ننشر فصلاً من رواية "سمو الأميرة" للكاتب نصر رأفت

الأحد، 21 ديسمبر 2014 07:16 ص
ننشر فصلاً من رواية "سمو الأميرة" للكاتب نصر رأفت غلاف الرواية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم تفارق خياله لحظة، منذ أزال بقع الدم القانى من على وجهها الأبيض كنتف الثلج فوق جبل موسى فى يناير من كل عام، وبهاؤها الخلاب يسيطر على عقله وقلبه، يجاهد أن يتشاغل لينساها، وينحى التفكير فيها جانبا لكنه عاجز عن ذلك.

كريستينا.. كانت قد نطقت له باسمها بلكنة أوروبية فيها موسيقى ساحرة وسط ضجيج الحادث.. كريستينا.. فتاة رائعة الحسن، ذات بشرة حليبية، وشفتين متطابقتين رقيقتين شهيتين، وأسنان بيضاء خلقت من لؤلؤ صافى، ولها عينان زرقاوان يفوقان زرقة وجمال السماء فى ربيع مارس.. أهدابها طويلة تحرس العيون بحذر، ورأسها يكلله شعر ذهبى مسترسل كأسلاك الذهب الملقى على كتفيها.. بدت تلك الحسناء الأوروبية ملاكا هبط توا من السماء السابعة.. كانت ترتدى هذا الصباح ثوباً رمادياً هفهافا، ويحيط بعنقها الطويل الشاهب الأملس وشاح من قطن يغطى صدرها، ويشى بأنه صناعة مصرية من إنتاج مصانع المحلة الكبرى.

ابتسمت له وهى فى فراش المستشفى تتعافى من الكدمات الزرقاء الباهتة، والخدوش الخفيفة، هل كانت ملائكة السماء ترعاها فى اللحظة الشريرة التى أقدم فيها غسان على تفجير كل شىء؟! كيف نجت من براثن الحزام الناسف اللعين؟! كيف خرجت سالمة وتمزقت الحافلة بمن فيها ومن حولها؟! لابد أن وراء هذه الشقراء الأفرنجية سراً لا يعرفه أحد؟!

شغفه بها وبسرها وبجمالها جعله يرتدى قفاز العشاق لأول مرة فى حياته، ويدخل غرفتها رقم "505" فى الطابق الخامس بالمستشفى العسكرى الوحيد بالمدينة، حاملاً بوكيه ورد تتعانق فيه الألوان بانسجام تام بين الفل والورد والياسمين.. باقة واحدة، حملها على راحته، وقدمها لها فتهلل وجهها الحليبى، ولمعت زرقة عينيها، وهبطت ابتسامة ملائكية عن وجهها، وحاولت النهوض من الفراش لكنه أشار لها بأن تظل فى مكانها، حفاوة اللقاء أوحت للممرضة المغمورة فى الأبيض من أخمص قدميها حتى مفرق رأسها القائمة على خدمتها فى الغرفة بأنهما على موعد غرام اليوم أوغدا أوبعد غد!

أشارت إليه أن يجلس على كرسى أخضر بلاستيك بجوار الفراش فجلس وعلى وجهه علامات الارتياح لأنها تذكرته واستقبلته بترحاب لم يكن يأمله.

قبضت على بوكيه الورد بحنان بالغ، وقربته من أنفها الدقيق المنحوت بعناية فائقة والتقطت شهيقاً عميقاً وهتفت بإنجليزية كلمة واحدة:
- رائع!
ثم قالت بامتنان وهى تحاول أن تستعيد حروف اللغة العربية التى تعلمتها فى الأقصر:
- أشكرك على اهتمامك بى.. لأول مرة أحس أننى فى بلدى، وأن واحداً من الفراعنة الذين أحبهم منذ سنوات يحرسنى.
أطرق برأسه ناحية الأرض، كانت سجادة إيرانية مزركشة بمزيج من الأحمر والأزرق والرمادى تحت قدميه، ثم واصلت قائلة بحماس بلغة عربية بائسة لكنها مفهومة:
- أنا كريستينا – بلدى الدانمارك - وأحب مصر كثيراً.. لكن من أنت؟!
قبل أن يرد عليها قالت:
- أنا أعرفك رأيتك فى البر الغربى.
دهش:
- لكنى لم أذهب إلى هناك فى يوم من الأيام؟!
قالت كريستينا:
- رأيتك على جدران المعابد والمتاحف أنت أحمس.. سمرتك الفرعونية وشعرك المجعد قليلاً، يؤكد أنك هو.
ضحك بسعادة قائلاً:
- ليتنى كنت هو.. ليتنى عشت زمانه.. هذا بطل لا مثيل له.. طرد الهكسوس من مصر حتى هنا، وقهرهم على الأرض التى نقف عليها الآن.
قالت مقاطعة:
- أعرف أعرف كان هو مشروع تخرجى فى الجامعة.
قال:
- مشروع تخرجك.. هل درست الآثار المصرية؟!
- نعم فى جامعة كوبنهاجن، كلية الدراسات الشرقية والآثار المصرية القديمة وأعد رسالة الدكتوراة فى "موسى وفرعونه وآثارهما الخالدة فى أرض مصر".
- عظيم .. يا سيدتى.
عادت تسأل بشغف مشوب بالبهجة:
- لكن أنت أحمس بالفعل؟!
عاد يضحك ضحكه صافية:
- أنا طبيب عادى اسمى عبد الناصر أعمل هنا فى الوحدة الصحية فى منطقة نائية تبعد عده كيلو مترات عن تلك المدينة.
قالت كأنها تجرب الاسم بمرح:
- عبد الناصر.. عبد الناصر.. آه.. هذا زعيم مصرى كبير أيضاً.
- وهل تعرفينه هو الآخر؟!
- ألم أقل لك أننى درست التاريخ والآثار المصرية ؟!
- لكننى لا أراك ناصر الزعيم .. ملامحك المرسومة على جدران المعابد منذ 7 آلاف سنة تشى بأنك إن لم تكن أحمس فأنت أحد أحفاده .
سكت ولم يعلق محاولاً أن يكتم سره بين ضلوعه حتى لا يصدمها وقال :
- من يدرى يا كريستينا ماذا تخبئ الأصول والأعراف ؟!
وبكلمات رقيقة تمنى لها الشفاء، وسألها عن موعد خروجها من المستشفى فأخبرته بأنها ستخرج فى غضون يومين، وعندما أمسك بيدها مصافحاً إياها قبل الوداع إنتابته قشعريرة دافئة، أحس بأصابعها الرفيعة الطويلة التى لو ضغط عليها قليلاً لتلاشت، وتهشمت من فرط نعومتها ورقتها.
ملصت يدها من بين أصابعه، ودستها فى حقيبتها المغزولة من سعف النخيل، وأعطته " كارت " صغير يحمل اسمها الأول فقط ورقم الهاتف والإيميل .
التقطه بلهفة كما يلتقط الغريق طوق نجاته، وودعها وانصرف وهو مبتهج .
فى الطريق إلى الوحدة هاتف صديقه مسعد، وحكى له ما دار ثم تواعدا على اللقاء ليلاً .

***

التقى عبد الناصر مع مسعد ووافد جديد على عالمهما فى مكان استثنائى هذه المرة .. جابر الشرقاوى مراسل صحفى يعمل لحساب وكالة الأناضول التركية مكلف بتغطية الأحداث فى شبه جزيرة سيناء ..هذه البؤرة الساخنة من العالم .. تفجيرات .. متطرفين .. سياح أجانب .. جماعات مسلحة تسعى لاقامة امارة إسلامية هنا ..أنفاق سرية .. صحراء مترامية الأطراف .. اسرائيل على الحدود .. غزة فلسطين .. حماس .. الجهاد .
منطقة يراها أهل الأخبار والصحافة والإعلام بؤرة لحوادث تتصدر النشرات الإخبارية العالمية.
مرتفعاً عن الأرض، وضع لعالمه ملامح أخرى خارج حدود عالم البشر .. قريباً من السحاب أبعد ما يكون عن الناس، يحلق فى منطقة وسطى بين الأرض والسماء، يقبع ملاصقاً لكهف ناجى فيه سيدنا موسى بن عمران ربه فى لحظات التجلى النادرة، مواجهاً لتلال بيضاء تغطيها طبقات الجليد يخيم عليها الصمت الرهيب، هنا موقعه وحده بعيداً عن ضجيج البشر، وصخب الحياة التى تركها باختياره، ليستقر فوق قمة جبل كليم الله طوال 27 عاماً كاملة إنفصل خلالها ـ عبد الحميد حسونه السنارى ـ الرجل الستينى النحيل الأسمر المدموغ بصبغة الشمس، ولفحة الجبل عن حال أهل الأرض، وإكتفى بمتابعتها من أعلى فى عالم آخرلا يعرف سوى الصمت لغة، والسلام النفسى طريقة حياة دائمة .. قمة جبل النبى موسى هى منزله المتواضع ومستقره الروحانى المريح، وسور كهف المناجاة هو موضع فراشه، وصالونه البسيط لاستقبال زوار القمة الذين يقتفون أثر موسى عليه السلام، ويتوقون لسماع صوت الرب يتردد صداه هنا منذ مئات السنين .
أسند الرجل ظهره إلى كهف النبى معتدلاً على فراش مهترئ، بجانبه وضع بعض العلب الكرتونية لمأكولات، وعصائر بائسة يبيعها لمن نجحوا فى استكمال الصعود إلى القمة بين رحلة وأخرى .. أصوات متداخلة فيها نشاز أحياناً، وفيها انسجام أحياناً أخرى، وضحكات صاخبة وقبلات مسروقة، وغراميات ملهوفة ومخطوفة لأفواج من الزائرين تخرجه عن شروده الطويل العميق للحظات اعتادها لكسر ساعات الصمت يعود بعدها عم " عبد الحميد " لواقعه الهادئ الآمن .. شاى أو قهوة .. تبغ بدوى يعمر رؤوس المدخنين ويعجل بالسعال، أو حفنة من الأعشاب الجبلية يحركها عم " عبد الحميد " فى ماء ساخن يغلى، ويفوح بخاره إلى أعلى، هى ما يعرضه على الزائرين أثناء إلتقاط أنفاسهم بعد مكابدة مشقة الصعود، أريكة خشبية إعتلاها الكليم الباهت المهترئ من كثرة الإستعمال ومخاصمة الماء، وبقايا فحم مشتعل فى محاولة للتدفئة ليلاً هى كل ما يملك أن يقدمه لضيوفه مسعد وعبد الناصر وجابر الشرقاوى بجانب إبتسامته الصافية المجانية كالسحاب القريب من رأسه، وعروضه على الزائرين بقضاء الليلة فوق الجبل .. ببساطة تجاذبوا أطراف الحديث مع عم " عبد الحميد " حول أكواب من الشاى الممزوج بالأعشاب، وهو يهتف بود صادق :
- يا مرحبا .. يا أهلاً وسهلاً .. منورين الجبل يا باشاوات !
يدركون أنهم أمام ظاهرة غير طبيعية، يفتح جابر جهاز التسجيل الصغير الذى يشبه القلم الحبر، وكاميرا ديجيتال فى حجم كف اليد تصدر أضواء خاطفة أثناء التقاط الصور للرجل .
تنتهى ضجة الزائرين، تخفت الأصوات شيئاً فشيئاً، وتتلاشى فى سفح الجبل، يخيم الصمت فوق القمة، ويحكى لهم عم " عبد الحميد حسونة السنارى " حكايته الغريبة مع الجبل، والناس والنبى موسى بن عمران والسفاح اليهودى أرئيل شارون !
يقول الرجل وعلى وجهه تنعكس آثار دهشتهم :
- أنا صعدت الجبل من 27 سنة بالتمام والكمال، ومن يومها لم أنزل إلى الأرض، فمن يعيش هنا فوق، ويذوق طعم الهدوء والسكينة لا يهبط تحت أبداً !
يواصل عم عبد الحميد مفاجآته بلهجة بدوية محببة إلى النفس، ودافئة مثل أكواب الشاى وفناجين القهوة التى يقدمها، وضحكاته عند التندر بحكايات السهر فى ليالى ثلجية .
قائلاً بزهو :
- نحن الجبالية، يعنى أهل الجبل أمثالى، حياتنا فوق القمم، نتكسب رزقنا من السياحة التى لم تعد تجود بخيرها مثلما كانت فى الماضى، فى بداية صعودى هنا كانت أفواج السياح لا تنقطع عن الجبل، كانوا يأتون فى رحلات منتصف الليل حتى يشهدوا لحظة بزوغ الشمس .
كان الرجل مستمتعاً بتركيزهم وانتباههم لكل كلمة ينطق بها لذلك واصل بلاإنقطاع :
- المال لم يعد كالسابق ياحضرات .. الدنيا تغيرت بعدما أشعلوا فتيل الثورة السياح هربوا كلهم عادوا لبلادهم خوفاً من الموت هنا على ضفاف نهر الفوضى .. أنا أسمع فى " الراديو " الأحداث لحظة بلحظة، وأتمنى الاستقرار حتى يعود الزوار، ونقول للعالم إن هنا أمان .. وعلى كل حال نحن أبعد ما نكون عن مصر .. يقصد القاهرة !
يتوقف الرجل ليلتقط أنفاسه وصوت فلاشات الكاميرا يزعجه قليلاً، ويفاجئه عبد الناصر متسائلاً :
- هل تخاف وأنت وحدك هنا فى الليل، والعتمة يا عم عبد الحميد .. أنا سمعت أن الجبل مسكون بأرواح شريرة ؟!
يضع الرجل على وجهه إبتسامة لا تخلو من خجل :
- أسمع كثيراً عن حكايات زوار الليل الحالك، وأصحاب الأصوات الهامسة فى ظلام الجبل الدامس، وعن الرعب الممزوج ببرد القمة القارس .. معروف يا ولدى أن الجبل مسكون .. الجبل هو مأوى الجن .. هنا لو لم يكن قلبك من حديد يمكن أن تصاب بالجنون .. ساعات أسمع أصوات غريبة مفهومة وغير مفهومة، وساعات أسمع ضحك طبيعى، وضحك أقرب ما يكون إلى البكاء، وساعات أرى أشباحاً تكلمنى .. لكنى فى النهاية لا أؤذى أحداً على الاطلاق ولا يؤذينى أحد بإذن الله، وعندما يهاجمنى الخوف، وأشعر بالرغبة العارمة فى البكاء من الرعب أتونس بالكهف الذى ناجى فيه موسى ربه، فأرتاح ويتطاير الخوف هباء منثوراً كذرات الغبار فوق الرمال .
يهبط الزائر الأخير إلا الثلاثة، ينتهى صخب يوم الرجل الستينى يعود للصمت متمتماً بأدعية تكسر رعشه جسده بفعل البرد أحياناً، وحركات الظلام أحياناً أخرى .. أيام تمر كغيرها لتبقى حكايته هنا مع زوار الجبل والنبى موسى وشارون حكاية عمره ..
إنهمك جابر الشرقاوى فى التسجيل والتصوير كما لو كان قد عثر على كنز نادر .. لا ينسى دائماً أنه صحفى، فى جيبه " نوتة " ورقية صغيرة بغلاف بلاستيكى أزرق، وقلم حبر شفاف يكتب بمجرد اللمس، ويوثق كل مشاهداته ويلتقط الصور الفوتوغرافية والمتحركة بكاميرا " ديجيتال " عصرية دقيقة الحجم بارعة الإتقان !
تساءل مسعد :
- حكايتك مع الجبل وزوار اللليل من الأجانب والمصريين والأشباح وعرفناها يا عم عبد الحميد، وحكايتك مع نبى الله موسى وكهفه وعرفناها أيضاً.. لكن ما هى حكايتك مع شارون ؟!
ارتسمت علامات الدهشة وأمارات التركيز على قسمات جابر الشرقاوى، وأدرك بغريزته الصحفية، وشم بحاسة كلب بوليسى مدرب أنه يوشك على تحقيق صيد ثمين فى صورة سبق صحفى متفرد لوكالة الأنباء التركية التى يعمل لحسابها ..
تنبه أيضاً عبد الناصر على أن عبد الحميد حسونه السنارى يحمل بين ضلوعه "صندوق أسود" حافلاً بالأسرارالمثيرة، فرك يديه بحثاً عن الدفء واحتسى رشفة من كوب الشاى الذى تلاشت سخونته .
هز عبد الحميد حسونة السنارى رأسه قائلاً :
- ياآه .. هذه قصة غريبة وعجيبة، وطويلة تمتد لأكثر من قرن مضى من عمر الزمان تنهد الرجل بحرقه وواصل كلامه .. والصمت يخيم على الجميع، ولا نفس يتردد إلا أنفاس الريح تلفح وجه الجبل الشامخ فى إباء، والضوء الخافت المنبعث من القمر الراقد فى ركن قصى من السماء يثير الرهبة والخشوع فى المكان، ويلقى بالسكينة على عم عبد الحميد وصحبته :
- هل تعرفون أن رئيس وزراء إسرائيل الأسبق " أرئيل شارون " ينام فى بيتى الآن .. بالله عليكم .. كيف يغمض لى جفن أو أهنأ بحياة وهذا القذر يدنس شرف أرضى وعرضى ؟!
ألجمتهم الدهشة، ووقعت عليهم كلماته كصاعقة نارية من السماء هبطت فجأة من السماء ..
لم ينتظر منهم استفساراً أو تساؤلاً، كان يدرك أنه دخل فى المحظور، ويخطو فوق غابة من الألغام وعليه أن يمضى بحذر :
- لا تندهشوا ـ أيها السادة ـ لا تستغربوا ياباشاوات سأقول لكم الحقيقة، وأبوح لكم بالحلم الذى أحيا هنا من أجله .
- لا تتعجبوا فأنا أراقب " شارون " من هنا- وأشار إلى قمة الجبل العالية - لم أستطع الثأر منه حياً، ولن أيأس سأحاول الثأر منه ميتاً ! أنا صاحب حق .. ولن أتركه حتى أفنى دونه .. صحيح أن قطار العمر مضى وتجاوز كل المحطات تقريباً إلا واحدة، وهى محطة النهاية، لكننى لن أسمح لليأس أن يهزمنى .. أنا رجل ضد دولة عنصرية .. أنا مواطن مصرى بسيط فقير ضد حكومة متغطرسة مسلحة تقتل الأطفال فى بطون أمهاتهم بدم بارد !
زادت حماسة جابر الشرقاوى، وبدأت أوراقه تمتلئ بالحبر وكاميرته الديجيتال تضوى بانفعال، وتلتقط كل تعابير وإشارات الرجل وايماءاته وخلجاته فى لحظه نادرة، وحديث شيق مبطن بقضية فى منتهى الإثارة والغرابة .
هتف عبد الناصر بعد أن رفع حاجبيه لأعلى وقطب جبينه :
- يا الله .. الحياة لاتخلو من الإثارة، وماذا بعد يا عم عبد الحميد ؟! وضح أكثر كى نفهم .
تبسم الرجل وقال بنبرة شجن :
- أقول لكم أن قضيتى تتلخص فى أن الأرض التى دفن فيها " شارون " فى مزرعة قرب الحدود مع غزة " ملك آبائى وأجدادى " .. أنا ياسادة الوريث الوحيد لتلك الأرض محل المزرعة .. تلك الأرض المحتلة التى جعلها شارون فى حياته مزرعة للعجول والمواشى الهولندية، وأشجار الفاكهة الاسرائيلية المهجنة سبق وإشترتها عائلتى " السنارى " بمستند رسمى مازال معى حتى اليوم، ويثبت ملكيتى لها وأحقيتى فيها .
قال عبد الناصر :
- السنارى .. إسم غريب لعائلة مصرية لم أسمع به من قبل ؟!
قال عبد الحميد حسونة السنارى :
- الواقع أن هناك روايات مختلفة حول أصل عائلة " السنارى " فهناك رواية تقول أن جدى السنارى الذى قدم إلى سيناء مع رجل يدعى " الوحيدى " من ذرية الحسن بن على رضى الله عنهما، وأقامت عائلة " الوحيدى " زمنا فى سيناء، وما لبثوا أن هجروها وسكنوا غزة، وهناك رواية أخرى حول أصل " السنارى " تقول بأن جدهم كان يدعى " عطية " من قبيلة قريش بأرض الحجاز، وكان مستقراً فى منطقة تسمى " سنار " قرب فلسطين، وهذا هو سبب تسميتهم بعائلة " السنارى " ويقال أن جدهم عطية التقى بفتاة نصرانية أو حسب رواية أخرى سائحة إنجليزية تدعى " صلدم " كانت تائهة فى تلك المنطقة فأعجب بجمالها، وما لبث أن وقع فى غرامها وتزوجها، وهناك من يقول أن " صلدم " اسم لرجل وليس لامرأة أو قبيلة، وهو إنجليزى أسلم فى خلافة عمر بن الخطاب ثم إقترف خيانة فغضب عليه الخليفة، فقرر الهرب ثم عفا عنه الخليفة عمر بن الخطاب وأرسل من يستدعيه لكن الموت كان أسبق فوجده قد توفى !
على كل الأحوال هذه الروايات فى مجملها لا تعدو أن تكون ضرباً من الأساطير حاول صائغوها اضفاء نوع من الغموض والإثارة حول أصول هذه القبيلة من أجل إكسابها جذوراً ضاربة فى أعماق التاريخ .. ولكن الحقيقة الراسخة أن هذه القبيلة كانت موجودة على أرض سيناء منذ بدايات العصر الإسلامى .. أى فى القرن الهجرى الأول، وأيا ما كان الأمر فقد جاء " عطية " جد السنارية إلى سيناء حسبما يظن السنارية أنفسهم منذ 600 سنة تقريباً .
وقبر " عطية " مازال محجاً لبدو سيناء حتى اليوم، وكان لعطية خمسة أولاد من الذكور تزوجوا وأنجبوا، وتواصلت ذريتهم وصاروا من أكثر القبائل عدداً ويقال لهم أحياناً " عيال صلدم " حينما يراد تشجيعهم، وحثهم على استنفار همتهم وإظهار قوتهم .
تساءل عبد الناصر :
- لكن يا عم عبد الحميد .. كيف تكون أرضك فى فلسطين المحتلة، وأنت مواطن مصرى ولست فلسطينيا ؟!
- أنا يا محترم من أبناء العريش قبل أن أنتقل إلى هنا فى سانت كاترين .. وأنا من رعايا جمهورية مصر العربية، وتعود ملكيتنا للأرض التى أصبحت مقراً لمزرعة شارون، وهو حى ثم مقبرته بعد موته إلى عام 1920 .
قال مسعد :
- كيف حدث ذلك يا عم عبد الحميد ؟! ولماذا سكتم كل هذه السنوات ؟!
هز الرجل رأسه وقال :
- معك حق يا ولدى فى هذا السؤال .. لكن " إذا عرف السبب بطل العجب " كما يقول المثل العربى القديم ..
عندما إشترى أجدادى الذين كانوا يقيمون فى مدينة " بئر سبع " الفلسطينية، ولهم أملاك هناك أرضاً على مساحة 25 ألف دونم ( الدونم ألف متر مربع ) بتلك المنطقة ومسجلة رسمياً، وذلك عندما كانت الأرض فلسطينية خالصة قبل إحتلالها، وكان معهم المستندات التى تثبت الملكية، والموجودة فى دائرة أملاك الغائبين بمدينة بئر سبع، وهى عبارة عن محلات وأراضى بناء ومزارع .. سكت عم عبد الحميد السنارى هنيهة ولاذ بالصمت ليبحث فى ذاكرته العجوز عن التفاصيل البعيدة .
وعام النكبة 1948 أصبح الإحتلال الإسرائيلى لأرض أجدادى واقع أليم لا مجال لتغييره أو تبديله .. فى تلك الأثناء لم يكن أمام أبائى وأجدادى إلا الرحيل عن أرض الزيتون .. إختاروا وجهتهم صوب مدينة رفح المصرية، ومنها إرتحلوا مرة أخرى إلى العريش، وبقيت الأرض تحت أيدى الإسرائيليين وأقدامهم، وبقيت مستندات الملكية الموثقة تحت يدى !
مفارقة غريبة .. أليس كذلك ؟!
قال عبد الناصر :
- ومن أين تأتى أصولك المصرية ؟!
- يعود موطن عائلتى الأصلى إلى منطقة طنطا بمحافظة الغربية بدلتا النيل.
- ومتى استقر شارون فى أرضك ؟!
- فى البداية وفى عز عنفوانه وجبروته جعلها مزرعة ومرتعا له ولحيواناته، وفى النهاية جعلوها مقبرة له ومثواه الأخير ! فى عام 2006 رحل شارون عن عالمنا عن عمر يناهز 85 عاماً بعد 8 سنوات من دخوله فى غيبوبة نتيجة سكتة دماغية ضربت كيانه .
سكت عم عبد الحميد السنارى وتكلم مسعد :
- يبدو أنها لعنة الأمهات الثكالى والاطفال اليتامى، والزوجات الأرامل دعواتهم أصابت السفاح فى مقتل .
قال عم عبد الحميد بنبرة طيبة :
- اللهم لا شماتة .. عاش سفاحاً ومات إكلينيكياً .
تساءل عبد الناصر مستنكراً ومواسياً :
- لكن لماذا دفنوه فى مزرعة عائلته ـ أقصد أرض عائلتك ياعم عبد الحميد ـ فى منطقة النقب ولم يدفنوه فى المقبرة التى يطلقون عليها مقبرة العظماء فى تل أبيب ؟!
تبسم عم عبد الحميد قائلاً :
- هذا الرجل مزعج حياً وميتاً .. لقد رفض يا ولدى أن يدفنوه مع قادة اسرائيل فى مقبرة العظماء، وكانت وصيته الأخيرة أن يدفن فى أرضى، وضع يده عليها وهو حى ورقد بكل جسده الديناصورى فيها وهو ميت !
ضحك عبد الناصر قائلاً بسخرية :
- هل كان يقصد مثلاً أن يغيظك يا عم عبد الحميد بعد موته ؟!
قال عم عبد الحميد بتلقائية :
لا .. لا .. لا هو يعرفنى ولا أنا التقيته فى يوم من الأيام، كل الحكاية أنه يا سيدى كان يعشق زوجته التى تدعى " لى لى " وسبقته إلى الرفيق الأعلى بحوالى 13 عاماً، ودفنها فى أرضنا التى يقول عنها مزرعته بصحراء النقب القريبة من الحدود المصرية، وأوصى أن يدفن إلى جوارها وفاءً لها، وعرفاناً بحبها وإخلاصاً لما كان بينهما، ورفض الدفن فى مقبرة عظماء إسرائيل فى تل أبيب، والتى تضم رفات رؤساء ووزراء الدولة العبرية، ومؤسسيها وأشهر الشخصيات اليهودية فى تاريخها !
ما زلت أذكر مشهد رحلته الأخيرة - عبر التلفاز- فقد سار الموكب الجنائزى الذى تقدمته سيارات عسكرية، بينها سيارة " جيب " سوداء بزجاج لامع، حملت " التابوت "، وبداخله جثمان شارون من مقر الكنيست فى القدس، مروراً بشمال المدينة، ومن هناك إلى أرضى، وأرض أبائى وأجدادى حيث دفن بجوار " لى لى " فى منطقة تسمى " تلة شقائق النعمان " وهى منطقة منبسطة بين واديين، تحيطها أشجار الليمون والزيتون وأشجار التوت .
دهش مسعد وبهت عبد الناصر الذى صرخ :
- أحقاً .. شارون كان يعرف الحب ؟!
قال مسعد مستغربا :
- وهل هذا الوحش كان له قلب بين ضلوعه ينبض من الأصل ؟!
تنهد عم عبد الحميد السنارى وقال :
- كان يرتدى قفاز العاشق مع زوجته، ويرى نفسه روميو، وعاش معها 37 عاماً من الغرام والحب الرومانسى، وعندما رحلت عن العالم بكاها كطفل ضخم برئ وبنى لها قبراً رخامياً خاصاً فى أرضنا، وها هو رقد إلى جوارها للأبد !
لاذوا جميعاً بالصمت وطغى الشرود على نظراتهم ولم يعلقوا !
لا أصوات .. سوى حفيف القلم على أوراق جابر الشرقاوى تسجل الحكاية العجيبة والرياح تزأر من بعيد، وتشاغل عم عبد الحميد بإعداد دور آخر من الشاى بالنعناع لضيوفه .
ثم قال لهم :
- سأحكى لكم حدوتة يهودية ونحن نشرب الشاى معاً، سمعتها من جدى وهو يتحسر على أرضه .. قال لى : " بينما كانت الجدة راشيل تجلس على مقعدها الهزاز فى شرفة قصرها المطل على المحيط الأطلسى تطعم حفيدها الصغير شارون التمر الخليجى المحشو بالفستق اللبنانى قال لها حفيدها .. إحكى لى يا جدتى قصة، ولكن قبلها أريد أن أستفسر عن هؤلاء العبيد الذين نسخرهم للعمل فى قصورنا أو مزارعنا ويباعون ويشترون كأى سلعة، ولماذا يرتدون هذه الملابس الفضفاضة، ويضعون على رؤوسهم هذه الأغطية سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً برغم أنهم جميعاً يتكلمون لغتنا العبرية ويدينون بديانتنا اليهودية، وإن كنتم تخصصون لهم معابد منفصلة أقل فى المستوى من معابدنا، وبرغم أنك تذكرين أن منهم من كان أباؤهم وأجدادهم ملوكاً وأمراء ورؤساء دول مثل حسن وجرجس اللذان يعملان بمزرعتنا وحمد وجاسم اللذان يعملان بمزرعة خالى زائييف بالخليج ؟!
قالت الجدة :
- إذن ستكون إجابتى على إستفسارك هى قصتنا اليوم قبل النوم .. واصطحبته إلى سريره الوثير، وبعد أن وضعت عليه الغطاء المصنوع من الحرير الدمشقى والمحشو بالقطن المصرى أخذت تحكى .. منذ قرابة خمسين عاما كانت دولتنا هذه الممتدة من المحيط إلى الخليج يعيش عليها مجموعة شعوب من أصل واحد، ويتكلمون لغة واحدة ويدينون بالإسلام أوالمسيحية، وكانوا فى يوم من الأيام دولة واحدة ذات حضارة وتقدم، ولكنهم تحولوا مع مرور الزمن إلى دول متفرقة لكل دولة ملك أو أمير أو رئيس، كانت لديهم ثروات لو استخدموها فى حصارنا اقتصاديا لجعنا .. وكانت لديهم إمكانات بشرية ضخمة لو زحفت علينا لإختنقنا، وكانت لديهم جيوش جرارة متناثرة لووحدوها لانكسرنا .. لكن لأنهم من جنس متخلف دون جنسنا السامى بمراحل حتى أننا كنا ننعتهم بالحيوانات، فقد انشغلت دولهم فى منازعات وخلافات بين بعضهم، وفى كثير من هذه الدول إشتدت الصراعات الداخلية على السلطة، ومن لم يشتركوا فى الصراع على السلطة، اتجهوا إلى اكتناز الأموال بكل الطرق المشروعة وغير االمشروعة، ودفعوا بها إلى البنوك والمشروعات فى أوروبا وأمريكا حيث تكون الملاذ لهم بعد هروبهم من بلادهم، وليكونوا بجوار كباريهات اللهو وكازينوهات القمار، وتحولت الجيوش فى كثير منها لتصبح أداة لحماية الحاكم لا لحماية الدولة والشعب من بطش الحاكم وعبثه، وأهملوا البحث العلمى والأخذ بأسباب التقدم والإنتاج مفضلين إنفاق الثروات الطبيعية التى وهبها لهم الخالق على المتع والاستهلاك الترفى إلى حد استيراد الجيوش الأجنبية لحماية بعض الإمارات النفطية العربية، وعم الفساد والرشوة فى أغلب أجهزتهم الادارية، وكان إذا سرق أوأفسد فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق أو أفسد فيهم الفقير أقاموا عليه الحد، فانحطت أحوالهم وانهارت أخلاقهم وضعف الإيمان بينهم، وكانت هذه فرصتنا لنتحول من نقطة حضارة صغيرة زرعها أصدقاؤنا الانجليزمن خلال الرجل العظيم بلفور ووعده الشهير، فى وسط هذه الغابة من المتخلفين العرب لنعلو فوقهم، ونسيطر عليهم فأخذنا فى جمع العلماء فى مختلف العلوم من جميع أنحاء العالم، ويسرنا لهم كل السبل للإكتشاف والإبداع، وركزنا فى قواتنا المسلحة على الكيف وليس الكم فإمتلكنا الأسلحة النووية والبيولوجية، واستعانت كثير من الدول فى هذه المنطقة المقامة عليها دولتنا بعلمائنا وخبرائنا فى الزراعة والصناعة والتجارة، وأقاموا علاقات معنا إما علانية نوإما سرا برغم أننا كنا نعمل على إبادتهم وتدمير مدنهم وانتهاك مقدساتهم .. ولأنهم كانوا أغبياء متخلفين فلم يواجهوا ما نفعله بهم إلا بتصريحات الشجب والاستنكار، أو عقد مؤتمرات جوفاء أو باستجداء عطف الولايات المتحدة الأمريكية مع علمهم بأننا الذين نحكم الولايات الأمريكية، أويطلبون حماية الأمم المتحدة برغم معرفتهم بأن الولايات الامريكية هى التى تحكم الأمم المتحدة، وبالتالى فنحن الذين نحكم الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولا يصدر من قراراتهما إلا ما يوافق هوانا، وما يتفق مع مصالحنا، وجبن هؤلاء المتخلفين عن أن يستجيبوا لأياد كانت تحاول أن تمتد لتتكاتف معهم كروسيا وكوريا والصين، ولو فعلوا لكان من الممكن أن تتغير أمور كثيرة .
ولأننا شعرنا بأن العرب استطابوا الذل والهوان حتى سرى فى أجسادهم مسرى المخدر فى الدماء فقد إنطلقنا فيهم قتلا وتنكيلاً، وتوغلنا فى كل دولهم وإستولينا عليها الواحدة تلو الأخرى، ووحدناها فى دولة عظمى واحدة، ومن بقى من شعوبهم احتفظنا بهم للعمل فى مزارعنا وقصورنا فى الأعمال الحقيرة وأجبرناهم على إعتناق الديانة اليهودية حتى لا يكون فى دولتنا من لا يدين بغيرها، وحولنا مساجدهم وكنائسهم إلى معابد يهودية ولكن لأنهم أصلا ليسوا من جنسنا السامى بل من جنس متخلف، وحتى لا يختلطوا بجنسنا فإنه مفروض عليهم الإحتفاظ بالأسماء العربية سواء إسلامية كانت أو مسيحية، ومحظور عليهم عدم إرتداء أى زى خلاف الزى العربى القديم ليصبح هناك تمييزا بين الأحرار والعبيد فى دولتنا العظمى، عند ذلك كان الحفيد شارون قد غلبه النوم فقبلته الجدة راشيل على جبينه، وانصرفت إلى فراشها تأوى إليه ..














مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة