقا بينما كانوا يفتشون غرفتي، رفضوا الشاى الذى عرضته والدتى عليهم. أخبرونى لاحقا أنهم لا يحبون أن يفرضوا أنفسهم على عائلات الأشخاص الذين يلقون القبض عليهم، حتى إن أحدهم اعتذر من والدتى لأنه استعمل محرمة ورقية ليمسح عرقه بينما كان يفتش فى أغراضى الشخصية. لكن الاحتمال بأنهم ربما يلقون القبض على شخص بريء لم يكن يقلقهم على ما يبدو. فى مطلع الثورة، أصدر آية الله روح الله الخمينى فتوى جاء فيها: "الحفاظ على النظام [الإسلامي] حيا هو المهمة الأهم التى تقع على عاتق المسلم". كانوا يعتبرون أنهم ينفذون بكل بساطة واجبهم الديني.
كانت لثلاثة من الرجال نظرات لطيفة، وكأنهم محاسبون. وكان من الواضح أن السيد ماء الورد هو الرئيس. كان يرتدى بذلة بنية وقميصا أبيض، وعندما دخل غرفتي، رمقنى بنظرة تفحص وكأننى فريسة، استطعت رؤية مسدس تحت سترته، لكن كان واضحا من الطريقة التى راح يحدق بها إلى أنه يفضل استعمال نظرته سلاحا كى يجعلنى أتسمر فى مكاني. وكان الهدف أن يستمر بالنظر إلى بهذه الطريقة حتى أنهار. قال لوالدتى مبتسما بينما كانوا يقتادوننى إلى الخارج: "لا تقلقي، سوف يكون ضيفنا".
كانت هناك خمس سيارات تنتظر فى الخارج، وكلها من دون لوحة. لم يكن أحد يرتدى بزة رسمية أو يضع شارات. بينما كنا نبتعد، سألت أحد معتقلى إذا كنا نتجه إلى سجن إيفين، فأجاب: "ربما نعم وربما لا". ثم أمرونى بأن أنزع نظارتى وأضع عصابة العينين. ألقيت نظرة أخيرة من حولي. كنا على طريق كردستان السريع ونتجه شمالا. كنا متوجهين حتما إلى إيفين.
بنى سجن إيفين فى أواخر ستينات القرن الماضي، خلال حكم الشاه، ليستقبل السجناء السياسيين الذين كانوا يوضَعون تحت حراسة مشددة، وسرعان ما أصبح مرادفا للأظافر المسلوخة عن الأصابع والعظام المكسورة، وكان معظم نزلائه الأوائل شيوعيين وإسلاميين. وبعد ثورة 1979، وضع الإسلاميون معتقًليهم إلى جانب الكثير من اليساريين الذين كانوا من قبل معهم فى الزنزانات، خلف القضبان، وقد استخدموا بعض التقنيات التى كان أسلافهم يستعملونها، إنما بفاعلية أكبر. فالكثير ممن تحملوا التعذيب خلال حكم الشاه انهاروا فى غضون أيام فى ظل الإدارة الجديدة للسجن.
قال لى حارس لدى وصولنا: "أهلا بك فى أبو غريب أو غوانتانامو أو أيا كان اسم ما تبنونه أنتم الأمريكيون". تحدث بلهجة آذرية، وبدا متقدما فى السن، فقلت له مبتسما: "لست أمريكيا، يا أخي". قال: "أنت تعمل معهم، فأنت واحد منهم إذن. لكن لا تقلق، ليس مكانا سيئا هنا". سلمنى العجوز إلى حارس فى مبنى آخر، وأُخًذت إلى زنزانتى.
أجريت ذات مرة مقابلة مع مليشياوى إسلامى سابق أصبح وزيرا فى حكومة، قال لى إن المشكلة لدى شرطة الشاه السرية هى أنهم كانوا يعتقدون أن بإمكانهم أن يجعلوا إرادة السجين تنهار عن طريق الضغوط الجسدية، لكن غالبا ما كان ذلك يزيد الضحية عزما وتصميما، وأضاف: "بعد الثورة، أتقن إخوتنا السبيل لجعل روح الشخص تنهار من دون استخدام الكثير من العنف ضد جسده". وبينما كنت أدخل زنزانتي، كنت أتساءل فى نفسى عن درجة العنف فى قوله "من دون الكثير من العنف".
نزعت عصابة العينين.
يقول القرآن إن إحدى أسوأ العقوبات التى ينزلها الله بالمخطئين هى جعل مقابرهم تضيق عليهم. كانت زنزانتى ومساحتها 20 قدما مربعا أشبه بمقبرة. كانت الجدران مصنوعة من رخام مستعار. كان لونها أبيض ضاربا إلى الصفرة، وكانت بنية الحجر تذكرنى ببشرة عجوز شاحبة وشفافة. كان يمكن رؤية عروق زرقاء مائلة إلى الرمادي. كانت الجدران نظيفة، وحتى خالية من أى بقعة ما عدا بعض الأقوال المأثورة التى تعبر عن تحد وقصائد فارسية مكتوبة بخط يد صغير ومبهم. كانت ثلاث جمل مكتوبة بخط أكبر من تلك التى كُتًبت به الجمل الأخرى: "يا إلهي، ارحمني"، "يا إلهي، أنا نادم"، و"أرجوك ساعدني، إلهي".
لندن، نوفمبر 2009
زوجتى باولا ترضع ابنتنا، ماريانا، البالغة من العمر أسبوعين، على الأريكة. تستمتع الصغيرة بكل قطرة حليب. لم يسبق أن بدت أم وولدها بهذا الجمال. ونصغى إلى واحدة من الأغانى التى ظلت تتردد فى رأسى فى إيفين، والتى ساعدتنى على عزل نفسى عما يجرى وإيجاد بعض السلام الداخلي. إنها أغنية Hey, Thatصs No Way to Say Goodbye ( طريقة للوداع) لليونارد كوهين:
أحببتك فى الصباح
قبلاتنا العميقة والدافئة،
شعرك على الوسادة
مثل عاصفة ذهبية نائمة.
أصبحت هذه السطور تجسد لى باولا، باتت جزءا من ملاذ موسيقى كامل قوامه كلمات الأغانى والألحان. الصمود قوامه أمور من هذا القبيل. شكرا لك، سيد كوهين.
سجن إيفين، 22 يونيو 2009
(نحو الساعة الرابعة صباحا)
أيقظنى حارس وقال لى إنه بعد صلاة الصباح، سوف ألتقى من جديد "الاختصاصي"، وهى التسمية التى يُطلَب من حراس السجن إطلاقها على المحققين. كانت هذه جلستى الثالثة فى غضون 24 ساعة.
عندما دخل السيد ماء الورد غرفة الاستجواب، سمعته يتثاءب. سألنى إذا كنت أريد نصف إصبع الخيار المقشر والمملح الذى كان يأكله. عندما رفضت، شعر بالإهانة وقال لي: "ماذا؟ أتظن أن المحققين لا يغسلون أيديهم؟" فقلت حسنا وأكلت.
أرادنى السـيد ماء الورد أن أخبره عن عشاء حضرته مع ثمانية صحافيين ومصورين فى منزل صديق فى طهران فى أبريل، قبل أسابيع عدة من الانتخابات. قال وكأنه يوجز قضيته فى قاعة المحكمة: "أنت جزء من شبكة أمريكية جدا، سيد باهاري. دعنى أصحح لنفسي: أنت مسؤول عن شبكة أمريكية سرية، مجموعة تضم من حضروا حفل العشاء ذاك".
تمتمت: "كان مجرد عشاء".
فقال: "أجل. عشاء أمريكى جدا. كان يمكن أن يحصل في... نيو جرسى أو مكان من هذا القبيل". وتوقف قبل أن يكمل: "نيو جرسى الخاصة بكم فى طهران".
كــانت غرابة الاتهـام مثيرة للاضطراب. نيوجرسي؟
"سبق أن ذهبت إلى نيوجرسي، أليس كذلك سيد باهاري؟" بدا أن الفكرة تغضبه كثيرا، وراودنى شعور بأنه ربما يرغب لسبب ما، فى سره، بالذهاب إلى نيو جرسي. أسوأ ما يمكن أن يحصل فى أى لقاء مع مسؤولين من الجمهورية الإسلامية هو أن يعتقدوا أنك تنظر إليهم بازدراء.
قلت له محاولا أن أبدو وكأننى أتبادل الحديث معه: "ليست مكانا جميلا جدا".
"لا آبه. لكنها كافرة بقدر الكفر الذى أردتم نشره فى هذه البلاد".
"أنا آسف. لست أفهم".
"كنتم تخططون للقضاء على دين محمد النقى فى هذه البلاد واستبداله الإسلام «الأمريكي». إسلام نيوجرسي". كان يبنى قضيته، ولم تكن لأجوبتى أى أهمية. قال: "أخبرني، هل كانت أى من النساء فى حفل العشاء تضع الحجاب؟"
"كلا".
"إذن لا تقل لى إنكم لم تكونوا تملكون شبكة أمريكية سرية. شبكة نيوجرسي".
ولدت فى طهران وعشت فيها طوال الأعوام الـ19 الأولى من حياتي، قبل أن أتوجه إلى كندا وبريطانيا كى أتابع تحصيلى العلمى وأبدأ مسيرتى المهنية صحافيا ومعد أفلام وثائقية. وقد عدت إليها عام 1998، وبدأت العمل فى إعداد الأفلام إلى جانب عملى مراسلا لحساب مجلة نيوزويك. لكن قبل سجني، لم أكن أدرك تماما الشك الذى يأكل الجمهورية الإسلامية من الداخل. يرى الحرس أعداء حقيقيين فى كل مكان حولهم، الإصلاحيين فى الداخل ومئات الآلاف من الجنود الأمريكيين فى الخارج. والأسوأ من ذلك هم الجواسيس العملاء المفترضون لبريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل الذين يفرض عليهم الحرس منطقهم الخائف وتاريخهم الذى أعادوا اختراعه. وحدهم المسلمون، وحدهم هم، ضحايا.
قد أكون على ما يبدو معد الأفلام الإيرانى أو حتى المسلم الوحيد الذى أعد فيلما عن المحرقة The Voyage of the Saint Louis in1994). أغضبت الفكرة فى ذاتها السيد ماء الورد، وقد عمل جاهدا لربطى بما أسماه "عناصر" يهودية وصهيونية. فى قاموسه، الأشخاص اليهود نادرون. هناك فقط "عناصر".
لا أعرف إذا كان السيد ماء الورد قد رأى شخصا يهوديا فى حياته. لا أظن ذلك. كما أنه لم يذهب قط إلى نيو جرسي. لكنه يعتقد أنه يعرف كل ما يجب معرفته عن هؤلاء الأشخاص وتلك المناطق، وكان إيمانه بحقائقه قويا لا يتزعزع.
سجن إيفين، 26 يونيو 2009
(بعد صلاة العشاء)
لم يكن السيد ماء الورد وحده. كنت أسمع صوت شخص آخر فى الغرفة، محقق آخر. كان يتذمر من أجوبتى المكتوبة عن أسئلة حول أشخاص مختلفين. عندما اقترب أكثر، رأيت أنه ينتعل حذاء أسود لماعا. وكان بنطاله مكويا بإتقان ومتغضنا. قال: "سيد باهاري، أجوبتك عامة جدا. نرجو أن تعطينا أجوبة أكثر تفصيلا". بدا أكثر لطفا من معذّبى المعتاد. كان الشرطى الصالح اليوم، صوت العقل.
"أكتب فقط ما أعرفه سيدي. وإذا أعطيتكم مزيدا من التفاصيل، يعنى ذلك أننى أكذب".
فقال السيد ماء الورد الذى كان لا يزال يلتزم الصمت: "حسنا، لدينا شريط فيديو مثير للاهتمام عنك، وقد يقنعك ذلك بأن تكون أكثر تعاونا". لم أستطع أن أتخيل ما هو مضمون الشريط، أهو شيء شخصي؟ شيء قد يلحق الأذى بأصدقائي؟ لكن... ذكرت نفسى بأننى لم أرتكب أى خطأ.
رأيت وميض شاشة كمبيوتر محمول من تحت عصابة العينين، ثم سمعت أحدا يتكلم. كان تسجيلا لاعترافات سجين آخر. قال المحقق الثاني: "ليس هذا. إنه الشريط الذى كُتًب عليه «جاسوس فى المقهى»". فتخبط السيد ماء الورد مع الكمبيوتر. تقدم الرجل الثانى لتغيير قرص الفيديو الرقمي، ثم سمعت صوت جون ستيوارت فى برنامج The Daily Show.
قبل أسابيع قليلة، كان قد سُمًح لمئات المراسلين الأجانب بدخول البلاد فى مرحلة الاستعداد للانتخابات. وكان بينهم جايسون جونز، "مراسل" البرنامج الإخبارى التهكمى الذى يقدمه ستيوارت. أجرى جايسون مقابلة معى فى أحد مقاهى طهران، متظاهرا بأنه أمريكى بطيء الفهم. وكان يرتدى ثيابا شبيهة بتلك التى ترتديها الشخصيات فى فيلم منخفض الميزانية عن المرتزقة فى الشرق الأوسط، مع كوفية فلسطينية ذات مربعات حول عنقه ونظارة سوداء. كانت "المقابلة" قصيرة جدا. سألنى جايسون لماذا إيران شريرة؟ فأجبت أن إيران ليست شريرة وأضفت أن لإيران وأمريكا فى الواقع الكثير من الأعداء المشتركين والمصالح المشتركة. لكن المحققين لم يهتما لما قلته, كانا يركزان على جايسون.
سألنى المحقق الجديد: "لماذا يرتدى هذا الأمريكى ثيابا مثل ثياب الجواسيس، سيد باهاري؟"
أجبت: "يتظاهر بأنه جاسوس. هذا جزء من برنامج كوميدي".
فصرخ السيد ماء الورد: "قل الحقيقة! ما المضحك فى الجلوس فى مقهى مع كوفية ونظارة شمسية؟".
بدأت أقلق: "إنها مجرد دعابة. ليس هناك شيء جدي. هذا غباء. أرجو أنكما لا تلمحان إلى أنه جاسوس حقيقي".
سألنى الرجل الذى يرتدى البنطال المتغضن: "هل تخبرنا لماذا اختارك صحافى أمريكى يتظاهر بأنه جاسوس لإجراء مقابلة معك. نعرف من معارفك وخلفيتك أنك أرشدتهم إلى أشخاص يجرون معهم مقابلات لبرنامجهم". أوقًف الإيرانيان الآخران اللذان أجرى جايسون مقابلة معهما ضمن تقريره وهما نائب رئيس أسبق ووزير خارجية أسبق قبل أسبوع من توقيفى فى سياق حملة القمع الكاسحة التى شنها الحرس الثوري. قلت وأنا أشعر بالضعف: "إنها مجرد كوميديا".
فسألني: السيد ماء الورد معلنا أن صبره بدأ ينفد مني: "هل تظن أنه من المضحك أيضا أن تقول إن هناك الكثير من الأمور المشتركة بين إيران وأمريكا؟" أمسك بأذنى اليسرى وبدأ يعصرها فى يده وكأنه يعصر ليمونة, ثم همس فيها: "هذا النوع من السلوك لن يفيدك. عفن كثر فى هذا السجن. وربما أن تكون واحدا منهم".
لندن، نوفمبر 2009
فى صباح "اعترافي"، استيقظت وأنا أدندن The Partisan (الحزبي)، وهى أغنية لليونارد كوهين عن مقاتلى المقاومة فى الحرب العالمية الثانية:
عندما تدفقوا عبر الحدود نبهونى بأن أستسلم، وهذا ما لم أستطع فعله» أخذت مسدسى واختفيت.
خطرت فكرة المقاومة فى بالى أيضا. لكن لماذا؟ كنت صحافيا لا مقاتلا من أجل الحرية. كان السجناء السياسيون فى إيران يُرغَمون باستمرار على الإدلاء باعترافات كاذبة. لطالما أدركت أنهم يتعرضون للإكراه، وكنت أتعاطف دائما مع الضحايا. ولا شك فى أن آخرين يراودهم الشعور نفسه حيالي. لكن حتى الآن، بعد انقضاء أشهر، تعصر التجربة فؤادي. أمضى والدى أربعة أعوام فى السجن فى ظل حكم الشاه من دون أن يطلب الرحمة. ماذا كان سيفكر عن ابنه الذى اعتذر من المرشد الأعلى بعد ثمانية أيام؟
سجن إيفين، 29 يونيو 2009
(بعد منتصف الليل)
كنت أغط فى نوم عميق عندما فتح حارس باب زنزانتي. "انهض! إنه وقت الاختصاصي!" لم يلق السيد ماء الورد التحية كالمعتاد، وقد سحبنى من حارس السجن وراح يجرني. قال: "انتهت التسلية!" ودفعنى بقوة مرات عدة إلى درجة أننى كدت أسقط أرضا، ثم أمسك بذراعى وبدأ يجرنى بسرعة، كان يتنفس بقوة ويكرر: "انتهى اللطف الإسلامي. أيها الجاسوس، سوف نريك ما نستطيع فعله بك. سوف ترى ما نحن قادرون عليه". وألقى بى داخل غرفة بدا لى أن فيها الكثير من الأشخاص الذين كانوا يتهامسون فى ما بينهم. وكانت تفوح منها رائحة العرَق وماء الورد.
فجأة علت التحيات فى الغرفة. أراد الجميع أن يلقى التحية على شخص راحوا ينادونه بـ"حاج آغا". يعنى اللقب حرفيا أن الشخص زار مكة للحج، لكنه يُطلَق على المتقدمين فى السن من المسؤولين الإيرانيين. أخذ أحدهم يدى ووضعها فى يد حاج آغا.
قال: "سلام، سيد باهاري. هل تعرف لماذا أنت هنا؟" بدا صوته مألوفا، مثل صوت مروًّج معروف للنظام يقدم برنامجا على التلفزيون الإيراني. لاشك فى أنه لم يردنى أن أتعرف إليه وطلب منى أن أبقى عينى معصوبتين بالكامل.
استدار جانبا وسأل أحدهم: "هل وصلت السيارة؟" ثم توجه إلى بالحديث من جديد: "سيد باهاري، يُشتبَه فى ضلوعك فى التجسس. كنت على اتصال بعدد من الجواسيس المعروفين". وذكر أسماء بعض أصدقائي، وهم فى معظمهم فنانون ومثقفون إيرانيون يعيشون فى المنفى. قال إن سيارة ستصل لتقلنى إلى وحدة لمكافحة التجسس، وهناك يستجوبوننى أكثر من 15 ساعة فى اليوم، وأتعرض لـ"مختلف التكتيكات" حتى أتكلم، ويمكن أن يستغرق التحقيق "بين أربعة إلى ستـــة أعوام". وقد يحقـق معى حتى الموت.
حرص حاج آغا على ذكر كلمة "إعدام" وكأنه يتكلم عن فنجان شاي. فى الواقع، أعقبها على الفور بالسؤال: "هل ترغب فى فنجان شاي؟".
أجبت: "شكرا". بالكاد استطعت أن أتلفظ بالكلمة. فقد غرقت فى التفكير فى والدتى وباولا وطفلنا الذى لم يولد بعد. كيف أمكننى زجهم فى هذا الوضع؟ وقلت فى نفسى إننى ابن سيئ وزوج سيئ ووالد سيئ.
قال حاج آغا: "إلا إذا" وتوقف مرة أخرى قبل أن يكمل "إلا إذا كنت مهتما بعقد اتفاق، سيد باهاري".
بعيد توقيفي، وإلى جانب اتهامى بأننى أعمل لحساب الكثير من وكالات التجسس، أصر السيد ماء الورد على أننى "العقل المدبر لتغطية الانتخابات من عملاء الإعلام الغربى فى إيران". عزف هذا الكلام على وتر خوف مألوف.
كان يحلو لآية الله خامنئى أن يحذر الإيرانيين من "ناتو ثقافي" يشكل تهديدا بقدر الناتو العسكري، ويقصد بذلك شبكة من الصحافيين والناشطين والباحثين والمحامين الذين يُزعَم بأنهم سعوا لتقويض الجمهورية الإسلامية من الداخل. كل من نزل إلى شوارع طهران فى يونيو يدرك أن الاحتجاجات التى تلت الانتخابات كانت عفوية، وحتى من دون قيادة. لكن من الواضح أن خامنئى والحرس الثورى اعتقدوا، أو على الأقل أرادوا من الإيرانيين أن يعتقدوا، أنها كانت من تنظيم الأجانب. وصفوا المؤامرة بـ"الثورة المخملية" أو "الإطاحة الناعمة". قال السيد ماء الورد غاضبا فى ذلك اليوم الأول: "أنتم أسوأ من المخربين والقتلة، أولئك المجرمون يدمرون غرضا أو شخصا. أما أنتم فتدمرون العقول وتحرضون الناس ضد المرشد".
هناك كلمة شاعرية جدا فى الفارسية، jafaa، تشير إلى كل الأخطاء التى ترتكبها بحق من يحبونك. وبحسب السيد ماء الورد، كنت مذنبا بارتكاب خطأ بحق خامنئي، وعلى الآن أن أتوب.
فى الصباح التالي، اقتادونى إلى مكتب حاج آغا. وكانت كاميرات موضوعة على ركائز. جلس السيد ماء الورد خلف ستارة وراح يلقن الأسئلة لمراسلين من ثلاث وسائل إعلامية تديرها الدولة. أعطانى حاج آغا تعليماته: "أجب بوضوح ودقة قدر المستطاع، مستخدما بالتأكيد عباراتك الخاصة". كان على أن أشرح كيف جرى التحضير لثورة مخملية من قبل الأجانب والنخب الفاسدة عبر استخدام الإعلام الغربى وكيف أن حكمة المرشد الأعلى وكرم أخلاقه كانا كفيلين دون سواهما فى إحباط هذه المحاولة الأخيرة.
حاولت أن تكون أجوبتى مبهمة قدر الإمكان أملا منى فى أن ينم كلامى عن تجرد ساخر فى الرأي. (قال لى مصدر فى وزارة الاستخبارات السابقة لاحقا إن مناجاة نفسى كانت تصلح لتكون بمنزلة "دراسة حالة فى عدم قول شيء"). وشعرت بالاضطراب فى داخلى عندما داعب أحد "المراسلين" السيد ماء الورد وحاول مساعدته على استنباط أسئلة أصعب لطرحها علي.
سجن إيفين، 4 يوليو 2009
(قبل ساعات قليلة من صلاة الظهر)
وعدنى حاج آغا بأنه بعد "الاعتراف"، سوف يُفرَج عنى سريعا. لكن فى المرة التالية التى رأيت فيها السيد ماء الورد القوى البنية، أغلق باب غرفة الاستجواب وبدأ يضربنى لأول مرة.
تشير بعض كتيبات الشرطة، حتى فى الغرب، إلى أن ضرب سجين بقبضة مغلقة هو اعتداء عليه، فى حين أن الصفعة بيد مفتوحة ليست اعتداء. ربما قرأ السيد ماء الورد دليلا من هذا القبيل. فقد راح يصفعنى بكفيه الضخمتين بقوة على عنقى من الخلف وكتفي. قلت محتجا بينما كنت أحاول حماية جسدي: "ظننت أن بيننا تفاهما سيدي!"
فصرخ: "أبعد يديك، أيها الجاسوس! تفاهم؟ وأى تفاهم أحمق يمكننا أن نعقده مع جاسوس مثلك؟".
استمر الضرب من تلك اللحظة حتى أواخر سبتمبر. لم يكن السيد ماء الورد يضربنى خلال طرح الأسئلة. بل كان يضربنى قبل طرحها أو بعده، ليرينى بكل بساطة أنه يسيطر على الأمور، وكان يتظاهر بأنه لا يستمتع بالأمر. فى مرحلة ما، قال لى إن السبب الأساسى وراء ضربه لى هو أنه غاضب: "ما فعلته، مازي، يجعل الدم يغلى فى عروقي. لا أريد أن أرفع يدى عليك، لكن ماذا تقترح على أن أفعل بشخص أهان المرشد؟" زعم أن والده كان سجينا سياسيا قبل ثورة 1979، وأن ممارسى التعذيب فى عهد الشاه اقتلعوا أظافر أصابع قدميه بهمجية شديدة إلى درجة أنه لايزال عاجزا عن المشى كما يجب، وكأنه يلمح إلى أنه يجدر بى أن أشعر بأننى محظوظ.
لم أكن أشعر بأننى محظوظ. فمرة أو مرتين فى السنة، يصرعنى صداع نصفى قوى جدا. كان السيد ماء الورد يعرف ذلك، نظرا إلى الأدوية التى أحضرتها معى إلى إيفين، وكان يستمتع كثيرا بضربى على مؤخر رأسي.
لكن أكثر ما كنت أكرهه هو عندما ينادينى "مازي". فقط أصدقائى المقربون وأفراد عائلتى ينادوننى "مازي". اللقب مألوف وتوددي. لكنه كان يبدو بذيئا بصوته. كان السيد ماء الورد يقول لي: "أنا آسف حقا مازى لأن أيامك معدودة". ووعدنى بأنه فى المرة التالية التى سيرانى فيها، سأكون واقفا على كرسى مع حبل حول عنقي، وسوف يتولى شخصيا رفس الكرسى من تحتي. لم أكن لأعرف مسبقا موعد إعدامي، لكنه أكد لى أنه سوف يتم بعد صلاة الصبح، نحو الساعة الرابعة صباحا.
الغريب هو أنه بعد جلسات استجواب طويلة، كان السيد ماء الورد يفضى بمكنوناته أحيانا. كان يبدو وكأنه تعب من الصراخ ومن ضربى ورفسى وجلدى بحزامه، ويبدأ بالتحدث بطريقة غير مترابطة مثل سكير يعترف للساقى بعد طلب الكأس الأخيرة. قال لى ذات ليلة: "كان على الكثير من أصدقائى أن يطلقوا زوجاتهم. علينا أن نعمل حتى ساعة متأخرة، وأن نسافر من دون إعلامنا بالأمر قبل وقت كاف. تلقى الوظيفة بالكثير من الضغوط النفسية علينا. لا تقبل نساء كثيرات ذلك. أعشق زوجتي. أقبّل يديها وقدميها لأنها تتفهمنى وتتحمل عملي".
ذات ليلة قبل نحو أسبوع من بدء شهر رمضان الكريم، رن هاتفه الخليوي. كانت زوجة السيد ماء الورد. قال: "مرحبا عزيزتي. كيف حالك؟" كانت يده على عنقي. "ما أخبار قرص العسل؟" لا بد من أنها كانت تعد طعاما للعطلة. حرك يده نحو أذنى وبدأ يعصرها. وأكمل حديثه: "أعرف، إنه رائع، أليس كذلك؟ إنه أفضل بكثير من الذى حصلنا عليه العام الماضي... يسرنى أنه أعجب والدتك أيضا. كيف حالها بالمناسبة؟... حسنا عزيزتي، إنه طبيب» يعرف ما يقول... انتظرى لحظة". ضربنى على مؤخر جمجمتى بأقصى قوته وصرخ :"ألم أقل لك أن تدون الأجوبة اللعينة؟" ودفع برأسى نحو طاولة الكتابة الملتصقة بالكرسي. بدأت الكتابة من جديد. واصل الحديث مع زوجته: "لا أعرف كم سأبقى هنا الليلة. قد أنام هنا. لا تنتظرينى على العشاء". عاد نحوى من جديد، وضرب طاولة الكتابة بحزامه محدثا دويا، وصرخ: "اكتب!"
لندن، نوفمبر 2009
كانت الرضوض قد اختفت عند وصولى إلى لندن، غير أن باولا صُدًمت لرؤيتى هزيلا جدا. أحد الأمور الأولى التى وعدنى بها السيد ماء الورد هو أن يرسلنى إلى المنزل هيكلا عظميا. وقد كان محقا، لقد فقدت 25 رطلا فى السجن.
سرعان ما أدركت أنه يجب أن أكون بحال جيدة جسديا وذهنيا كى أتمكن من تحمل الاستجواب. على الأرجح أننى كنت أتمرن خمس ساعات يوميا فى زنزانتى الصغيرة. كنت أقوم بخمسمائة تمرين لعضلات البطن و60 تمرينا للضغط. وكنت أمارس اليوغا. كنت أتمدد على ظهرى وأرفس ساقى فى الهواء، وأدوّس.
سُمًح لى لفترة معينة بأن أمشى فى باحة السجن 30 دقيقة فى الصباح و30 دقيقة بعد الظهر. كانوا يضعون ستة أو سبعة منا قرب بعضنا بعضا، وكنا نسير ذهابا وإيابا مع العصابة على أعيننا. كان الحراس يسمونه هواخدي، أى تنشق الهواء المنعش. كانت هذه المرة الوحيدة التى أرى فيها السماء، عبر رفع رأسى نحو الأعلى واستراق النظر من تحت عصابة العينين. فى البداية، لم أعرف كيف يمكن المشى والعينان معصوبتان. لكن سرعان ما حفظت عدد الخطوات بين جدران الباحة، حتى إننى بدأت أهرول.
غير أن ملاذى الحقيقى كان الموسيقى. ذات مرة، بعد تعرضى لضرب همجى جدا، ابتلعت ثلاث حبوب للصداع وأغمى علي. رأيت امرأتين فى الحلم. كان وجهاهما لطيفين» فى الواقع ذكرتانى بشقيقتى مريم التى كانت قد توفيت فى فبراير بعد صراع مع سرطان الدم.
سألت: "من أنتما؟"
أجابتا: "نحن من أخوات الرحمة".
ولمستا جبينى بلطف لتخفيف الألم. ابتسمت فى الحلم وسمعت ليونارد كوهين ينشد أغنيته التى تحمل الاسم نفسه:
أوه أخوات الرحمة، لم يرحلن أو يختفين.
كن بانتظارى عندما اعتقدت أنه لا يمكننى أن أستمر.
وأحضرن إلى عزاءهن ولاحقا أحضرن إلى هذه الأغنية.
استيقظت وأنا أدندن تلك الكلمات، ولا أشعر بأى ألم على الإطلاق. منذ تلك اللحظة، أصبح ليونارد كوهين حارس عالمي. كان السر الذى لم يسـتطع السيد ماء الورد اكتشافه قط.
محكمة الثورة، 1 أغسطس 2009
(قبل الظهر)
كنت معصوب العينين بينما كانوا يقتادوننى فى السيارة. لم يخبرنى السيد ماء الورد إلى أين نذهب، لكنه أطلعنى على دوري. قال فى إحدى جلسات الاستجواب التى بدأ يجريها قبل بزوغ الفجر منذ هددنى بحبل المشنقة: "مازي، يمكنك أن تسدى خدمة كبيرة لنفسك ولبلادك اليوم". وصفعنى على مؤخر رأسي: "تريد أن تصبح حرا، أليس كذلك؟"
أجبت بهدوء: "أجل".
"إذن جل ما عليك فعله هو تكرار ما علمك إياه حاج آغا حول الثورات المخملية، فى مؤتمر صحافي". وراح يضربنى على ساقى إلى أن بدأتا تخزاننى من شدة الألم. "لكن هذه المرة نريد أسماء. نريد أن نعرف من هم عملاء الثورة المخملية. نريد أسماء، مازي. إذا لم تذكر أسماء، حبل المشنقة بانتظارك. مفهوم؟"
أثناء الانتظار فى قاعة المحكمة فى ذلك الصباح، لم تكن لدى أدنى فكرة بأن أكثر من مائة سجين ثيابهم مبللة وملطخة وعدد كبير منهم شخصيات إصلاحية بارزة ووزراء سابقون كانوا يجلسون فى قفص الاتهام فى غرفة مجاورة فيما كان أحد المدعين العامين يتلو عليهم لائحة طويلة وغريبة بأدوارهم فى الثورة المخملية المزعومة. وفى وقت لاحق، أُخرًج اثنان منهم ـــ نائب الرئيس السابق محمد على أبطحى ونائب وزير الداخلية السابق محمد عطريانفر ــ كى "يعترفا" بدوريهما أمام مراسلى وسائل الإعلام التابعة للدولة.
جاء دورى بعد الغداء. تناولنا كباب الدجاج وشربنا نوعا من شراب اللبن اللذيذ. أعطانى الســيد ماء الورد شرابه، قائلا إن عليه الانتباه لضغط دمه. وذكرني: "اسم، مازي، أسماء".
مجددا لم أدلً بأى أسماء. لا شك فى أننى أعرف الكثير من السياسيين الإصلاحيين، فهذا أمر طبيعى بالنسبة إلى أى صحافى إيرانى متمرس. فى الواقع، كان عدد كبير منهم أيضا ثوريين بارزين، وقد أدركوا مع مرور الوقت أن النظام الذى ساعدوا على إرسائه لن يتمكن من الصمود إلا إذا تم تحديثه. كانت هذه هرطقة للجيل الجديد من قادة الحرس الثوري. ظهر هؤلاء المتشددون بعدما أقنعتهم الحرب الإيرانية العراقية بأنه ليس لإيران أصدقاء فى الخارج بل أعداء فقط، وبأنها ترزح تحت وطأة قادة فاسدين وغير أتقياء. فى نظرهم، كان يجب تطهير الحرس القديم تطهيرا واسع النطاق تماما كما حصل مع أزلام الشاه.
كان واضحا أن السيد ماء الورد أرادنى أن أورّط هؤلاء الإصلاحيين، أن أربطهم برؤسائى فى وسائل الإعلام الغربية. وكان يجلس على منصة بجانبى سجين آخر: كيان تاجنجش، وهو باحث إيرانى أمريكى كان يعمل لحساب "معهد المجمع المفتوح" بإدارة جورج سوروس الذى يرى فيه الحرس الثورى عدوا لدودا. وكان حصولنا نحن الاثنين على ترخيص من الحكومة للقيام بعملنا يؤكد شكوك الحرس الثورى حيال المؤسسة الحاكمة الإيرانية. قال لى السيد ماء الورد ذات مرة: "من أعطوك إذنا أشد ذنبا منك".
عندما انتهينا، كنت أعرف ما الذى ينتظرنى فى إيفين. فى غرفة الاستجواب، ضربنى السيد ماء الورد من دون التفوه بأى كلمة. لم يكن عليه أن يشرح.
سجن إيفين، أغسطس 2009
يوما بعد يوم، وســاعة تلو أخرى، استمرت الاستجوابات وتحولت سوريالية فى رسمها لمؤامرة شنيعة ثم عودتها إلى مسائل أكثر حسية، مثل أسماء أشخاص عرفتهم أو ربما أعرفهم ومهنهم وآرائهم وروابطهم. منذ البداية، طلب منى السيد ماء الورد كلمة السر لكل من بريدى الإلكترونى وصفحتى على موقع Facebook، فأصبحت لديه لائحة طويلة جدا من المعارف ليستجوبنى عنهم الواحد تلو الآخر. ماذا أعرف عن صلات هذا الصحافى بمنظمات أو حكومات أجنبية؟ ما هو رأى ذلك الصحافى حول الأحداث فى إيران؟ وإذا كن نساء، هل مارست الجنس معهن؟
شغــل الموضوع الأخير بال السيـــد ماء الورد طوال أسابيع. كان شابا، فى منتصف العقد الرابع على الأرجح. أظن أنه كان يستعمل الجنس أحيانا لإذلالي. لكنه بدا أيضا وكأن لديه فضولا صادقا ليعرف عن شخص أمضى الكثير من وقته فى الغرب. سألنى ذات مرة كيف تعرفت إلى إحدى السيدات صديقاتي: قلت: "التقينا فى حفلة".
سأل: "حفلة جنسية؟"
صُدًمت، وقلت مترددا: "لا أعرف ما هى الحفلة الجنسية. لم يسبق أن حضرت واحدة".
فقال متهكما: "أجل، صحيح". كان مقتنعا بأن كل حفلة تقصدها النساء من دون حجاب لا بد من أن تكون فاسقة. قال إن أساتذته حدثوه عن الحب المطلق العنان فى الغرب. "لا يمكنك أن تقول لى إنه ليس باستطاعتك أن تمسك بيد أى امرأة فى الشانزيليزيه وتمارس الجنس معها". لقد مط المقاطع اللفظية فى كلمة "الشانزيليزيه" تماما كما فعل عندما لفظ كلمة "نيو جرسي".
كان هذا الهراء مرهقا. لكن كانت الأسئلة تحمل معها على الأقل احتكاكا بشريا. فأحيانا كان السيد ماء الورد يطلب من الحراس احتجازى فى زنزانتى لأيام متواصلة. وعندما كانوا يجروننى منها مع عينين غائرتين، كنت أتوق لأسئلته. فكرت مرتين جديا فى الانتحار عبر كسر نظارتى وشق معصمَى بكًسَر الزجاج. وتساءلت كم أحتاج من الوقت لأنزف حتى الموت.
سجن إيفين، 17 سبتمبر 2009
(نحو الساعة التاسعة صباحا)
قال لى السيد ماء الورد ذات يوم: "إنه لأمر غريب جدا أن أحدا لم يقل شيئا عنك حتى الآن. أليس لديك أصدقاء أو أقارب؟" فكرت فى أنه يكذب، لكننى لم أكن واثقا. أسوأ كابوس للسجين هو فكرة أنه أصبح منسيا. ثم ذات صباح فى سبتمبر، فتح الأكثر ودية بين حراس السجن ـــ كنت أتبادل معه دعابات بذيئة ــ باب زنزانتى وقال: "سيد هيلارى كلنتون، يمكنك أن تتنشق الهواء المنعش الآن".
شعرت بالحيرة. وسألته: "لماذا «هيلارى كلنتون»؟" قال: "تحدثت عنك ليلة أمس" مشيرا إلى ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية لنظيرها الكندى. شعرت بنشوة عارمة. عنى ذلك أن هناك ضغوطا دولية للإفراج عني. أردت أن أعانق الحارس. لكن بدلا من ذلك أخبرته واحدة من الدعابات الأكثر إضحاكا وبذاءة التى أعرفها.
كنت أتخيل من قبل محادثات فى ذهنى مع أصدقاء وزملاء أقدم فيها اقتراحات حول ما يجب فعله كى يتم الإفراج عني. ومع مرور الوقت، كانت تبدو عقيمة أكثر فأكثر. لكن فى سبتمبر، بدأت ألمس مؤشرات بأن الحرس الثورى يتعرض لضغوط من أجل إطلاق سراحي. أولا سمحوا لى بالاتصال بوالدتي، ثم تناول طعام الإفطار معها لمرة واحدة فى رمضان. ثم سمحوا لى بالاتصال بباولا، كى أنبهها إلى وجوب التوقف عن إعطاء المقابلات. (بوركت، فقد عرفت أن الرسالة تعنى أن عليها إعطاء المزيد من المقابلات).
بدأ السـيد ماء الورد يزعم أنه يريد الإفراج عنى قبل ولادة طفلنا فى نهاية أكتوبر التى كانت جزءا أساسيا فى الحملة الدعائية التى شُنّت من أجل إطلاق سراحي. قبل 11 يوما من الإفراج عني، نُقًلت من الحبس الانفرادى إلى زنزانة مع أربعة إصلاحيين بارزين بينهم عطريانفر. وكان لدينا جهاز تلفزيون.
قال لى مسؤول إيرانى مستاء من احتجازى أخيرا إن الحرس الثورى منعوا إطلاقى طوال أسابيع» وكان السيد ماء الورد بين أعلى الأصوات التى طالبت بمحاكمتى بسرعة وقسوة. أظن أنه لم يكترث قط لحملة الضغط المتعددة الطبقات التى أطلقتها نيوزويك وسواها من أجل الإفراج عني، الافتتاحيات والعرائض، الخطوات الدبلوماسية، الجهود الشخصية الهادئة لقادة عالميين. لكن كان هناك أيضا مسؤولون إيرانيون معترضون على احتجازي. ربما ترددوا أو لم يكونوا قادرين على فعل الكثير عقب الانتخابات. لكن بحلول سبتمبر، عندما أصبحت إيران على عتبة المحادثات النووية، بات بإمكانهم المحاججة بأننى أصبحت مصدر إلهاء. قال لى المسؤول المستاء: "كنت عائقا أكثر منه ورقة رابحة فى السجن".
ما زلت لا أعرف ما الذى أدى فى الختام إلى كسر الجمود. لكن بعد سنوات قليلة من الآن، عندما يكون الحرس الثورى قد رسخ موقعه، لست واثقا من أن هناك ما يمكن أن ينهى مأزقا من هذا النوع.
لندن، نوفمبر 2009
أنا متوتر إنما مبتهج بينما أطبع الكلمات على كمبيوترى المحمول:
لا تتصلوا بى من جديد. لم يسبق أن تجسست لحساب أحد. ولن أبدأ بالتجسس لحسابكم.
بعثت الرسالة بالبريد الإلكترونى إلى العنوان الذى أعطانى إياه السيد ماء الورد. فى الأيام التى سبقت الإفراج عنى من سجن إيفين، أرغمنى على توقيع وثائق يرد فيها أننى سوف "أتعاون مع الإخوان فى الحرس الثوري" عند خروجى من البلاد. أعطانى لائحة من الأسماء لأبلغ عن تحركاتها، وبينهم معظم أصدقائى الإيرانيين فى لندن ومدن غربية أخرى. وأعطانى عنوان البريد الإلكترونى الذى يجب أن أستعمله.
فى الليلة التى سبقت مغادرتى البلاد، طلب لقائى فى فندق فى وسط طهران. كانت نظرته تحمل تهديدا بقدر النظرة التى رمقنى بها يوم توقيفي. عندما قال له النادل إن الشاى الذى طلبناه سوف يتأخر، وإن المياه بحاجة إلى الوقت لتغلي، رمقه السيد ماء الورد بنظرة جعلته يتسمر فى مكانه. فجهز الشاى فى غضون دقائق.
تبادلنا حديثا مختصرا ومرتبكا. وقد اصطحب معه زميلا له، وهو رجل أكبر سنا سمعت صوته من حين لآخر خلال جلسات الاستجواب. قال الرجل بهدوء: "نأمل أن يكون لدينا تعاون إيجابى معك فى المستقبل". فابتسمت وأومأت برأسى بتهذيب. أما السيد ماء الورد فكان أكثر فظاظة عندما ذكرنى بأن باستطاعة الحرس أن يجدونى فى أى مكان فى العالم. كانت كلماته الأخيرة: "تذكر الكيس، سيد باهاري. تذكر الكيس".
أتذكر شيئا آخر بدلا منه. فى حلمي، عندما جاءت أختا الرحمة لنجدتي، ارتحت للتفكير فى أن إحداهما هى مريم، شقيقتى المحبوبة. وفى ذلك الوقت، تساءلت من يمكن أن تكون الثانية. الآن وأنا أحمل ابنتى الحديثة الولادة بين ذراعي، أعرف من تكون. اسمها ماريانا مريم باهاري.
جحيم إيران .. مراسل " نيوزويك " يرصد تفاصيل 118 يوما و12 ساعة و54 دقيقة فى المعتقل .. كيف يتفشى جنون الارتياب فى قلب نظام يزداد تصدعا
السبت، 28 نوفمبر 2009 09:40 م
"نيوزويك" ترصد جحيم المعتقلات الإيرانية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة